وجعلها خاتمة الأمم، وبعث رسولها سيدنا محمداً صلي الله عليه وسلم خاتماً للأنبياء والمرسلين، وجعل دستورها السماوي، وهو القرآن الكريم خاتم الكتب، وكلمة السماء الأخيرة إلي أهل الأرض، وجاء تبياناً لكل شيء. ولم تكن خيرية هذه الأمة لتأتي من فراغ ولا بطريق المصادفة، ولا محاباة من القدر بل كانت خيريتها منوطة بواجبها ورسالتها، وذلك أن الأمم السابقة، كانت تكلف بشيء واحد وهو الإيمان بالله ورسوله والطاعة فيما أنزل علي رسولها، أما هذه الأمة، فقد كلفت بأمرين: الأول: ما كلفت به الأمم السابقة من الإيمان والطاعة. والثاني: هو أن تقوم برسالة رسولها فتدعو إلي الخير، وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، وتصل بذلك إلي درجة الفلاح "ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" (1). ووضح القرآن الكريم ركائز هذه الخيرية وواجب هذه الأمة الذي يتمثل في الأمرين السابقين: الإيمان والدعوة إلي الخير أمرا بالمعروف ونهياً عن المنكر حيث قال سبحانه "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" (2). وهكذا نري أن الله تعالي كلف هذه الأمة إلي جانب الإيمان والطاعة أن تقوم برسالة الرسل ونشر الدعوة إلي كل الأرض؛ لأن الإسلام دين عالمي لا يختص بزمان دون زمان ولا بمكان دون مكان، فدستوره السماوي ذكر للعالمين ورسوله صلوات الله وسلامه عليه رحمة للعالمين، وختم الله بالإسلام دعوات السماء وبالقرآن الكتب السابقة وبالرسول جميع الأنبياء والمرسلين. كما وضح هذا رسول الله صلي الله عليه وسلم "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتا فأجمله وأحسنه إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين". فلما كانت الدعوة الإسلامية عامة وخالدة إلي أن يقوم الناس لرب العالمين، لزم أن تستمر رسالتها والدعوة إليها، وحتي بعد أن يلحق الرسول صلي الله عليه وسلم بالرفيق الأعلي فإن أمته من بعده تقوم برسالته وإن علماء هذه الأمة يتحملون ميراث النبوة "العلماء ورثة الأنبياء وان الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر". ومن هنا كانت مهمة علماء الأمة عظيمة، وكان عبء الدعوة من الأهمية بمكان بحيث وجب علي العلماء أن يحرصوا عليه وأن يصونوه، فقيض الله لوحيه السماوي وللهدي النبوي رجالاً أمناء حفظوه وصانوه ودعوا الناس إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". وبرزت منزلة علماء الأمة وأئمتها منذ العهد النبوي وعهد الصحابة والتابعين إلي يومنا هذا وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها، وحذر النبي صلي الله عليه وسلم من النيل من صحابته أو سبهم أو الخوض في أعراضهم فقال صلوات الله وسلامه عليه "لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه". وحذر الأمة عبر عصورها من تجريح رموز هذه الأمة والذين انتقل الوحي عبر صدورهم الأمينة من لدن الصحابة ومن بعدهم فقال صلي الله عليه وسلم "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغض أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن أذاني فقد آذي الله ومن آذي الله فيوشك أن يأخذه". وعرف سلف هذه الأمة وخلفها للعلماء قدرهم ومنزلتهم لأنهم ورثة الأنبياء، فوجب توقيرهم وإجلالهم وخدمتهم والقيام بحقهم فهم نماذج القدوة ودعاة الحق وورثة الأنبياء. وبلغ من توفير سلف امتنا واحد آل بيت نبينا صلي الله عليه وسلم وهو عبدالله بن عباس ان امسك بزمام الدابة لزيد بن ثابت فلما قال له زيد بن ثابت رضي الله عنه: تنح عن هذا يا ابن عم رسول الله صلي الله عليه وسلم قال ابن عباس رضي الله عنهما له: هكذا امرنا ان نفعل بعلمائنا وكبرائنا فاخذ زيد بن ثابت يدا بن عباس وقبلها قائلا له: وهكذا امرنا ان نفعل بآل بيت نبينا. وتتضح ركائز خيرية هذه الامة في الدعوة الي الخير التي يقوم بها علماؤها والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحقيق الايمان وتحقيق الايمان بالله. ونكاد نري حصر ركائز خيرية هذه الامة في الدعوة الي الخير والامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الايمان لانه لا صلاح للامة ولا توحيد لصفها ولا انتصار علي عدوها في مناخ الجهل بل في مناخ العلم والدعوة والاصلاح ولذلك لم يكن اولي قطرات الوحي الالهي التي صافحت قلب رسولنا صلي الله عليه وسلم تقول له "صل" او "صم" او "جاهد" بل كانت: "اقرأ باسم ربك الذي خلق" فبالعلم والدعوة لا يكون هناك مجال للجهل ولا للانحراف ولا للغلو ولا للتطرف ولا للارهاب فكل هذه الظواهر السلبية انما برزت في جو الجهل وترك الدعوة والارشاد فالاسلام دعانا ان نكون امة واحدة "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا". وحذرنا من الفرقة والتناحر والقتال "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" وقال "من حمل علينا السلاح فليس منا". وكما فضل الله بعض الرسل علي بعض "تلك الرسل فضلنا بعضهم علي بعض" فضل بعض الازمنة علي بعض كما في شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن وفضل بعض الامكنة علي بعض كما هو الحال في المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الاقصي وكما في مكة والمدينة والقدس فانه ايضا كما جعل الكعبة قبلة الصلاة في ام القري مكةالمكرمة وجعل قبلة العلم في ارض الكنانة الازهر الشريف. الذي يمثل ارادة الهية نهض بعد منتصف القرن الثالث الهجري يضطلع بحماية اشرف تراث في الوجود فعلم الامة وبعث بعلمائه الي كل الارض واستقبل علي ارضه طلاب العلم الذين يعيشون في اروقته وينذرون قومهم اذا رجعوا اليهم.. وكان قدر مصر ان تضطلع الي جانب رسالة التعليم برسالة الدفاع وحماية الامة فهي كنانة الله في ارضه بما وهبها من امكانات بشرية وجغرافية وطبيعية ومعنوية فكان جندها خير اجناد اهل الارض كما قال صلي الله عليه وسلم: "اذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا فذلك الجند خير اجناد الارض قيل: ولم كانوا كذلك يا رسول الله؟ قال: لانهم واهليهم في رباط الي يوم القيامة".