اخيرا.. تم تشكيل الحكومة الجديدة التي انتظرها الجميع بعد اكثر الانتخابات البرلمانية المصرية اثارة ودراماتيكية. وأول ملحوظة يجب تسجيلها بهذا الصدد هي "الطريقة" التي ظهرت بها الحكومة الجديدة الي حيز الوجود. وهي طريقة شابها الارتباك والتخبط. حتي وصل الامر الي ان ينفي المتحدث باسم رئاسة الجمهورية التصريحات التي يدلي بها المتحدث باسم رئاسة الوزراء فيما يتعلق بما اذا كان الرئيس حسني مبارك قد كلف الدكتور احمد نظيف بتشكيل الحكومة الجديدة ام لا. والي جانب هذا الارتباك استمرت الظاهرة المألوفة في تشكيل كل الحكومات السابقة، ألا وهي نقص الشفافية، وعدم توافر معلومات للرأي العام عن الاسباب التي ادت الي خروج هذا الوزير من الحكومة او الاسباب التي ادت الي دخول ذاك الوزير اليها. والملحوظة الثانية: هي ان الملامح الرئيسية للحكومة الجديدة تبعث بنوعين من الاشارات المتضاربة: النوع الاول: يوحي بأن هناك "تغييرا" قد حدث بالفعل وهو ما يظهر بالذات من اختفاء اسم السيد كمال الشاذلي والدكتور محمد ابراهيم سليمان من قائمة اسماء وزراء الحكومة الجديدة. والاثنان كانا موضع جدل شديد سواء من الرأي العام او من الطبقة السياسية او منظمات المجتمع المدني. فالسيد كمال الشاذلي كان ابرز رموز ذلك الجناح المسمي ب" الحرس القديم" وهذا الجناح لاقي في السنوات الاخيرة انتقادات متزايدة من الرأي العام نتيجة لما تصوره الناس من انه اصبح "مركز قوة" وان مركز القوة هذا مسئول بشكل مباشر او غير مباشر عن حالة الجمود السياسي الموجود في المجتمع، وما ارتبط به من ظواهر سلبية من بينها استشراء الفساد السياسي والاقتصادي وإشاعة الاحباط من جراء اطفاء اية بارقة أمل للتغيير الحقيقي. ولم تقتصر هذه الانتقادات علي دوائر المعارضة وأوساط الرأي العام بل وصلت إلي الحزب الوطني الحاكم نفسه حيث احتدم الصراع بين "الحرس القديم" بقيادة السيد كمال الشاذلي وبين الحرس الجديد، ووصل هذا الصراع الي ذروته في انتخابات برلمان 2005 حتي ان بعض مرشحي الحزب الوطني اتهموا جناح السيد كمال الشاذلي بالتنسيق مع خصوم الحزب الوطني ومنهم الاخوان المسلمين، لإسقاطهم لانهم خارج دائرة نفوذ الحرس القديم. ولان السيد كمال الشاذلي كان له ثقل حقيقي في الهيئة البرلمانية للحزب وجميع التشكيلات الحزبية الاخري علي مستوي المحليات ومستوي مجلس الشوري ومجلس الشعب، فان خروجه من التشكيل الجديد للحكومة يمثل "تغييرا" حقيقيا وربما سيترتب عليه اعادة التوازنات بين الحرس القديم والحرس الجديد في المستقبل القريب. كذلك الحال بالنسبة للدكتور محمد ابراهيم سليمان وزير الاسكان. فالرجل قد اثار جدلا كثيرا وربما كان اكثر وزراء الحكومة المنتهية ولايتها تعرضا للنقد من المعارضة ومن الرأي العام. كما كان اكثر الوزراء خصومة مع الصحافة بعد الدكتور يوسف والي نائب رئيس الحزب الوطني ونائب رئيس الوزراء السابق للزراعة واستصلاح الاراضي بل وصلت خصوماته الي داخل مجلس الوزراء نفسه، وحسب معلوماتي فان احد الوزراء الذين تم تجديد حملهم لحقائبهم الوزارية اشترط قبوله الاستمرار في الوزارة باستبعاد الدكتور محمد ابراهيم سليمان، الذي يقال انه دأب علي منازعة زملائه الوزراء في صميم اختصاصاتهم، كما ان بعض مشروعاته اثارت حنق الكثيرين، من المسئولين وغير المسئولين، لعل من ابرزها مشروع كورنيش النيل. وقد استطاع الدكتور محمد ابراهيم سليمان ان يحول وزارته الي "مركز قوة" حقيقي، مثلما كان الحال بالنسبة للسيد كمال الشاذلي، ولهذا فان الكثيرين قد تنفسوا الصعداء بعد ان خلا التشكيل الوزاري الجديد من اسمه، واعتبر البعض ان ذلك مؤشر علي "تغيير" حقيقي. لكن النوع المعاكس من الاشارات المرتبطة بالملامح الرئيسية للحكومة الجديدة يقلل من الإحساس بهذا التغيير. فرئيس الوزراء.. كما هو بدون تغيير. و"كل" وزراء "السيادة".. كما هم بدون تغيير. ونسبة الوزراء الذين خرجوا من الحكومة الي الوزراء الذين لم يتم تغييرهم ليست هي الغالبة ولا تتجاوز الثلث "11 مقابل 21". وبعض الوزراء الباقين مستمر في منصب الوزير منذ سنوات طويلة تصل لدي البعض الي اكثر من 18 سنة، مثلما هو الحال بالنسبة لفاروق حسني وزير الثقافة. كما ان اثنين علي الاقل من الوزراء الباقين تعرضا لانتقادات واسعة وصلت الي حد المطالبة باستبعادهما من الحكومة السابقة لدورهما في الانتخابات البرلمانية السابقة هما وزير العدل ووزير الداخلية. وجاء استمرارهما في التشكيل الجديد ليصب دشا باردا علي هذا المطلب الذي تردد بقوة في احزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني. والملحوظة الثالثة: ان الحكومة بقديمها وجديدها، لاتزال تفتقر الي كثير من الصلاحيات، وهو الامر الذي اشار اليه الرئيس حسني مبارك من قبل اثناء حملة الانتخابات الرئاسية حين وعد بنقل جزء من صلاحياته الي الحكومة. وهذا يعني ان الحكومة لاتزال تنتظر نتائج التعديل الدستوري، الذي يستهدف اعادة التوازن بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية بالشكل الذي يعيد الاعتبار الي السلطة التشريعية التي عانت منذ عام 1952 من التبعية المطلقة للسلطة التنفيذية. والدليل علي ذلك انه ما من برلمان واحد منذ ذلك الحين حتي اليوم قد سحب الثقة من حكومة واحدة او حتي من وزير واحد. كما انه ما من برلمان واحد من هذه البرلمانات المتعاقبة بادر بالتقدم بمشروع قانون بصفته المسئول الاول عن التشريع والرقابة، واكتفي دائما وابدا بالموافقة علي مشروعات القوانين التي تقدمها الحكومة. الامر الثاني: ان صلاحيات رئيس الجمهورية هي المهيمنة علي السلطة التنفيذية بحيث لا تترك شيئا يعتد به للحكومة او تجعل الحكومة مجرد سكرتارية لرئيس الجمهورية. وهو امر بات يحتاج الي اعادة نظر خاصة ان الرئيس حسني مبارك نفسه اصبح موافقا علي ذلك. وفي انتظار حدوث ذلك.. ينبغي وضع التعديل الوزاري الذي حدث في حدوده.. دون تهوين او تهويل.