حفظ النائب العام التحقيق في البلاغ الخاص بعملية بيع محلات عمر افندي والذي قدمه واحد من أعضاء لجنة الخصخصة علي أساس أن الثمن المقترح للبيع لا يتناسب مع الثمن المقدر مسبقا وبفارق كبير مما يوحي بوجود شبهة للتصرف غير السليم في المال العام بل وقد ينطوي علي فساد مباشر. وبدون الدخول في الجوانب القانونية للموضوع، أو حتي التعرض لجوانبه الاقتصادية، فإن ما جري كان مجسدا لأزمة القطاع العام من أولها إلي آخرها، وعاكسا لجوهر الصراع السياسي السائد في مجتمعنا بين فكر يقوم علي الحرية الاقتصادية _ مع الأمل في الحرية السياسية أيضا _ وفكر قائم علي تحكم الدولة في الاقتصاد والسياسة أيضا، ويري في كل تحرك نحو اقتصاد السوق نوعا من بيع لمصر ومساومة علي مقدراتها الاقتصادية، وكل تحرك نحو الحرية السياسية اقترابا من الفوضي. ولقد سبق أن تعرضنا لهذا الصراع السياسي في مقال سابق، ولكن الجديد المقدم هنا فهو تأملات إضافية علي مسار التجربة، وعلي سبيل المثال فإن قليلا في الدولة والشعب يعلمون أن محلات عمر افندي لم تكن في الأصل مملوكة للدولة، وأنها كانت زهرة المحلات الاستهلاكية في البلاد حينما لم تكن الدولة قد تدخلت بعد في ملكية المؤسسات الإنتاجية والاستهلاكية من أول الحديد والصلب وحتي محلات " الشاورمة". ولا يعلم أحد المسار الذي قطعته هذه المحلات منذ تم " التأميم " وحتي الآن، فلم تكن القضية أنها تحولت إلي محلات خاسرة أو تكسب القليل للغاية بالنسبة لما لديها من مزايا تاريخية وجغرافية أيضا في أهم مواقع الأسواق في البلاد، ولكن قضيتها أنها باتت عاجزة تماما عن المنافسة حتي في سوق الشرائح الاجتماعية محدودة الدخل. والأخطر من ذلك هي طبقة الموظفين التي خلقتها السلسلة التي أوصلتها إلي الدرجة التي لم تعد فيها المسألة هي وجود منشأة اقتصادية تقوم بتشغيل الناس وإنما بات لدينا مجموعة من الموظفين الذين أصبح من الضروري وجود مظلة اقتصادية _ وليس منشأة _ تعتمد علي الدولة في استمرارها تعطيهم نوعا من العمل الاسمي أي المسجل في الدفاتر القانونية ولكنه ليس له قيمة اقتصادية تذكر. والحقيقة أن ذلك كان ولا يزال لب المشكلة الخاصة بالخلاف السياسي المصري حول القطاع العام أو بمعني أدق القطاع الحكومي الذي جرت عملية خصخصته لصالح البيروقراطية محدودة الخيال والقدرة بل والملاحظة والتقليد. فقد تطورت تجارة التجزئة في مصر تطورا كبيرا خلال الأعوام الماضية، وانتشرت في الربوع المصرية أسواقا و " مولات " كثيرة، وحتي ظهرت مجموعات من السلاسل الاستهلاكية المخصصة لمحدودي الدخل التي سرعان ما قدمت سلعا أكثر رخصا بكثير من " عمر افندي" وغيره من الأسواق الحكومية، وبينما كانت كلها تنجح وتحقق أرباحا وتعتمد علي نفسها في الانتشار، إذا بمحلات القطاع العام تخسر أو تحقق أرباحا محدودة لا تكفي في العادة لتغطية ديونها. ولكن أخطر ما تخسره هو موظفوها وعمالها حيث تنتشر بينهم ثقافة للعمل لا تنتمي لأي نوع من العمل علي الإطلاق تقوم علي التواكلية والتدين الزائف واحتقار المستهلك في آن واحد. ورغم أن كل ذلك معروف تماما في مصر كلها إلا أن الزوبعة التي قامت ولم تقعد علي محلات السيد عمر أفندي تشكل نموذجا لكل ما سوف يأتي بعد ذلك حينما يحل موعد خصخصة ما هو أكبر بكثير من أمثال البنوك وشركات التأمين ومحطات الطاقة والطيران. وما لم تتعلم الحكومة من الدرس فإنها سوف يكون عليها أن تخوض معركة تصل إلي النائب العام وبالتأكيد إلي الرأي العام في عملية استنزاف القصد منها وقف برنامج الخصخصة والإصلاح الاقتصادي كله. ولا يوجد هناك ما هو أفضل من الشفافية لكي تشرح للرأي العام الأمور كلها، ولكي أيضا تبقي المعرفة بما يجري. وعلي سبيل المثال فإن الحكومة قد وضعت نظاما محكما للخصخصة يتضمن تداخل ست مؤسسات للمشاركة في عملية التقييم والبيع، وللأسف فإن هذه العملية رغم تكرار الحديث عنها غير معروفة للرأي العام. ولذلك أقترح أن تقوم الحكومة بإعداد ملف أو مذكرة مبسطة توضح فيها مراحل وإجراءات البيع والهدف الاقتصادي منه. وفي كل مرة تجري فيها عملية البيع يجري توزيع ذلك علي نطاق واسع؛ ومعه يوضع كتاب أبيض يتضمن قائمة بالمؤسسات الاقتصادية العامة في مصر، وبرنامج خصخصتها أو إبقائها علي حالها بحيث تشكل مرجعا شاملا لجميع أجهزة الإعلام التي تملكها الحكومة ومع ذلك لم تجد فيها الحكومة نافذة تشرح منها موقفها المتعلق ببيع محلات السيد عمر افندي. وبصراحة كاملة فإن عملية الإصلاح الاقتصادي والخصخصة ليست عمليات فنية محضة تتعلق بحسن استخدام واستغلال المال العام ووضعه في خدمة التنمية في مصر، وإنما هي معركة سياسية في المقام الأول. وخلال العقود الماضية حدثت تربية للمواطنين تقوم علي الشك في كل ما تفعله الحكومة، ومع غياب المصداقية فإن ما هو خير يتحول بسهولة إلي شر مطلق، ومع تكرار اتهامات الشر المطلق تفقد الحكومة قوة الدفع ويشك فيها المستثمرون في الداخل والخارج وفي النهاية ندخل في حلقة جديدة من حلقات الركود لا أعادها الله ثانية. فما نحتاجه هو ممارسة للسياسة في ذات اللحظة التي نمارس فيها الاقتصاد !.