الصراع بين السلطة والمثقفين صراع قديم ومعقد،إلي درجة يصعب فيها الفصل بين الأبيض والأسود،لأنه صراع يكاد يكون منهجيا بين ماهو كائن، ومايجب أن يكون. ولعل مايزيد هذا الصراع حدة واشتعالاً أن السلطة بطبعها - أي سلطة - تسعي للاستئثار والهيمنة علي مقدرات الآخرين، مهما ادعت غير ذلك! فهي علي استعداد - دائم - لأن تحقق ذلك بأي وسيلة،حتي لو استخدمت أقصي درجات الخشونة، والإقصاء،ولاتجد صعوبة في المسميات -أو المبررات - لفعل ذلك فمرة تفعله تحت عنوان الضبط والربط، ومرة باسم العدالة، أو الأمن، أو المصلحة العامة، ومرات باسم الوطنية، أوالعادات والتقاليد..الخ.. وبما أن الثقافة بدورها سلطة ناعمة،أي تسعي للتغيير ولو من منازلهم، فمن الوارد - في إطار الصراع والتدافع بين البشر- أن تصطدم السلطتان،وتتعقد بقدر مايحوزانه من أدوات وصلاحيات،لكن مايعقد الأمور أنها نادراً ماتتصف بالسلمية لاسيما مع السلطات التي تستهدف الروح والبدن،أوتتخذ من العنف والإكراه وسيلةً لقهر وإسكات خصومها النظريين!. ومن اللافت للنظر أيضاً،أن كل سلطة من هذه السطات تحاول أن تفرض سطوتها وتمارس نفوذها علي غيرها من سلطات،بقدر ماتملك من أدوات،وصلاحيات، ومن ثم تحاول أن تستبعد وتزيح كل من يقف في طريقها بدعاو متجددة، لاتعرف الكلل، بل تجمل القهر والاستبداد، وتبرر الإقصاء والهيمنة، والحق أنه دور لاتتفرد به السلطة التنفيذية وحدها، وإنما يمارسه الأعلي علي الأدني، وهو مانجده مثلاً في علاقة الأب أوالأم بالابن، ثم الجد والجدة، والأخ، والعم والخال الخ... كما نجده في علاقة الرجل بالمرأة، والمدرس في المدرسة والجامعة، والرئيس في العمل،والمجتمع في الشارع والنادي، والجيران والأصدقاء في البيت والحي الخ.. كما يمارسه رجالات السلطة التنفيذية، والجهاز الإداري علي المواطنين في المكاتب الخدمية، والأمنية، والمالية،والوزارية المختلفة، والسلطة الدينية في المساجد والكنائس والأديرة، والقضائية في المحاكم والسجون الخ.. بيد أن المشكلة تبدأ، حين تتعسف السلطة مع نخبتها ومثقفيها، فتصم من يطالب بالعدل والمساواة بالمتمرد، ومن يسعي للتغيير والإصلاح السلمي بالعميل، ومن يدعوللديمقراطية والشفافية بالمعوق أوالمخرب الخ.. ولو قارنا بين بعض المدارس وبعض السجون، لما وجدنا فارقا يعتد به!! ففي كثير من المدارس والكتاتيب، يتفنن المعلمون في .تربية. تلاميذهم،قبل تعليمهم،علي اعتبار أن.الأدب. مفضل ومقدم علي العلم، كما يتفنن السجانون في .تأديب وتهذيب. المسجونين، بهدف تأهيلهم وفق رؤيتهم، وفي مثل هذه الحالات،يندر أن تجد معلما أو سجانا يتنازل طواعية عن .حقه. في ذلك!! قد يتنازل عن التعليم، أما أن يتنازل عن حقه في التربية والتهذيب، فلا،والف لا. ومن هنا يتوجب علينا أن نعرف: إن الكلام عن .معرفة خالصة لوجه الله. محض وهم لايصدقه الأذكياء. فمن خصائص السلطة التي دانت لها الهيمنة، واستقرت لها الأمور،أن تصنع ثقافتها ومثقفيها،قبل أن تصنع قضاتها وفقهاءها ومطربيها.. وما يرفضه زيد، قد يقبله عبيد!! أما الفرق بين السلطة .