النداء الوارد في عنوان المقال موجه نحو الحكومة المصرية بقيادة الدكتور أحمد نظيف، وسببه أن المقياس الخاص بالأداء الاقتصادي للحكومة والذي يصدره المركز المصري للدراسات الاقتصادية قد أشار إلي تراجع الأداء خلال الستة شهور الماضية بعد أن كان متصاعدا إيجابيا خلال السنة السابقة علي ذلك، أي منذ بدأت الوزارة الأولي أعمالها في يوليو 2004 ولمن لا يعرف فإن المقياس يتم تركيبه من عدد من العناصر يكون بعضها له طبيعة إدراكية من حيث ما ينطبع في ذهن رجال الأعمال في الشركات المصرية عن الاقتصاد المصري، وعدد من العناصر الموضوعية المرتبطة بالخطط المستقبلية للتشغيل والتوسع في الإنتاج. ورغم أن الوزارة قد جري تدعيمها بعناصر واعدة في نهاية عام 2005 ، وهو ما لم يظهر في المقياس بعد في شكل إيجابي كما هو متوقع، إلا أن الشواهد الخارجية غير العلمية حتي الآن تشير إلي أن وزارة الدكتور نظيف قد فقدت روح المبادأة وأصبحت بشكل ما أسيرة تماما للأحداث والأزمات المتوالية حتي عادت إلي السيرة الأولي للوزارات المصرية والقائمة علي إدارة الكوارث بدلا من منعها أو استباق آثارها. ومن يتابع عمل وزارتي الدكتور أحمد نظيف الأولي والثانية سوف نجد أنها أخذت زمام المبادرة منذ البداية عندما طرحت سلسلة من الخطوات الإيجابية المتعلقة بالضرائب والجمارك والتسهيلات للمستثمرين؛ بل ولم تجد غضاضة إطلاقا في المضي قدما في مشروع المناطق الصناعية المؤهلة وخصخصة عدد من الشركات الهامة إلي آخر ما هو معروف من خطوات خلال النصف الثاني من 2004 وطوال عام 2005. وجاء عدد من خطوات الإصلاح السياسي واعدة في ذلك الوقت بدءا من تعديل المادة 76 من الدستور وحتي الانتخابات الرئاسية، وكلاهما أعطي دفعة من التفاؤل الاقتصادي _ والسياسي - انعكست علي البورصة المصرية وأسعار الأسهم. وكانت النتيجة مبشرة في كافة المؤشرات الاقتصادية الخاصة بالاقتصاد المصري شملت ارتفاع معدلات النمو وقوة الجنيه المصري وحجم الاحتياطي النقدي وعدد السائحين وانخفاض معدلات التضخم إلي آخر المؤشرات ما عدا البطالة التي ظلت عند مستويات عالية. ولكن الشهور القليلة الماضية شهدت نوعا من تراجع معدلات التفاؤل، وكان ذلك راجعا في بعض منه إلي أن سلسلة الإصلاحات السياسية بدت محبطة من ناحية، وأقل مما هو واجب من ناحية أخري. فما حدث من تجاوزات خلال الانتخابات الرئاسية سرعان ما تحول إلي فضائح خلال الانتخابات التشريعية خاصة خلال الجولة الثالثة من الانتخابات، وسرعان ما تبين أن النية الخاصة بالإصلاحات الدستورية تأخذ باتجاه محدود للغاية لا تقترب بأي معني من الثورة الدستورية التي تحتاجها البلاد ويتطلبها الإصلاح الاقتصادي الحقيقي. وفي واحدة من الإنجازات التي حققتها الحكومة وهي قبول الولاياتالمتحدة لفتح باب المفاوضات لإنشاء منطقة التجارة الحرة بين البلدين، فإن هذا الباب سرعان ما تم إغلاقه بسبب قضية الدكتور أيمن نور. وجاء تعليق الحكومة علي الموضوع بعيدا عن جوهره، وما قيل عن أن منطقة التجارة الحرة تحقق الفوائد للطرفين صحيح، ولكنه لا يوضح فارق الحاجة بين الطرفين لهذه الاتفاقية التي كانت سوف تزيد معدلات الثقة بالاقتصاد المصري إلي أسقف عالية في الأسواق العالمية، بالإضافة إلي المساهمة في تحقيق انطلاقات كبري في قطاعات اقتصادية حيوية مثل النسيج والصناعات الجلدية. ولم يكن مطلوبا من الوزارة في هذه الحالة أن تتجاوز القانون، أو تتغاضي عن الجوانب الجنائية في القضية، وإنما كان المطلوب سرعة تطبيق العدالة من خلال محكمة النقض لكي تحسم الموضوع في قضية تمس الأمن الاقتصادي المصري. كما كان التراجع في أداء الحكومة راجعا في بعضه