الثقافة نُحيت عن عرشها القديم كمحرك للتقدم فرض علي جيلنا الصمت والخروج من مصر محيط - شيرين صبحي بهاء طاهر يلقي بشهادته رفض المساومة علي أفكاره ومبادئه وارتضي المنفي بديلا، فأصبح العالم كله منفاه، ومع هذا تعلم ألا يفقد الأمل برغم كل عوامل اليأس.. هو الكاتب المبدع بهاء طاهر الذي قدم شهادة للتاريخ بمعرض القاهرة الدولي للكتاب ضمن فعالياته واحتفائه بالفائزين بجوائز هذا العام. قدمت الندوة الدكتورة أمينة رشيد معرفة بالأديب الذي عمل مذيعا في البرنامج الثاني وهو برنامج ثقافي حتي 1975 ثم أٌخرج منه مثل الكثير من مهازل حياتنا الثقافية -علي حد وصفها- ثم سافر إلي جنيف ليعمل في الأممالمتحدة من 1981 حتي 1995 ثم عاد إلي مصر. وأوضحت أنه مع كتاب الستينات ساهم في تجديد الرواية المصرية وربما العربية بصفة عامة، ويقول مجددي الرواية في فرنسا أن الرواية كانت في أوقات سابقة كتابة مغامرة وان الكتابة الآن أصبحت مغامرة الكتابة ، هذا الشعار ساد في فترة وأذكر أن خصوصية كتابة بهاء طاهر أنه يمزج بين الفنين فرواياته كتابة مغامرات وكذلك مغامرة في الكتابة . وأضافت أن شخصيات طاهر شديدة الثراء لها وجود بتناقضاتها، فهو يدخل في عمق الشخصية الإنسانية والعلاقات بين البشر ويستطيع ان يمسك بها. ولا ننسي المكان عند طاهر الذي ينقلنا من ريف الصعيد إلي الصحراء والمدن الحديثة. كذلك روايته لها زمن محدد قد يكون أسطوري مثل "خالتي صفية والدير" هذا الزمن الذي به العشق والانتقام وشدة المشاعر الإنسانية ، أو قسوة التاريخ مثل تناول صابرا وشاتيلا في رواية "الحب في المنفي" . نجد عنده كذلك صعوبة الحداثة التي نسعي إليها، كل انكسارات تاريخنا الحديث والمعاصر، يبقي في النهاية الإنسان ربما البطل الأساسي في رواياته بكل ثرائه وتعاسته وكذلك بكل سعيه لحياة أفضل. استهل طاهر حديثه قائلا أنه كان يعد نفسه للحديث عن تجربته ولكنها لن تكون منفصلة عن التطور التاريخي الذي أدي بنا إلي ما نعيشه اليوم أي حديث يخرج عن سياق اللحظة لا مجال له وأن تجربتي في الكتابة لا تنفصل عن التصور التاريخي الذي أوصلنا إلي اللحظة التي نعيشها. وأضاف "لقد بدأت الكتابة أواخر الخمسينات وأول الستينات مع جيل جديد متأثرين بتراث عريق عن دور الكلمة في المجتمع ومناخ جديد ترتب علي ثورة يوليو وتعلمنا التراث من أسلافنا الكتاب العظام الذين ظلوا يلعبون أهم دور في تطور المجتمع المصري حتي منتصف القرن العشرين ومنهم البارودي وشوقي وقبلهم محمد عبده وطه حسين والنديم وقاسم أمين ومعظمهم كانوا علماء دين من الأزهر عملوا جنبا إلي جنب مع كتاب علمانيين درسوا دراسة مدنية، وتعانوا علي تحقيق رسالة النهضة التي تلخصت في 5 عناصر أساسية وهي ما اسميتها "الحلم المصري" وهي استقلال الوطن، الديمقراطية السياسية، العدالة الاجتماعية، حق التعليم للجميع، تحرير المراة.. هذه كانت المكونات الأساسية للحلم المصري وجهد المثقفين المصريين علي مدي قرن ونصف. وكل هؤلاء المثقفين عانوا أشد المعاناة دخلوا السجن وتم نفيهم أو فقدوا أعمالهم لكن جميعهم دفعوا الثمن وكانت نتيجة إصرارهم علي رسالتهم أن المجتمع كان يتقدم باستمرار خطوة بخطوة، ويكفي أن نقارن بين حالة مصر في أخر القرن 18 وبين حالتها في نصف القرن العشرين، كانت الثقافة العثمانية التي تسيطر علي العقل وما بين منتصف القرن العشرين عندما كانت الثقافة عصرية، وقلت أن الثقافة المصرية الحديثة تكونت من خلال الصراع بين عنصرين، عنصر التتريك أي العودة لتقاليد الدولة العثمانية، وتقاليد الاستعمار الغربي الذي يريد ان يكون بديلا لهذه الامبراطورية العثمانية في الهيمنة علي مصر.
