عندما كنت صغيرة، وقبل بلوغي سن العشرين، وقبل سفري الي خارج البلاد في سن الثانية والعشرين، كان العالم صغيرا آمنا، والكوارث بعيدة، والحياة هادئة، والمياه نظيفة، وكل البشر طيبون مسالمون. لعله عالم مازال يعيشه اليوم البسطاء من الناس في قراهم الصغيرة، وفي حياتهم الخالية من الزيف. لعله نفس العالم الجميل الذي يعيشه الأطفال الصغار قبل أن يتعرضوا لتأثير الفضائيات وشبكات الاتصال. ولكن لم يعد العالم الذي عشته في مطلع شبابي، والذي يعيشه الآمنون يمثل الواقع، وانما أصبح الواقع مليئا بالأزمات والكوارث والصراعات، والتشابكات. كان العالم الذي عشته عالم مليء بالأحلام، أحلام ترسم المستقبل أفضل من الحاضر، وتبعث الدفء والطمأنينة والحماس لكل ماهو جميل ومشرق، ومصر هي أغلي اسم في الوجود والوجدان. ولكن بسطاء اليوم انعزلوا عن الزمان، وعن الأحلام، ويريدون فقط أن يعيشوا في سلام. ولكن تأبي الظروف أن تحقق لهم الحياة البسيطة. فلا تكفهم مشقة الحياة، وكفاح الأيام لتوفير لقمة عيش حلال، وللبحث عن وظيقة تقيم الأود، أو تساعد علي بناء اسرة، ولكن تجيء لهم الأيام بأنفلونزا من شرق الأرض، وكأن الطبيعة تتضامن مع الإنسان في نشر "عولمة الأمراض" ، فلا تترك مكانا الا وأصابته. كانت ارهاصات الرياح المتربة التي سبقت الخبر السييء ايذانا بعصف أنفلونزا الطيور علي مصر، والخوف الذي استشري بين النفوس خوفا من المرض، وخوفا من الإفلاس. ان ما حدث يعتبر ضربة قاصمة للاقتصاد المصري، دون أن يكون هناك أحد مدان. ولكن ماذا عن اثنين مليون من العمال الذي ارتبطت حياتهم وكسبهم بهذه الصناعة بصورة مباشرة وغير مباشرة، وماذا عن الأسرة المصرية البسيطة التي كانت تعتمد علي تربية عدد من الدواجن كنظام اقتصادي توفر به أدني متطلبات أفراد الأسرة من البروتين الرخيص سواء في البيض أو في الطير. قالت لي فتاة من الصعيد تعمل في منزل الأسرة أن اختها قد ذبحت كل ما عندها من طيور، وضحكت وهي تقول وهذا سيجعلها تتمتع هي واسرتها بأكل طيب لمدة أسبوعين، ولكن ما الذي سيحدث بعد هذا؟ سيعيشون علي ذكريات تربية الطيور. ستكون هناك فترة حتي تطمئن النفوس أن كل شيء علي مايرام، ولكن هل سيعود الحال كما كان؟ وأدهشني تعليق أحد الشباب، وكان تعليقا ذكيا للغاية اذ قال،"انني لا أخشي من انفلونزا الطيور علي صحتي، ولا اخشي أكل الدواجن الآن في عز هذه الأزمة، ولكنني سأخشي من أكل هذه الدواجن بعد زوال الأزمة"، وفغرت فاها لا أفهم ما يقول، ولكنه استمر في الحديث: "نعم سيكون هناك متضررون من انخفاض أسعار الدواجن، وعدم الاقبال علي الشراء، ولهذا قد يلجأ أصحاب المزارع الي استخدام الهرمونات والعلف الحيواني من مخلفات الذبح، وذلك حتي يوفروا من أثمان الأعلاف من ناحية، وحتي يسرعوا بنمو الدجاجة ويعوضوا خسائرهم، وتكون النهاية هي أنني آكل دواجن مضرة علي صحتي دون أن أدري". ووجدت نفسي أتساءل هل من مراقبة صحية علي مزارع الدواجن، وهل هذه المراقبة فاعلة، وهل هناك رؤية واضحة لما ينبغي تجنبه من أدوية أو هرمونات أو خلافه لما له من أثر ضار علي صحة الانسان؟ واستمر السؤال ماذا بعد؟ يلح علي فكري وفكر الكثيرين، فها هي سيدة لم تعتد طوال عمرها أن تأكل الدواجن المجمدة تتساءل عما يمكن أن يحدث بعد زوال هذه الأزمة هذا العام، هل سيستمر تجار الدواجن في شراء الدجاج والطيور المجمدة من المجازر، وهل سيتوقفون تماما عن تربية الطيور أو شرائها حية من المزارع وتسمينها وبيعها لضمان ربح معقول؟ وتقول هذه السيدة أنها لن تأكل هذه الدواجن المجمدة بأي حال. كم سيدة مثلها سيمتنعون عن شراء هذه الدواجن؟ أم سيضطر المستهلك لتغيير اختياراته والخضوع للواقع. ان هذه الأزمة التي تمر بنا انما تكشف جوانب أخري من عدم الاستعداد، ولا أريد أن أكون قاسية علي أحد، ولكن هموم المواطن المصري البسيط لا تشغل الكثيرين من واضعي السياسات. ان هذا الصحفي الذي أدانته المحكمة هو وزملاؤه لأنهم تطاولوا علي وزير الاسكان السابق هو مواطن بسيط، لا يملك الا القلم، ولا يتطلع الا الي أن يكون عنصرا عاملا فاعلا في بلاده، ولكن ها هو يحرم حقه في التعبير. ولو أن الصحافة المستقلة لم تثر هذه القضية وتدافع عنها، فقد يتواري الزهيري وغيره عن الأنظار دون أدني ملاحظة أو اهتمام. والاستهانة بالبسطاء تنتشر في كل مجال، ويكفي أن نلقي نظرة علي الطريق، لنجد الشارع قد انتابته الفوضي، ولم يعد هناك رصيف يسير عليه المارة، ولا أنفاق تقيهم شر الحوادث في الطرق السريعة. المشاة ليس لهم وزن علي الاطلاق، وانما الاهتمام الأول هو بأصحاب السيارات. أقول قولي هذا والأحداث تسير سراعا من حولنا، بين انتهاكات اسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، من ناحية، وبين زيارة السيدة كونداليزا رايس في محاولة أمريكية لفض التضامن العربي حول حماس من ناحية أخري، وايجاد سبيل لاجهاض الحكومة التي تؤلفها حماس قبل أن تولد، وبين ما يحدث في العراق الآن من نذير بحرب طائفية، البلد في غني عنها. ولقد سألتني صديقة هندية يوما لماذا لا تنهض هذه المنطقة الشرق أوسطية، أو هذه المجموعة الهامة من البلاد العربية وأنتم تملكون ثروات قد لا يتمتع بها الكثيرون، وتمتلكون قدرا من الثقافة المشتركة والتاريخ المشترك، واللغة المشتركة. والاجابة البسيطة التي تدور في ذهني الآن والتي أعتقد أنها في حاجة الي تفكير عميق، هو أننا لا نهتم بالبسطاء، ولا ننمي أنفسنا من القاع، ولكن يهمنا فقط أن تكون قمة الهرم لا معة، وأما القاعدة فهي هشة، ولذا فسرعان ما يهوي البناء.