لا شك أن سلسلة المقالات التي نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" عن ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي، قد لفتت نظري واهتمامي. ولكوني قد شغلت ذلك المنصب لما يزيد علي ربع قرن، فإن لدي أكثر من مجرد اهتمام عابر بما آل إليه المنصب من تطور، بحكم كونه ثاني أكثر المناصب وأقواها في الحكومة الأمريكية. والذي يجب قوله هنا، هو أن الجزء الغالب من ذلك التطور الذي حدث. في ظل مختلف الرؤساء المتعاقبين، وتحت الإدارات المنتمية لكلا الحزبين، "الجمهوري" و"الديمقراطي"، يكاد يتسم بالإيجابية. غير أنه انحرف عن مساره السابق، في ظل رئاسة جورج بوش الحالية، ونائبه ديك تشيني. ذلك أن الآباء المؤسسين للديمقراطية الأمريكية، قد أرادوا من إنشاء منصب نائب الرئيس أن يكون بمثابة وجهة نظر دستورية ثانية، أي أن يوفر المنصب بديلاً رئاسياً مباشراً متي ما اقتضت الحاجة ذلك. والمهمة الوحيدة الموكلة إلي نائب الرئيس، بموجب نصوص الدستور الأمريكي، هي الإشراف علي مجلس الشيوخ. وظل هذا المنصب طي النسيان والغياب الفعلي لما يزيد علي قرن ونصف القرن، إلي أن رأي فيه الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، موقعاً سياسياً ملائماً، يمكنه من خلاله التأهل للحصول علي ترشيحه الرئاسي من الحزب الجمهوري عام 1960. وقد حققت تلك النظرة نتائجها وثمارها بالفعل، ما جعل من منصب نائب الرئيس، بمثابة منصة انطلاق للترشح للمنصب الرئاسي، وذلك بالنسبة لكل من يتطلعون إلي الوصول إلي قمة الهرم السياسي في البلاد، منذ بداية ستينيات القرن الماضي. غير أن المنصب نفسه، لم يكتسب أهمية حيوية ملموسة في الجهاز الحكومي، إلا في ظل إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر، والذي رأي أهمية تفعيل دوره وجعله أداة أكثر إسهاماً في الأداء التنفيذي الحكومي. وعليه فقد خصص لي الرئيس مكتباً في "ويست وينج"، فضلاً عن الاتصال غير المحدود معه، وكذلك منحني حرية مطلقة في الحصول علي المعلومات، إلي جانب تحديد مهامي ومسئولياتي علي صعيدي السياسات الداخلية والخارجية علي حد سواء. وطلب مني كارتر أن أكون مستشاره وشريكه الوحيد في عدة قضايا وسياسات بعينها، مميزاً إياي بذلك، عن جميع المسؤولين المنتخبين علي النطاق القومي في البلاد. هذا وقد بنيت علاقتنا معاً علي الثقة والاحترام المتبادلين، وعلي الاعتراف المشترك بأن هناك أجندة موحدة يجب العمل والتعاون معاً من أجل خدمتها وتحقيقها، ألا وهي الأجندة الرئاسية. وكنا نلتقي علي نحو انفرادي ظهر كل يوم اثنين لتناول الغداء معاً، حيث تمكنا من التحدث بوضوح وصراحة حول كل ما يتعلق بالأجندة الرئاسية التي نعمل من أجلها. وبنهاية مدة عمل كلينا، كنا قد تمكنا عملياً من تحويل منصب نائب الرئيس إلي منصب إداري تنفيذي، واضعين بذلك حداً نهائياً لقرنين من الإبهام والغموض اللذين لفا المنصب، رافعين عنه صفة العجز التي أحاطت به طوال ذينك القرنين . وما كان من الإدارات التي تعاقبت بعد إدارة كارتر، إلا أن نهجت النهج نفسه في التعامل مع منصب نائب الرئيس... أي أن بوش الأب ودان كيلي وآل جور، قد بنوا عملهم جميعاً في المنصب نفسه علي ذلك النهج الذي ابتكرناه نحن (الرئيس كارتر وأنا). وقد سمح كل واحد من هؤلاء المذكورين بالتعبير عن اهتماماته المختلفة وكذلك تمايز الخبرات والقدرات، من دون أن يؤثر ذلك التمايز علي خدمتهم للرؤساء الذين عملوا نواباً لهم. بيد أن كل هذا المسار قد تغير تماماً منذ 11 سبتمبر 2001، حين اتجه نائب الرئيس الحالي ديك تشيني، إلي استحداث مركز للقوة خاص به، وعلي درجة كبيرة من الاستقلالية لمكتبه. ولا تقتصر خطورة هذا المسعي في كونها تهدد بإعادة تشكيل السياسات الخاصة بالإدارة التي يعمل فيها فحسب، وإنما تمتد خطورتها إلي سعيها للحد والتطاول علي الخيارات السياسية الممنوحة للرئيس بموجب نصوص الدستور. فعلي الرغم من أهمية معرفة الرئيس لكافة المعلومات والخيارات المتاحة، قبل اتخاذه لأي قرار أو خطوة من الخطوات السياسية العملية، إلا أن ديك تشيني، آثر التخلي عن دور "الوسيط النزيه" الذي أداه من قبل، يوم أن كان رئيساً لطاقم موظفي الرئيس الأسبق جيرالد فورد. واعتماداً علي خبرته الحكومية الكبيرة، مدعومة بالشبكة الواسعة من الأصدقاء المخلصين له، والذين تمكن من وضعهم في العديد من المناصب والمواقع القيادية الحساسة، فضلاً عن مهاراته السياسية الجبارة، فقد تمكن تشيني إلي حد كبير من إضعاف الإجابات عن الأسئلة الموجهة إلي الرئيس، نتيجة لتمكنه من تسفيه الأسئلة نفسها وتقويضها. وليس أدل علي ذلك من قدرته علي الحصول علي توقيع الرئيس علي أمر يقضي بحرمان المتهمين الأجانب في قضايا تتعلق بالإرهاب، من المثول أمام أي محكمة أمريكية، إلي جانب كونه تشيني هو من قضي بأن نصوص معاهدات جنيف الدولية، لا تنطبق علي أسري الحرب علي الإرهاب، المعتقلين في كل من العراق وأفغانستان. وبدلاً من أن يخضع تشيني عملية اتخاذه القرار للعملية الاستشارية العقلانية المتأنية السابقة لاتخاذه لأي من القرارات، فإن السائد عنده أن يعتمد علي ثقته الشخصية بموظفيه المباشرين، باعتبارها مصدراً وحيداً للآراء والأفكار التي يحيلها إلي الرئيس. وإذا بدا تشيني أكثر اهتماماً بخدمة أجندته الخاصة، بدلاً من أن يخدم منصبه الذي وضع فيه، فإن السؤال الذي لا بد منه هو: لماذا يسمح له الرئيس بكل هذا. وإذا كنا قد عانينا قبل ثلاثة عقود مضت، من فضيحة "ووترجيت" التي لفت أداء البيت الأبيض كله بثوب مخزٍ من السرية وممارسات انتهاك القانون وغيرها من الفضائح، فما لنا اليوم نستعيد التجربة المؤلمة نفسها، في ظل الإدارة الحالية؟!