ثقافة "نعم" و"لا" جمال عبدالناصر
وأوضح أن المتغير الذي فرض نفسه عليهم هو النظام الثوري بعد 1952 والذي أحدث تغيير شامل في المجتمع وطرح علي الكتاب الشبان حينها تحديات لم يكن يعرفها أسلافهم أو اساتذتهم، "كنا متحمسين لتوجهات الثورة من ناحية محاربة الاستعمار وتحقيق الاستقلال الكامل والتركيز علي البعد القومي والعروبي، لكن من ناحية ثانية كنا رافضين أشد الرفض التوجه الشمولي للنظام وقمعه للتيارات الفكرية، ولما بدأت مع جيلي مشروعنا الأدبي كانت هذه الأزدواجية في الموقف من النظام أننا نقبله في جانب ونرفضه في أخر، مؤثر رئيسي ينعكس في أعمالنا الأولي". كذلك فهمنا للموروث الثقافي بأن الثقافة كانت هي الدافع للتقدم وبلورة القيم التي أدت إلي تقدم المجتمع، ولكن مع الأسف فهمنا لدور الثقافة تعرض لامتحان أو لمحنة مع بداية الثورة عندما اكتشفنا أن الثقافة نحيت عن عرشها القديم باعتبارها المحرك للتقدم وأصبحت من جملة الرعايا المُوجَهة وليست الموجِهة لحركة المجتمع، أصبح هناك ثقافة "نعم" التي توافق علي كل شىء وهذه تحظي علي الجزرة، وثقافة "لا" ليس أمامها سوي العصا. وعلق قائلا: "أظن أننا بشكل أو أخر ظللنا نعيش تلك المحنة حتي وقتنا هذا، وكان هذا من جملة ما رفضناه وما حاولنا أن نرفضه لكي نظل أوفياء للرسالة التي ورثناها عن أسلافنا العظام". "عندما بدأنا الكتابة كنا مجموعة من الكتاب من اتجاهات وتيارات مختلفة وكان من الصعب تصنيف المجموعة باعتبارها مدرسة فكرية، فكان كل منا عالم مستقل بذاته فأطلقوا عليها مجازا جيل "الستينات" واقتصرت كتابتنا في سنوات الستينيات علي القصة القصيرة ولم يكن هناك سوي رواية أو اثنيتن ومحاولات محدودة في الرواية". وتحدث طاهر عن صعوبة النشر لكتاب الستينيات الذين كانوا بعيدين عن السلطة تماما ويعانون من الأزدواجية التي تحدثت عنها ما بين القبول والرفض، فكان النجاح في نشر قصة قصيرة واحدة في هذا المناخ حدث عظيم جدا، فلم تكن هناك منابر نشر تماما. وأظن أنني في مجموعتي الأولي "الخطوبة" كتبت في إحدي طبعاتها تزييل ضمنته المقالات النقدية التي كتبت عن عنوان القصة وحدها والتي كانت أضعاف حجم القصة، الآن أي كاتب يكتب رواية واحدة يتمني أن يكتب عنه أي شىء، ولكن قيل عن هذه القصة عشرات المقالات.
القصة تحكي أن شاب ذهب لبيت حبيبته لخطبتها لكن أسئلة والد العروسة المحتملة ظل يسأله حتي تحولت المناسبة السعيدة إلي كابوس فظيع لهذا الشاب.. وقال عنها أحد الكتاب أن هذه القصة كاحتجاج أخلاقي وإنساني وعمل من أعمال النذير الاجتماعي يهتك أسرار الخيمة المهترئة التي تغلف الواقع وتحاول التعمية عليها.. وكان هذا الكلام ربما يصف معظم القصص التي كانت تنشر في ذلك الحين. "ما يلفت نظري لهذه الحكاية فهمي لدور الأدب والكتابة كدافع للتقدم حتي وإن تعذر فيه أن يعبر المرء بصراحة عما يريد أن يقوله، فلم يكن يعدم الوسيلة أنه يشير إلي أوجه الخلل الاجتماعي ويحتج عليها من خلال الكتابة وكانت الرسالة تصل". وأضاف أن هناك كلمة للكاتب أنطون تشيكوف لا أمل من تكرارها هي " أنني لا أكتب عن الأشياء المحزنة لكي تبكوا عليها وإنما لكي تغيروها" وأظن أن هذا أحد أدوار الأدب بأن يقدم الواقع بهدف تغييره، ولكن بشرط أن يظل الأدب أدبا لا يصبح رسائل دعائية أو مقالات سياسية لكن لها معاييرها وإن تناولت السياسة إنما تتجاوزها لوضع إنساني أشمل وأرحب. وأشار طاهر إلي عنصر واحد في تجربته وهو "اللغة" فأكثر من ناقد ممن تناولوا مجموعة "الخطوبة" تحدث عن اللغة إما بالتأييد أو المعارضة، والتي كانت تخلو من كل زخرف بلاغي، عنصر الوصف بها محدود جدا، جملها خبرية ألفاظها قاطعة الدلالة، يلعب بها الحوار دور أساسي. فكان من النقاد من رأي في ذلك الوقت