علمتنا التجربة أن أغلب المثقفين - ربما بحكم تجربتهم المريرة مع السلطات المختلفة- يؤثرون العزلة والسلامة، كما علمنا التاريخ ايضاً أن من ينتظر أن تأتيه العدالة والحرية وهو نائم علي بطنه، لايخدع إلا نفسه، فليس من شيم السلطة - أي سلطة - أن تقدم لشعوبها أية حقوق مجانية، لأن ذلك يتم بالخصم من رصيدها ونفوذها وهيبتها ومصالحها لذلك تسعي دائما للتسلط والخصم والمقايضة، بدعاوي لاتعرف الملل !! ولكن ما الثقافة? الحق أنه لايوجد معني أو تعريف واحد للثقافة - حتي لدي كبارالمثقفين - يمكن أن نصفه بأنه تعريف ( جامع مانع )ومن ثم سنعتمد التعريف الأكثر شيوعا، والقائل بالإلمام والتنوع وربطها بالتحضر والمدنية وتهذيب السلوك، هو مايجعلنا نستبعد حتي أستاذ الجامعة من دائرة المثقفين إن لم يكن يعرف من المعارف والعلوم إلا مادته. غير أن مايهمنا في هذا المقام :أن المثقف سواء كان فاعلا أومنعزلاً، منتجا أو مستهلكا لا يشكل خطراً داهماً علي أي نظام سياسي سابق أو لاحق، لاسيما إذا قورن بتلك القوي الدينية الراديكالية الخشنة، التي تتخذ من العنف والإرهاب هدفا للوصول إلي السلطة، وتجعل الجنة مكافأة لكل قاتل، وترفع - من أجل ذلك-مقولات قديمة تخاصم العقل والآخر، وتقدم الماضي علي الحاضر، المستحيل علي الممكن! ومن هنا تتأتي الطرافة، حين تبالغ السلطات المتعاقبة في الخوف ممن لا يملكون سوي القلم، رغم علمها بحال الأمية- بنوعيها- وحال الثقافة بنوعيها في الوقت الذي تهادن فيه من يحملون السيف والنية، ويستطيعون -في عصر الفضائيات والإنترنت- أن يجيشوا الجيوش، ويفيشوا الهوامش في أيام قليلة، وقد يعرضون - بعنصريتهم وعدوانيتهم - أمن الوطن للخطر، كما حدث في أفغانستان، والصومال والسودان وغيرهم، ومن ثم تصبح المبالغة في ردانة رواية لأنها ذكرت لفظة جنسية أوعبارة سياسية الخ..، مثيرة للتساؤل، وتراتب الأولويات، ونحن هنا لا ندافع عن الابتذال، وإنما نشير لتلك النظرة الحولاءالتي تفترض أن الشعب كله قد تعلم القراءة والكتابة خصيصا، ليقرأ هذه الرواية، وأنه ترك عمله ومشاكله، وانتظرها بفارغ الصبر، لكي يفسد ويكفر !! وقد علمنا التاريخ، أن جل النظم الدجماطيقية -دينية كانت أو عسكرية - لايمكن أن تعيش إلا بالقمع والعدوان وربما ساعدنا ذلك علي فهم السر في تحالفهم مع أقرانهم وهو تحالف لايدوم طويلاً، لأسباب يطول شرحها، لكنهما-عادة- لايقدمان ل (شعوبهما) أي حرية يمكن ذكرها، أورخاء يمكن حصره!! فإن كانت عسكرية ورطتك في حروب داخلية وخارجية، حتي تحافظ علي (عقيدتها العسكرية) فتصنع عدواً تبرر به عسفها، وفزاعة تخيف بها منتقديها، وتبرر بها هزائمها، وإن كانت دينية- دجماطيقية- صادرت كل الحريات، وانشغلت عن كل تنمية، وقايضت الدنيا بالآخرة، ووصمت كل من يطالب يالعدل بالعمالة، وحاربت كل أشكال الديمقراطية بوصفها عملا من أعمال الكفر والبدع، ثم ماتلبث أن تنقسم علي نفسها وتتكاثر، وتحارب بعضها البعض، فنكتشف أننا بإزاء فصيل -عنصري لايمثل كل المتدينين، ولا أصل الدين - كما حدث للصومال - وشيئا فشيئا تحاسبك علي نواياك، وطول لحيتك، ويصبح شكلك أهم من مضمونك، وماتقوله عكس ماتفعله وتصبح المطالبة بأي شكل من أشكال التداول كفرا وعصيانا لولي الأمر، وتكتسب شرعيتها -لدي الغوغاء! والحق أن (غنائم) السلطة في العالم المتخلف، مغرية إلي حد يصعب مقاومته وهو مايجعل أكثر (الثوار) زهداً وتجردا ًيفكر ألف مرة قبل أن يسلم السلطة لرجالاتها، ففي المجتمعات الديمقراطية (المنحلة) لايستطيع (موظف)أن يأخذ ورقة من مكتبه ليكتب شيئا يخصه- كما حدث مع شارون وهو بطل قومي في نظر الإسرائيليين - فيما يستطيع أي مسئول في عالمنا السعيد أن يقود الجميع إلي جهنم دون أن يعتذر أو يعترف بخطئه! ولاتعرف لماذا تقترن السلطة - لدي الكثيرين - بالسياسة والسياسيين، رغم أنها تتجلي بصورمتعددة خارج هذا النسق التقليدي المغلق، فتمارس بشكل أو بآخر لدي العديد من الكائنات الحشرات، وتهدف لذات الهدف وهو: تنظيم الحركة والسلوك داخل العش، أوالسرب، سعياً لحماية النوع، وضمان الغذاء، والإقتصاد في بذل الطاقة. ولكن بقدر ما هي ضرورية لاستمرارهذه الكائنات، كثيراً ما كون مناطا للتسلط والإفساد لدي البشر، ربما بسبب ذكائهم، أوقدرتهم علي التعلم والاستيعاب، لكن جزءاً من مشكلة البشر أنهم لا يستطيعون أن يعيشوا بدون سلطة، وفي نفس الوقت لايستطيعون تحمل مظالمها !! وبما أن السلطة- كما اتفقنا- جزء من فطرة البشر، ومطمع لمن حرموا من النفوذ والمكانة بحكم وضعهم الطبقي أوالفئوي - فمن الأجدي أن نقومها بأقل الخسائر الممكنة، ونحرص علي تداولها بهدف الحد من فسادها وجمودها، ولعل أنجع الحلول الممكنة في وقتنا الراهن:هي الديمقراطية- بغض النظر عن رأي بعضنا فيها- بوصفها أقل الضررين، إلي أن يكتشف البشر ماهو أفضل وأنجع !! غير أن مابات يربك الجميع إنما يكمن في دخول عنصر جديد إلي حلبة الصراع وهو عنصر، لايستند علي عقل ناقد، ولا يمتلك حلولا جديدة، أو وعيا مفارقا ومع ذلك يستطيع أن يغير كل الحسابات ويطيح بكل التوقعات ألا وهو الرأي العام، تلك القوي الباطشة التي صنعتها وسائط الاتصالات الحديثة، بأكاذيبها المفجعة وأغلبيتها الساحقة، التي تستند علي ثقافة سمعية شفهية كارهة أقرب إلي النميمة، منها إلي أي شيء آخر، وباتت خطراً محتملاً حتي علي منشئيها!!