من المؤكد ان اي عاقل متدبر، داخل السلطة في مصر، او خارجها، لن تفلت من مجال رصده وتأمله حقيقة نرجو ألا تكون مفزعة للمخلصين في هذا الوطن الحقيقة التي نتمني ألا تتجاوز نطاق المعقولية هي ان بعض الناس، داخل النظام، سعداء ومتعمدون اشعال المشكلات التي لا مبرر لها، علي الاطلاق، وهي مشكلات نراها خارج سياق الضرورة السياسية، كما نراها خارج سياق التبرير علي اي وجه. كل حكومات العالم تنأي بنفسها عن المتاعب والمصائب، تبتعد قدر الامكان عن اثارة مشاعر الجماهير، بل بالعكس تتجه هي بكل قدراتها وقراراتها نحو اسعاد الناس الذين اختاروها وجاءوا بها الي الحكم، حتي تحقق لهم الوعود السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وهذا كله معروف ومفهوم والاسهاب فيه يقتل المساحة والوقت معًا! فما الذي يفعله بعض الناس في النظام في مصر؟!.. انهم ببساطة، يعملون في الاتجاه المعاكس! قال الرئيس لا تزوير.. يقع تزوير! قال الرئيس لا حبس للصحفيين.. يحبس الصحفيون.. قال الرئيس اسعاد الناس.. يعيش الناس تعساء.. الرئيس يقول وهم لا يصمون آذانهم فقط.. بل يذهبون في اتجاه اخر. من اجل هذا، صار الناس يتابعون اجتماعات الرئيس بالحكومة للمتابعة والمراقبة، وصار الرئيس هو وحده الذي لابد ان يتابع كل صغيرة وكبيرة ، حتي يفي بوعده للجماهير التي اختارته اول رئيس منتخب في كل التاريخ الوطني المصري! ولقد وعد الرئيس بعدم حبس اي صحفي في قضايا الرأي والنشر، ويجيء هذا الوعد نتاجا منطقيا وطبيعيا لتفكير رجل فتح الابواب علي مصراعيها، امام حرية التعبير وحرية الاعلام، ارسالا واستقبالا، وأعلن عدة مرات انه لا يخاف من الرأي الاخر.. ان الرئيس مبارك لا يريد حبس الحقيقة عنه او عن اصحاب صنع القرار في مصر.. ومن اجل هذه الرؤية اعلن انه لن يحبس صحفي بسبب رأيه او ما ينشره في مجال الصحافة.. وليس هذا تفويضا من الرئيس للصحفيين باطلاق اقلامهم دون ادني رابط، فالحقيقة ان هذا الوعد الرئاسي تكليف لنا وليس تسهيلا، بالخوض في الاعراض ونشر الاكاذيب واتهام الناس بلا ادلة. وفي العامين الاخيرين، ومنذ وعدنا الرئيس بعدم الحبس، وتوالت الاحكام بالحبس ، بل زادت معدلات رفع القضايا من الوزراء ضد الصحفيين، فيما يبدو ان هناك حالة ترصد وتحفز غير مبررة بين سلطتين دستوريتين: سلطة الصحافة وسلطة الحكومة. ان حبس الزميل عبد الناصر الزهيري في القضية التي اقامها وزير الاسكان السابق هو استمرار للرؤية السابقة علي وعد الرئيس، ولا شك ان تأجيل عرض مشروع القانون الذي يحظر حبس الصحفيين علي البرلمان معناه ان جهات لا تريد عرض مشروع القانون بل تريد استمرار شل ايدي واقلام الصحفيين، حتي يظلوا عرضة للحبس وللغرامة وللتشريد المهني. ان حرية الصحافة هي قمة التعبير عن نظام حر، والصحافة السجينة هي انعكاس لنظام سجين، يري في القمع ويري في الاستبداد ضمانات لاستمراره، ونحن نري ان النظام المصري تجاوز رؤية المشرع البرلماني، وتجاوز رؤية فلاسفة التأجيل والتسكع داخل الحزب الوطني، وتجاوز مشاعر الخوف التقليدية لدي ورثة الظلام من عهود سالفة. ان تحرير الصحافة من اشباح السجون هو تحرير لنظام من السقوط في حفر النفاق وتضارب القرارات وغياب المعلومات وتضليل صانع القرار. ان الصحافة الحرة تعني ان النظام اقوي من صانعي الفساد والاخطاء والخطايا.. وكل ما نرجوه ان يبادر الرئيس من جديد الي تحريك الحكومة والحزب الوطني الذي اختارها الي طرح مشروع القانون امام مجلس الشعب في اقرب فرصة، بدلا من قيام بعض الكبار باستفزاز مشاعر واقلام الصحفيين. ليس علي رأس الصحافة ريشة.. بل علي رأسها تاج!! انه ذات التاج الذي يزهو به النظام في مواجهة العالم الخارجي: تاج الحرية والاحترام. وإذا اختارت الحكومة ان تكسر هذا التاج عن خط دفاعها العقلي والوجداني في صفوف الشعب، وفي صفوف العالم معًا، فإنها تكون قد ارتكبت حماقة في صميم فهمها لدورها الوطني.. كما أن المشكلة الأبعد من ذلك كله، ليس فقط حماية الصحفي من الخوف وتحريره من محاذير التربص والتحفز من أية جهة كانت.. بل ايضا نزع مشاعر العداء سابقة التجهيز لدي الناس تجاه الصحافة.. إن الناس لا يستطيعون الحياة بدون جريدة يومية او اسبوعية.. التليفزيون يمتعهم ويقضي علي وقتهم وينير طريقهم.. لكن تبقي الكلمة المكتوبة التي أقسم بها الله في كتابه الكريم سيدة التأثير بلا منازع.. والمرء يتوقع ان يتم نزع هذه المشاعر عن طريق واحد ليس هناك غيره وهو ألا تصبح الكلمة المكتوبة صراخا في العراء.. وألا يصير الصحفي مجرد قلم يكتب وأن تلقي كتاباته مصير القمامة. إن مبادرة الحكومة الي الرد السريع العملي علي ما ينشر في الجرائد هو احترام لدورها ولصاحبة الجلالة وللدستور وللشعب معا.. وليس منطقيا ان تصدر الصحف لتحدث نفسها.. كما انه ليس من المنطقي ان يحبس الصحفي لانه قال رأيه بمنتهي الحب وحسن النية ولأجل الصالح العام. إن أعداء حرية الصحافة.. هم أعداء الصالح العام للوطن.