الآخر إلي سلسلة من الأزمات المتلاحقة التي بدأت بأزمة الرسوم الدنمركية وما أدت إليه من عمليات احتجاج شكلت بدورها ضربة للسياحة المصرية، ثم تلتها أزمة العبارة التي بدت فيها الحكومة مرتبكة وغير فاعلة وواقعة تحت الشعور بمفاجأة لم يكن لها ما يبررها، حتي جاءت أزمة أنفلونزا الطيور التي خلقت هزة كبيرة لقطاع اقتصادي مهم ولم تكن المعالجة مقنعة. وفي الحال فقدت الحكومة المبادأة تماما، وبدلا من تحقيق مهمتها الأصلية الخاصة بزيادة معدل النمو الاقتصادي إذا بها تتجه نحو معالجة أزمات يومية تكون فيها التعويضات هي الأداة الرئيسة للمعالجة فتقدم التسهيلات والتعويضات للمصابين في السياحة والعبارة والدواجن. والحقيقة أن ما تحتاجه هو استعادة المبادأة مرة أخري، سواء كان ذلك في المجال الاقتصادي أو السياسي؛ صحيح أن الحكومة قبلت بما قبلت به الحكومات السابقة التي تهتم بالموضوعات الاقتصادية والاجتماعية وتترك الأمور السياسية والأمنية وحتي الإعلامية لجهات أخري، إلا أن هذا الفصل لم يعد ممكنا إذا ما كانت الحكومة تريد لنفسها نجاحا يعبر بالبلاد من واقعها الحالي إلي واقع أكثر إشراقا. وربما يحتاج الأمر إلي قدر ما من المصارحة بين أجهزة الدولة العليا فيما يخص العلاقة بين الاقتصاد والسياسة والأمن في زمن أصبحت فيه كل الأمور مترابطة ومتشابكة. وربما يحتاج الأمر إلي بعض الجرأة في التعبير عن النفس ورسم استراتيجية إعلامية تستطيع مواجهة الأزمة الدنمركية بحيث تنتصر لرسول الله صلي الله عليه وسلم دونما تدمير للمصالح الاقتصادية للبلاد؛ أما الاستسلام للغوغائية السياسية ومحاولة مجاراة جماعات تقوم سياستها علي الاحتقان المستمر للعلاقات مع الغرب فقد أدت إلي توجيه ضربة للسياحة المصرية لم تكن ضرورية علي الإطلاق. ولكن الأسلحة القوية التي تملكها الحكومة سوف تظل في المجال الاقتصادي، ومن ثم فإن برنامجا أكثر سرعة وشفافية للخصخصة ربما يعطي الرسالة المطلوبة في أن الإصلاح لا يزال مستمرا، وأن الحكومة لم تنتقل بعد إلي مجال نفاق الرأي العام ظالما أو مظلوما. ولكن الأهم من الخصخصة فهو الجرأة في إتباع السياسات التي تؤدي إلي تعظيم الكفاءة والإنتاجية، وربما تستفيد الحكومة من النقاش الجاري الآن في الولاياتالمتحدة حول استخدام شركة موانيء دبي العالمية لإدارة ستة موانيء استراتيجية هامة. وللعلم فإن هذه الشركة التي بدأت انطلاقها في عام 1999 من مقرها المحدود في ميناء دبي أصبحت تقدم خدمات رفيعة في عملية الشحن والتفريغ للحاويات والإمدادات وإدارة المناطق الحرة والمطارات في مواني كوسيدو (جمهورية الدومنيكان)، وبورتو كابيلو (فنزويلا)، وجيرميرشيم (ألمانيا)، و كونستانتا (رومانيا)، وطنجة (المغرب)، وجدة (السعودية)، وجيبوتي (جيبوتي)، والفجيرة (الإمارات)، ومواني كوشين وفلارابادم و فيزاخاباتهام (الهند)، وشانغهاي ويانتين وهونج كونج وتانجين ويانتاي (الصين)، وبورت كلانج (ماليزيا)، وبوسان (كوريا الجنوبية)، وأديليادو (أستراليا). فإذا كانت هذه الدول جميعا علي تقدمها ورفعتها تستعين بإدارة شركة إماراتية، فلماذا لا يكون ذلك مبدأ حاكما لنا أيضا؟ أعلم أن مثل هذه السياسات سوف تؤدي إلي صرخات عالية، ولكن ذلك هو جوهر القضية، فما لم يكن لدينا من السياسات الاقتصادية والاجتماعية تقوم علي ما توافقت عليه الدول المتقدمة فإن التقدم لن يحدث في مصر أبدا. وإذا لم تكن الحكومة قادرة علي القيام بذلك وإقناع الرأي العام به، فربما كان عليها في هذه الحالة تسليم الراية لمن يستطيع أو تعلن أنها مجرد امتداد لوزارات أخري سابقة كانت مهمتها إدارة اقتصاد متخلف وإطفاء الحرائق اليومية التي تواجهه !