خلال العام الماضي، وطوال الموسم السياسي الطويل الذي تضمن تعديلات دستورية وانتخابات رئاسية وتشريعية، طرحت بعضا من الأفكار الصغيرة التي تؤثر في عملية التحول الديمقراطي والتي لا تكلف كثيرا من الجهد السياسي، ولا الثمن الاقتصادي. وبعد مرافعات ومقالات فازت واحدة من الأفكار، وهي الخاصة بالصناديق الانتخابية الزجاجية، بالتطبيق، وكانت واحدة من الإنجازات الكبري للموسم السياسي السابق. صحيح أن كثيرا من الأفكار الأخري مثل توفير مقعد لكل نائب في مجلس الشعب، وقدرة علي التصويت المباشر دون رفع الأيدي، لم تزل بعيدة عن التطبيق بل انها لم تلق حماسا يذكر من الدكتور فتحي سرور، إلا أن ذلك لن يمنعنا من استمرار التفكير، والنقل عن التجارب الأخري في العالم لعلنا نصبح بعد عمر ليس طويلا جدا أن نكون جزءا من الدنيا الديموقراطية المعاصرة. وهذه المرة فإن الفكرة الصغيرة سوف تكون من نصيب وزارة الدكتور أحمد نظيف التي يمكن اعتبارها من وزارات الإنجاز في مصر، ومن يراجع أحوالنا الاقتصادية خلال الفترة من 1999 إلي 2004 سوف يعلم حجم الإنجاز الذي حدث خلال العام والنصف منذ تولي الدكتور نظيف الوزارة لأول مرة. وليس سرا علي أحد أنني من المؤيدين لوجود رجال الأعمال في الحكومة بنفس الشروط التي توفر تواجدهم في البلاد الرأسمالية المحترمة؛ كما أنه ليس سرا أنني من المؤيدين لتحويل مصر إلي دولة رأسمالية ذات اقتصاد سوق يتوافق مع أحوال الرأسمالية واقتصاديات السوق مع بدايات القرن الواحد والعشرين. ولذلك فإنني من المؤيدين لسعي الحكومة لكي يكون الاقتصاد المصري خاضعا للمعايير العالمية فيما يخص الاقتصاد الكلي، وباحثا عن الأفكار الجديدة التي تحمي الفقراء من خلال إعطائهم قدرة أكبر علي الاختيار واستخدام الموارد التي تتيحها الدولة. علي أية حال فإن الحديث عن الإصلاح الاقتصادي يطول، وربما نعود له في وقت آخر عندما نناقش برنامج الحكومة خلال الأعوام المقبلة. ولكنه ليس سرا علي أحد أن الحكومة الإصلاحية تحتاج دوما إلي التأييد السياسي اللازم لمضيها في برامجها، واليوم يسود الإدراك أن تراجع التأييد للحزب الوطني الديمقراطي يرجع إلي أن الجماهير لم تحس بعد بنتائج الإصلاح، وقال بذلك الدكتور نظيف كما قال به السيد جمال مبارك. وبذلك تصبح القضية كيف يحس الشعب المصري بالإنجازات الاقتصادية غير أن يضاف قدر من الأموال ربما لا يكون كثيرا إلي مرتبه الشهري؟. وهنا تحضرني قصة قد تكون مفيدة، فمن بين وزراء كثر خلال عقد الثمانينيات كان وزير الداخلية أحمد رشدي من أكثر من حازوا علي الشعبية والحب وهي حالة نادرة في العموم بين وزراء الداخلية. وكان سبب هذه الحالة أن السيد أحمد رشدي قام بحالة فريدة وهي العمل علي تحقيق الانضباط لشوارع القاهرة، فحدث ما لم يحدث لا من قبل ولا من بعد، فكانت السيارات ويا للمفاجأة تقف في إشارات المرور إذا ما جاء اللون الأحمر وإذا ما أتي اللون الأخضر تمشي، وكان الناس _ ويا للهول _ تعبر من أماكن عبور المشاة. ولشهور قليلة عاشت القاهرة في حالة ملحوظة من الانتظام والتقدم والفخر بالإنجاز القومي لم تقل أبدا عن فوز الفريق القومي