أن هذه اللغة فقيرة جدا وغير أدبية، ومنهم من اعتبر أنها تؤسس لبلاغة مختلفة. والآن أفكر في هذا الموضوع بأثر رجعي باعتقد أن حرصي وحرص كثيرين من كتاب الستينيات علي تجنب البلاغة في الكتابة كان يهدف إلي إيقاظ وعي القارىء وليس تخديره بموسيقي الكلمات والأوصاف المجنحة للوصول إلي تحقيق مشاركة إيجابية من القارىء بأن يبذل جهد ربما يوازي جهد المبدع وأن يظل متيقظا باستمرار أثناء القراءة، وهي اللغة التي قال عنها ابن المقفع "التي إذا قرأها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها". وأضاف: نحن تحملنا كثير جدا من الهجوم لكن أظن الآن أن لغة الأدب تطورت في هذا الاتجاه، اللغة الموضوعية التي لا تسرق انتباه القارىء بالبلاغة الشكلية وإنما تهدف إلي إيقاظ وعيه. واعتقد إذا كان هذا صحيحا فإن العذاب الذي تعذبناه من هجوم النقاد علينا، وجد العزاء الكافي في هذا الوقت. ناقدون وليسوا رافضين بهاء طاهر وتوقف طاهر عند محطات معينة موضحا أن الأحداث التي واكبت سنوات السبعينيات جعلت من هذا العقد مفترق طرق في تاريخ الكتابة ومسار الثقافة والتاريخ المصري والعربي عموما، فقد داهمتنا نكبة 1967 وخيمت بظلها الكثيف علي حياتنا وعملنا وأكثر من كاتب بعدها نبهوا أن كل كتابات جيل الستينيات كانت تحذر من أننا مقبلين علي كارثة وبشكل خاص "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" لأمل دنقل، وكذلك في النثر. وعلق "ولكن كل صيحات الاحتجاج ذهبت سدي، رغم أننا لم نكن رافضين لنظام عبدالناصر لكن ناقدين له ونتمني أن نتخلص من الجوانب السلبية وعلي رأسها أن تكون الثقافة لها دور القيادة وليس التبعية وأن يكون لكل إنسان مكان في المجتمع بقدر موهبته بوضع الإنسان الصحيح في المكان الصحيح. لكن رد فعل السلطة في الواقع كان عنيف جدا علي الاحتجاجات التي قمنا بها فمنا من دخل السجن أو تم رفده أو ايقافه عن العمل وغير ذلك. وقال أنه من الغريب أن النكسة أتاحت الفرصة لأول مرة لجيلنا أن يسمع صوته لأن السلطة أحست أن هناك موجه غضب عارمة بعد النكسة، فسمحت بنوع محدود جدا من تنفيث هذا البخار المكتوم، فسمحت في هذا الوقت أن نصدر مجلة "جاليري 68 " وهذه المجلة المتواضعة هي التي بلورت ملامح الأدب الجديد في ذلك الوقت والذي كان مختلفا في لغته وأسلوبه عن الاتجاهات التي كانت سائدة، حيث يتجه نحو التجريب ورفض القوالب الجاهزة. الوعاظ بدلا من المثقفين وأكد طاهر أن "جاليري 68 " دار علي صفحاتها أعنف وأكثر النقاشات الأدبية خصوبة عن الأدب الجديد في ذلك الحين، لكن مع الأسف فإن "السلطة التي تولت أمورنا في السبعينات كانت مصممة علي تغيير أشياء كثيرة جدا في المجتمع، فبدأت العهد بأن أغلقت كل المجلات الثقافية وبدأت بمجلة "المجلة" التي كان يرأس تحريرها يحي حقي، ثم صفت باقي المجلات الثقافية والمنابر مثل هيئة المسرح ومؤسسة السينما وغيرها وانتهي سريعا شهر عسل قصير وجد بين المثقفين والسلطة في حرب 1973 ، فبعد أن وضعت الحرب أوزارها اكتشف كبار المثقفين أن من بقي من قادة الفكر لم يعد لهم عمل ولا مكان في المجتمع واضطروا إن يهاجروا من البلد، واختفت المجلات التي كنا ننشر فيها أعمالنا وفرض علينا الصمت بل والخروج من مصر". وأوضح طاهر أنه منع من النشر من عام 1975 إلي عام 1983 وفرض علينا الإبعاد، وفي المنفي كتبت "أبناء رفاعة.. الثقافة والحرية" شرحت به كيف فرغت السلطة من المثقفين واستبدلتهم بالوعاظ الدينيين، وقد صاحب هذا هجوم شديد علي المثقفين، فكل من قال "لا" تم ابعاده وكل من قال "نعم" تمت ترقيته، وإلي الآن الثقافة لم تعد لها قيمة فالذي يدير الأمور في كل الأقطار العربية هو الأمن وكل ما يمكن قوله هو من قبيل العزاء لا من قبيل الثقافة الحقة.