الغاشمة.،والسلطة المتحضرة، فهوفرق في الوسائل والتقنيات، لافي الغايات والمقاصد. والديمقراطية وسيادة القانون، والتوزيع العادل للثروة القومية، والإلحاح علي تداول السلطات وغيرها بوصفها حقوقا مكتسبة تتحقق بالتراكم، مادام قدر الإنسان أن يضحي ببعض حرياته،ويتنازل عن بعض حقوقه للمجتمع،لكي يعيش مع الآخرين ! ومن يتأمل الأمر من بعيد، ربما يكتشف أن تداول السلطة ليس هدفا لذاته،بمعني أنه ليست حصة تموينية يصطف لها الجميع، وإنما وسيلة للحد من الفساد،وتقليل المضار الناجمة عن غياب الحلول،وانتفاء الكفاءة،أوسوء السلوك أوالإدارة، ومن ثم نتوقع دائماً أن يقلل التداول من مخاطر الفساد والمفسدين، ويعطي فرصة لمن يأتي ليصلح ما أفسدوه،ونحن نعرف أنها لعبة سخيفة لأننا نضحي بمن حصل علي 48% لصالح من حصل علي52% وهو مايسمي في مصطلحات الساسة بدكتاتورية الأغلبية !! وهنا قد يتساءل البعض: وماذا لوتجمعت في .زعيم.واحد كل هذه الصفات الاستثنائية: العدل، والكفاءة، والغيرية، والأمانة الخ..؟ وعمل هذا .الغاندي.علي تأهيل الكوادرالتي يمكن أن تخلفه، وأتاح فرصاً للتقدم والنجاح في الوقت نفسه ، ولم يورط .شعبه. في معركة من معاركه الشخصية، أو يقامر بمقدراته لكي يرضي غروره أوجنونه أو يختبر ذكاءه؟! هل تجوز الثورة علي مثل هذا الرمز النبيل؟ ولماذا؟ ومن أجل من؟.. التغيير؟ والإجابة علي هذا الأسئلة بسيطة للغاية، ولكن مايعقدها أنها تفترض أن هنالك شخصية بكل هذه الملائكية، وهو في حقيقة الأمر وهم من أوهام العامة، كما يمكن للسؤال أن يصاغ علي النحو التالي: هل يوجد مثل هذا الشخص أصلاً وأين ومن أين اكتسب شفافيته وملائكيته بالضبط؟ ونحن نعرف - بحكم التجربة والفطرة - أن مطامع الإنسان ومطامحه لاتنتهي ولا تتوقف؟! وهو مايجعلنا نراهن علي الديمقراطية بوصفها حلا من الحلول. وإذا كان الأصل في نجاح السلطة - أي سلطة- مرهون بقدرتها علي توفير العدالة والحرية،والاستقرار، وترسيخها كمبادئ ومكتسبات تلزم من يأتي بانتهاجها، فلم يعد أمامنا، إلا أن ننهج ذلك النهج- بغض النظر عن مثالبه العديدة- علي أمل أن يهتدي البشر-مستقبلاً- لما هو انجع!! فلوعدنا لتاريخ الصراع بين السلطة والمثقفين -لاسيما في عالمنا العربي - لوجدنا أنه صراع عريق ومخز إلي حد مخجل ولايمكن تصديقه،ولدينا من الأمثلة مايصعب حصره، بيد أن الطريف في الأمر،أن السلطة التنفيذية قد تكون مثقفة، وتزن الكتب بالذهب كما فعل المنصورأو المأمون لاأذكر، ومع ذلك يدور الصراع بينها وبين المثقفين،لأن السلطة- في العادة - لاتعترف إلا بنفسها،ولاتحب أن يشاركها مشارك ورغم علمها بأن الثانية لاتملك سوي القلم أو اللسان، وأن من يجيدون القراءة، والكتابة قليلون، ولايملكون .القوي الخشنة. التي تقارعون بها خصومهم إلا أنها تتحصن ضدهم، وتؤلب العامة، ورجال الدين عليهم.