المصري لكرة القدم علي فريق ساحل العاج. وعلي أي الأحوال لقد انتهت تجربة السيد أحمد رشدي بعد فترة قصيرة بسبب أحداث الأمن المركزي، ولأن وزراء الداخلية اللاحقين وجدوا أن هناك مهاما أخري لرجال الأمن أكثر أهمية من تنظيم مرور شوارع القاهرة التي ربما كانت فوضتها الضاربة من العناصر الجاذبة للسياحة باعتبارها حالة فريدة بين عواصم العالم كلها مثلها تماما مثل أهرامات الجيزة الشهيرة. ومع ذلك يظل جوهر الفكرة قائما، وهو أن الإنجاز الملموس والذي يشاهده الناس بلا لبس أو تأويل يحقق معجزات سياسية عظمي قد ترفع عن وزارة الدكتور نظيف الكثير من السخافات الصحفية والإعلامية التي تطالبه بتحقيق المعجزات قبل ظهور أول ضوء صباح الغد. وهنا تأتي فكرتنا ببساطة وتقوم علي نظافة مصر، وإذا كانت الحٍالة التي تخص مصر كلها صعبة فلتكن البداية هي القاهرة لأنها عاصمة البلاد، وربما أيضا لأنني أعيش فيها شخصيا مع 16 مليونا من المصريين الذين يحق لهم العيش في مدينة نظيفة. ما أطلبه ليس مشروعا تنمويا طويل الأجل يتم تنفيذه من خلال الخطط الخمسية المتتابعة والتي تجعل حالة النظافة في مصر تتحسن سنويا بنسبة 5.2% المحترمة في معدلات النمو، ولا حتي مضاعفة هذا الرقم، فما نحتاجه هو أمر أكبر بكثير وهو أن تكون القاهرة مدينة نظيفة بقدر نظافة نيودلهي وبكين وطهران والقدس ورام الله وبيروت وتونس والرباط ولن نقول طوكيو وسنغافورة وجنيف ولندن وباريس. وفي هذه الحالة، وكما يجب أن يكون في حالات كثيرة، علينا أن نبدأ من النهاية، وهي أن تكون القاهرة مدينة نظيفة بشكل كامل من التلوث والقمامة والقاذورات والأتربة، ثم نبحث عما الذي يتطلبه أن تكون القاهرة مدينة كاملة النظافة ونسعي إلي توفيره فورا وبما يكفي من موارد بشرية ومادية. أعرف أن المطلوب ليس سهلا، تماما كما كانت حكاية الصناديق الزجاجية صعبة للغاية، وأعرف أن المسألة مكلفة، وربما لهذا السبب لم يفعل الدكتور فتحي سرور شيئا حتي الآن، ولكن المسألة اقتصادية من أولها لآخرها. وما علينا إلا أن نحسب تكلفة الأمراض الناجمة عن القذارة، وكم السياحة التي سوف تجذبها مدينة نظيفة، لوجدنا أن المسألة كلها ليست بهذه الصعوبة. وما حدث أنه كان هناك برنامجالنظافة القاهرة بالفعل قام علي الاستعانة بالشركات الأجنبية، وبقدر ما حدث تحسن ملحوظ في أحوال القاهرة، وانخفضت معدلات قذارتها، ولكن ذلك كان كافيا لحملة عظمي إعلامية وقانونية انتهت بأن حملت هذه الشركات عصاها علي كاهلها ورحلت وعادت النظافة إلي المجالس المحلية فعادت ريما إلي قذارتها القديمة. الفكرة الصغيرة ذات الإنجازات العظمي هي نظافة القاهرة، التي سوف تعطي حكومة نظيف من التأييد السياسي وحسن السيرة والذكري التاريخية ما لم يحققه حتي الآن ارتفاع الاحتياطي القومي إلي 22 مليار دولار. فالمطلوب لا يزيد عن إنجاز قريب ويشاهده كل الناس، ولا يحتاج إلي تكنولوجيات عظمي، ولا تدخل من مجلس الأمن الدولي، وليس له علاقة وثيقة باتفاقية التجارة الحرة مع الولاياتالمتحدة، ولا حتي زيادة معدلات النمو الاقتصادي إلي 7%. ما نحتاجه عاصمة نظيفة، وهذا ليس علي الله ببعيد!