يبدي الكاتب مرعي مدكور في أحدث أعماله الروائية يوم الزينة قدرا كبيرا من ديمقراطية الحكي.. حيث يحكي كل طرف من أطراف القصة جانبا من قصة تلك الكتلة اللحمية الهائلة التي تملك من مقومات الكيان الانساني القليل.. لكنه القليل المثير لسخرية الرجال وبعض منه لشهوات النساء ! مما يتسبب في قتله بطريقة غامضة وبشعة معا.. حيث يجده اهل القرية "مشنوقا "في حبل.. ويسيح الدم من بين فخذيه.. فهذا الذي يثير شهوة النساء.. يقينا يثير غضب الرجال.. ليقتل صاحبه ويبتر هو.. !وهو لايقدم لنا ذلك الكيان الانساني المشوه والعجيب مرة واحدة.. ففي مستهل الرواية يصفه هكذا :وفجأة يجعر جعيرا متقطعا مثل عواء ذئب "با بيب با " فيسبقه جعيره المتقطع الي المجرنة معلنا عن قدومه.. بعدها مباشرة يكون قد داهم أرض المجرنة مثل غيمة سمراء ثقيلة تسد الأفق.. عملاق خرافي طوله قصبة وعرضه مصطبة لاتدري ان كان يمشي أو يحجل أو يقفز يتنطط أو يفعل ذلك كله في وقت واحد.. وفي رجليه واغش من صغار السن المتفحلين مثله الخالق الناطق هو هو !ومن صفحة الي أخري يضيف المؤلف الي الوصف المزيد :يرفع - عندئذ - ذيل جلابيته هذه المرة من الخلف ويضعه بين أسنانه ويكز عليه فتروح عيون النسوة جهته وتتسمر عليه : خرافي الملامح.. تقاطيع وجهه ربانية وجهه لايقول أي شيء وعينان كبيرتان مفتوحتان علي آخرهما - كعيني ثور في عز ثورته وهياجه -.. والكاتب بقصته تلك يستحضر من الذاكرة صورة مألوفة في الأدب العربي والعالمي.. تتعلق دوما بقصة الغريب الذي يهبط علي قرية كصخرة تلقي في نهرها الراكد ليموج بالأحداث والحكايات المثيرة.. كقصة " سانتياجو " ذلك الغريب الذي هبط قرية.. ووجد فيه نساؤها من مصادر الارتواء الجنسي ما لم يجدنه في رجالهن !.. فشاع أمره.. ليعثر علي جثته في النهاية مقتولا.. لتقيم له النساء جنازة مهيبة ويطلقن تكريما له اسمه علي القرية.. وحتي أكون أمينا.. فقصة سانتياجو تلك والتي قرأتها وأنا في المرحلة الثانوية لاأتذكر ان كانت للكاتب الكولومبي الشهير جارسيا ماركيز أم لآخر.. أم انها أسطورة حول منشأ سانتياجو عاصمة تشيلي.. حيث نمت القرية وكبرت.. واستزادة في تكريم الغريب الذي كانت فحولته سببا في اغتياله أصرت النساء علي أن تكون المدينة عاصمة للدولة.. علي أية حال.. انها القصة المألوفة حتي في التراث الشعبي للعديد من المجتمعات.. الغريب الذي يهبط القرية.. ويتسلل الي البيوت.. وتأشيرة دخوله الي مخادع النساء عتهه وجنونه.. وربما يظهر جيل من الأبناء موحد الملامح بعد ذلك.. ! وهي المادة التي بني عليها كاتبنا الكبير يوسف إدريس قصته القصيرة "الشيخ شيخة ".. أبله القرية " أو هكذا ظنه الناس فلم يجد الرجال حرجا في أن يدخل بيوتهم.. رغم أن ملابسه عادة لاتغطي نصفه الأسفل فتكشف عن رجولته المذهلة.. فتعشقه النساء.. الا أنه كشف أسرار البيوت.. فقتل.. !والغريب في " يوم الزينة" ليس غريبا بالجغرافيا كما هو حال " سانتياجو " ولا بالبلاهة فقط كما هو حال " شخشيخة يوسف إدريس " بل بالتكوين الجسدي أيضا.. كما يبدو جليا من وصف المؤلف له في أكثر من موضع.. الا ان الدكتور مرعي في "يوم الزينة" يثير بهجتنا بتلك اللغة العذرية التي يستخدمها في الحكي.. ليقدم لنا البكارة الأولي للقرية المصرية.. فلا أظنه تدخل في أية مرة ل" تزويق " عبارة له أو تجميل حالة انسانية يبدو عليها أحد شخوصه.. "أم عابد تروح بعقلها وبفكرها وبنظرها الي صاحبنا وهو يزعق "با بيب.. بابيب " وسط هذا الواغش الضارب حلقته من الحنجلة والجري والتدافع المفاجئ سقط أحد العيال إثر تسابقهم علي عقب سيجارة رمته أم عابد وتزحلق علي الحصير حتي طوحت قدمه كوب شاي ساخن اندلق عليها وهي ترفع رجلها صارخة نزلت بيديها بقوة عليه وأمسكته من قدمه القصيرة العريضة وشدته جهتها وقرصته في وركه قرصة طلعت بالدم، وغاظها أنه لم يصرخ أو يتنطط كما الفولة في النار"واذا كان بعض القراء يظنون أن تلك البكارة التي تخلب لب كاتبنا ما هي الا تاريخ انقضي.. حيث تشهد القرية المصرية الآن من تغيير الحال ما قتل فيها روحها الأصيلة الا أنه يبدو ان تلك ليست رؤية الكاتب والا ما نحت رسالته لأحفاده والتي تضمنها اهداؤه الذي استهل به روايته هذا المنحي:لأحفادي :ياسين " التهامي "ويوسف " الصديق "وفريدة " الملكة "ونورين "الجميلة "وسلمي " مروة الصغيرة "هذه قريتنا.. واحدة من آلاف القري المصرية التي تشكل عمق بلادنا وروحها ليت احلامكم تتحقق معها.. اذن هو يتحدث عن قرية آنية.. مازال لها وجود.. وليست قرية نستحضرها من الذاكرة.. فإن كان يستحضر من الذاكرة شيئا فتلك النصوص التراثية.. مرة من ألف ليلة وليلة " عين لاتنظر.. قلب لايحزن " ومرة من ارث محيي الدين بن عربي "كل صدق يسأل عنه.. لا يعول عليه ".. ومرة من أمثالنا الشعبية.. وهكذا.. وكلها نصوص ترتبط بصلة رحم قوية بالأحداث وليست مقحمة عليها.. وهو ما يحسب للكاتب مرعي مدكور.