بدخولنا عام 2006 نجد أنفسنا أمام العديد من المشاكل والاضطرابات، سواء في الداخل أو الخارج. ويعود مرد ذلك في نظري إلي ما ابتلينا به من قيادة تضم بين صفوفها مجموعة من الانهزاميين والمستهترين. وما يزعج حقا ويثير الاستياء في الرئيس جورج بوش ونائبه ديك تشيني هو إكثارهما من الأحاديث التي تنبعث منها رائحة البارود والنار عن ضرورة اجتياح العراق، وإخضاع المشتبه بهم للتعذيب، والتجسس علي مكالمات الأمريكيين وبريدهم الإلكتروني... كل ذلك من أجل حماية نمط حياتنا ونشر الديمقراطية حول العالم. لكن عندما يتعلق الأمر بما هو أبقي وأهم في السياسة الأمريكية الخارجية والداخلية؛ كالسعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة، والحد من الاعتماد علي الآخرين في تلبية حاجاتنا من النفط، وحماية البيئة من التلف والتلوث... فإن إدارة بوش تتلقي ذلك بكثير من السخرية والتندر معتبرة أن تلك القضايا الحساسة تخص الليبراليين وعاشقي الأشجار الذين لا يكفون عن الثرثرة في قضايا البيئة وفوائد تبني سياسات خضراء. لكن معذرة، إن تركيز اهتمامنا علي حماية البيئة ودعم سياسات ترشيد استهلاك الطاقة، لا يمكن أبدا اعتباره كلاما تافها كما تحاول إدارة بوش أن تصوره للرأي العام. بل تعتبر تلك من القضايا الجيوستراتيجية الأكثر تعقيدا، وتحفيزا للنمو الاقتصادي، فضلا عن كونها من أكثر الأمور خدمة للوطن ومصالحه. فإذا كنا من بين أمم العالم التي تفاخر بقدرتها علي مضاعفة سرعة شرائح الكمبيوتر الدقيقة كل 18 شهرا فكيف نفشل في اجتراح طريقة تحررنا من الاعتماد المفرط علي الطاقة. وأعتقد أن التافهين والانهزاميين فقط من يغفلون عن هذا الموضوع الحيوي ويساهمون في تآكل القيم الأمريكية سواء في الداخل أو في الخارج. وخلافا لما قاله تشيني فإن الدفاع عن قضايا البيئة ليس "بالفضيلة الشخصية" بل هو ضرورة من ضرورات الأمن القومي الأمريكي، ذلك أن الخطر الأكبر الذي يحدق بالولاياتالمتحدة لا يكمن في الشيوعية أو الأنظمة الشمولية أو الحركات الإسلامية، بل يكمن فيما أسميه ب "البتروليزم"، وأقصد الممارسات الحكومية غير الديمقراطية في عدد من الدول النفطية بدءا من روسيا وحتي إيران، والناجمة عن الارتفاع المتواصل في أسعار النفط. كما تحيل عبارة "البتروليزم" إلي سياسات متشابكة تعتمد علي عائدات النفط لشراء المواطنين عن طريق تقديم الدعم والمنح وتوفير الوظائف الحكومية، فضلا عن استخدام الريع النفطي لترهيب الأعداء أو شرائهم، وبناء الأجهزة الأمنية والقوات العسكرية التي تضمن استمرار الزعماء علي رأس الحكم في ظل غياب تام للشفافية، وللمؤسسات السياسية التي تقوم بدور المراقبة والمساءلة. وعندما يلجأ قادة الدول إلي ممارسات "البتروليزم"، فإنهم نادرا ما يستفيدون من الطاقة الإبداعية لشعوبهم، حيث ينحصر اهتمامهم علي الطاقة الاستيعابية لمخزونهم النفطي وقدرتهم علي تزويد الأسواق الدولية بالنفط. لذا فإن ما يهم أغلب الدولة النفطية ليس الانكباب علي بناء قدرات المجتمع، أو إقامة نظام تعليمي يعزز طاقات الشعب في مجالات الابتكار والتصدير والمنافسة، بل تهتم فقط بمن يسيطر علي بئر النفط. وهكذا نجد الأشخاص في بلدان بترولية مثل روسياوإيران وفنزويلا والسودان يتحولون إلي أثرياء فقط من خلال بقائهم في الحكومة وتجفيف الخزينة العامة. أما في الدول غير البترولية مثل تايوان وسنغافورة وكوريا الجنوبية فإن الأشخاص يغتنون عبر النأي بأنفسهم عن الحكومة وإقامة أعمالهم الخاصة. ولا شك أن ظمأنا الشديد للطاقة واستهلاكنا النهم للنفط يساهمان في تعزيز الأنظمة البترولية ويشجعاها علي الإمعان في الممارسات الشمولية "للبتروليزم"، كما يعزز نهمنا للنفط من قوة الأنظمة في تلك الدول. ولولا إفراطنا في استهلاك النفط لما استطاعت جل تلك الأنظمة أن تستمر في الحياة، لا سيما بعد أن تبين فشلها في تأمين غد أفضل لشعوبها. ومهما يحصل في العراق، فإننا لن نستطيع تجفيف منابع الأنظمة الشمولية والحركات الإسلامية العنيفة في الشرق الأوسط دون الحد من استهلاكنا المفرط للنفط وتخفيض أسعاره. وما لم نقم بتغيير سياساتنا الداخلية في مجال الطاقة، فإن أي حديث عن نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط هو مجرد مضيعة للوقت والمال، والأكثر من ذلك إهدار لدماء أبنائنا المراقة في العراق. فالفرق كبير بين ما تستطيعه تلك الأنظمة في ظل 20 دولارا لسعر برميل النفط، وبين ما يمكن أن تقوم به في ضوء 60 دولارا للبرميل. وليس من قبيل الصدفة أن تتزامن فترة الإصلاحات التي بدأها الرئيس بوريس يلتسين في روسيا، وإصلاحات الرئيس محمد خاتمي في إيران مع انخفاض أسعار النفط. لكن ما أن ارتفعت الأسعار مجددا حتي عادت إلي الواجهة الرموز المتشددة لتفرض نفسها علي المجتمعين. ويبقي القول إننا في الولاياتالمتحدة في حاجة ماسة إلي رئيس وكونجرس يمتلكان ما يكفي من الجرأة ليس فقط لاجتياح العراق، بل أيضا لفرض ضريبة علي استهلاك البنزين، وترشيد الاستهلاك محليا. وهو ما يستدعي صياغة سياسة متكاملة في مجال الطاقة تقوم علي دعم المصادر البديلة والتخلي عن الممارسات القديمة. وأخيرا وليس آخرا أقول للثنائي بوش وتشيني كفي استخفافا بالسياسات البيئية، ذلك أنه لا يوجد ما هو أشد جبنا وأكثر بعدا عن قيم الوطنية من ازدراء قضايا حماية البيئة وترشيد الاستهلاك. وعلي من يريد أن ينشر الديمقراطية أن يتبني السياسات الخضراء التي لم تعد كلاما يلقي في الخطب، بل تحول الأخضر إلي لون جديد للعلم الأمريكي نفسه.