مكة تنادي.. مُلكي يحيط بجسم الإنسان كما تحيط روحه الكعبة رمز وحدانية الله وتختلف عن كل مساجد الأرض ملابس الإحرام تعلن سواسية الحجاج أمام الله وتجردهم من كل الفروق "ها نحن أولاء نمضي عجلين، طائرين على السهل يخيل إليّ أنّا نطير مع الرياح مستسلمين لغبطة لا حد لها ولا نهاية. والريح تعصف في أذني صيحة الفرح: لن تعود بعد غريباً، لن تعود.. إخواني عن اليمين، وإخواني عن الشمال ليس بينهم من أعرفه وليس فيهم من غريب، فنحن في الجذل المصطخب، في هذا السباق، جسد واحد يسير إلى غاية واحدة. فسيح أمامنا العالم، وفي قلوبنا جذوة من النار التي وقدت في قلوب أصحاب رسول الله، يعلم إخواني أنهم قصّروا، ولكنهم لا يزالون على العهد، سينجزون الوعد". هكذا يصف محمد أسد شعوره أثناء إفاضته مع الحجيج من عرفات، مؤكداً في كتابه "الطريق إلى مكة" أن الإسلام بالنسبة له طريقا لا غاية. والمفكر محمد أسد، هو "ليوبولد فايس" نمساوي يهودي الأصل ، درس الفلسفة والفن في جامعة فيينا ثم اتجه للصحافة فبرع فيها، وغدا مراسلاً صحفياً في الشرق العربي والإسلامي ، فأقام مدة في القدس . ثم زار القاهرة فالتقى بالإمام مصطفى المراغي ، وحاوره حول الأديان ، ثم بدأ بتعلم اللغة العربية في أروقة الأزهر، وهو لم يزل بعدُ يهودياً . كان ليوبولد فايس رجل التساؤل والبحث عن الحقيقة، وكان يشعر بالأسى والدهشة لظاهرة الفجوة الكبيرة بين واقع المسلمين المتخلف وبين حقائق دينهم المشعّة، وفي يوم راح يحاور بعض المسلمين منافحاً عن الإسلام، ومحمّلاً المسلمين تبعة تخلفهم عن الحضارة، لأنهم تخلّفوا عن الإسلام ، ففاجأه أحد المسلمين الطيبين بهذا التعليق: "أنت مسلم ، ولكنك لا تدري !" . فضحك فايس قائلاً : "لست مسلماً ، ولكنني شاهدت في الإسلام من الجمال ما يجعلني أغضب عندما أرى أتباعه يضيّعونه"!. لكن هذه الكلمة هزّت أعماقه ، ووضعته أمام نفسه التي يهرب منها ، وظلت تلاحقه حتى نطق " محمد أسد" بالشهادتين. يقول الدكتور عبد الوهاب عزام في تقديمه للكتاب : "إنه استجابةُ نفس طيبة لمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، وإعجابُ قلب كبير بالفطرة السليمة، وإدراك عقل منير للحق والخير والجمال". قام محمد أسد بعد إسلامه بأداء فريضة الحج، كما شارك في الجهاد مع عمر المختار، ثم سافر إلى باكستان فالتقى شاعر الإسلام محمد إقبال، ثم عمل رئيساً لمعهد الدراسات الإسلامية في لاهور. رحلته مع الحج "لبيك اللهم لبيك" لم أعد أسمع شيئاً سوى صوت "لبيك" في عقلي، ودويّ الدم وهديره في أذني ... وتقدمت أطوف، وأصبحت جزءاً من سيل دائري! لقد أصبحت جزءاً من حركة في مدار ! وتلاشت الدقائق .. وهدأ الزمن نفسه .. وكان هذا المكان محور العالم". يقول أسد عن مكة: بالرغم من أنني لم أكن قد عرفت مكة لسنوات عديدة فإنها كانت دائماً هدفي وغايتي. لقد نادتني قبل أن أعي نداءها بوقت طويل، بصوت قوي: "إن ملكي هنا في هذه الدنيا كما هو ملكي في الآخرة. إن ملكي يحيط بجسم الإنسان كما تحيط روحه وتمتد إلى كل ما يفكر ويشعر به وما يفعله إلى تجارته وصلاته، إلى غرفة نوم وسياسته، إن ملكي لا نهاية له ولا حدود". وعندما تبين لي كل ذلك خلال عدد من السنين، وعرفت أن أُخوة الإسلام تنتظرني منذ أن ولدت، فاعتنقت الإسلام. لقد تحققت أخيراً رغبتي أيام صباي: ان أنتمي إلى مدار معين من الفكرات والآراء، أن أكون جزءاً من أمة مؤلفة من أخوة. وعن الكعبة يؤكد أنه رأى مساجد كثيرة لكن شعوره لم يكن قط قويا كما كان الآن أمام الكعبة، يقول: إن جزءا من فريضة الحج أن تطوف بالكعبة سبع مرات، لا احتراما لقدس الإسلام المركزي فحسب بل لتذكير النفس بالمطلب الألساسي للحياة الإسلامية. إن الكعبة هي رمز وحدانية الله، وحركة الحاج الجسمانية من حولها هي التعبير الرمزي للنشاط الإنساني ومضمونه. إن أفكارنا ومشاعرنا وكل ما يشمله تعبير الحياة الباطنية ليست هي وحدها التي يجب أن يكون محورها الله، بل كذلك حياتنا الخارجية الناشطة وأفعالنا ومساعينا العملية. وتابعت طوافي ومرت الدقائق، وأخذ كل ما كان تافها ومراً يزايل قلبي، وأصبحت جزءا من سيل دائري – آه، هل كان هذا معنى ما كنا نفعل: أن نصبح واعين أن المرء جزء من حركة في مدار؟ هل كان ذلك نهاية كل حيرة؟. وعن ملابس الإحرام يقول أنه من تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في إبان الحج ينبغي أن يتجرد كل زائر لبيت الله الحرام من كل شعور بالفرق بين الأمم والأجناس، أو بين الغني والفقير لكي يعلم الجميع أنهم أخوة سواسية أمام الله. يقول: "جاءني الإسلام متسللاً كالنور إلى قلبي المظلم، ولكن ليبقى فيه إلى الأبد والذي جذبني إلى الإسلام هو ذلك البناء العظيم المتكامل المتناسق الذي لا يمكن وصفه، فالإسلام بناء تام الصنعة، وكل أجزائه قد صيغت ليُتمَّ بعضها بعضاً... ولا يزال الإسلام بالرغم من جميع العقبات التي خلّفها تأخر المسلمين أعظم قوة ناهضة بالهمم عرفها البشر، لذلك تجمّعت رغباتي حول مسألة بعثه من جديد". ويقول أيضاً: "إن الإسلام يحمل الإنسان على توحيد جميع نواحي الحياة ... إذ يهتم اهتماماً واحداً بالدنيا والآخرة، وبالنفس والجسد، وبالفرد والمجتمع، ويهدينا إلى أن نستفيد أحسن الاستفادة مما فينا من طاقات، إنه ليس سبيلاً من السبل، ولكنه السبيل الوحيد ، وإن الرجل الذي جاء بهذه التعاليم ليس هادياً من الهداة ولكنه الهادي. . إن الرجل الذي أُرسل رحمة للعالمين ، إذا أبينا عليه هُداه ، فإن هذا لا يعني شيئاً أقل من أننا نأبى رحمة الله !". رأيه في قضايا المسلمين يقر أسد أن المسلمين يتأخرون نتيجة وقوعهم في وثنية "التقدم" نفسها التي تردى فيها العالم الغربي، فيقول: إنهم يتركون أنفسهم يبتعدون عن اعتقادهم السابق بأن تحسين مستوى المعيشة يجب ألا يكون سوى واسطة لتحسين أحاسيس الإنسان الروحية. إنهم يسقطون في "وثنية" التقدم، ذلك أن كل تقليد ثقافي بخلاف الخلق والإبداع لابد أن يحقر الأمة ويقلل من شأنها. هو لا يقصد أن المسلمين لا يستطيعون الاستفادة من الغرب كما يوضح قائلاً أن اكتساب الأفكار والأساليب العلمية ليس في الحق "تقليداً" فالعلم لا شرقي ولا غربي، لكن المسلمين إذا تبنوا أشكال الحياة الغربية، والآداب والعادات والمفاهيم الاجتماعية الغربية، فإنهم لن يفيدوا من ذلك شيئاً، ذلك لأن ما يستطيع الغرب أن يقدمه لهم في هذا المضمار لن يكون أفضل وأسمى مما قدمته لهم ثقافتهم نفسها ومما يدلهم عليه دينهم نفسه. وتنبأ للجزيرة العربية بما يحدث الآن حين قال: " لا أزال أحبها كما أحببتها دائماً، أحبها حباً جماً بحيث يؤلمني أن أفكر فيما عساه يخبئه لها المستقبل. لقد قيل لي أن الملك ينوي أن يفتح صدر بلاده للفرنج كي يربح منهم الأموال، إنه سيسمح لهم بأن ينقبوا عن الزيت في الأحساء، وعن الذهب في الحجاز والله وحده يعلم ما سيجر هذا على البدو. إن هذه البلاد لن تكون هي نفسها كرة أخرى". ورغم كونه يهوديا قبل إسلامه إلا أنه سافر فلسطين، وكان يرى أن اليهود لم يكونوا يأتون إلى فلسطين كما يعود المرء إلى وطنه، ولكنهم كانوا مصممين على قلبها وطناً يهودياً على النمط الأوروبي، باختصار فقد كانوا اعداء داخل الأسوار، وهكذا فإنني لم اجد أيما خطأ أو جور في عزم العرب على مقاومة فكرة الوطن اليهودي في صميم بلادهم. بل على العكس أدركت أن العرب هم الذين كانوا يخدعون، وأنهم على حق بدفاعهم عن أنفسهم ضد هذه الخديعة". يواصل: برغم أنني من اصل يهودي، فقد كنت أحمل منذ البداية مقاومة شديدة للصهيونية. ففيما عدا عطفي الشخصي على العرب، كنت أعتبر أن من المخالف للأخلاق والمروءة أن يأتي الأغراب تسندهم دولة أجنبية كبرى من الخارج، وهم يصرحون علنا بعزمهم أن يصبحوا أكثرية في البلاد وينتزعوا بالتالي ملكيتها من الشعب الذي كانت ملكا له منذ عهد مغرق في القدم. أشهر ما كتب محمد أسد كتابه "الإسلام على مفترق الطرق"، كما قام بترجمة معاني القرآن الكريم وصحيح البخاري إلى اللغة الإنجليزية . كانت كتاباته تدل على فهمه الإسلام بشكل صحيح فكتب يقول: "الإسلام ليس فلسفة ولكنه منهاج حياة .. ومن بين سائر الأديان نرى الإسلام وحده، يعلن أن الكمال الفردي ممكن في الحياة الدنيا، ولا يؤجَّل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات الجسدية، ومن بين سائر الأديان نجد الإسلام وحده يتيح للإنسان أن يتمتع بحياته إلى أقصى حدٍ من غير أن يضيع اتجاهه الروحي دقيقة واحدة، فالإسلام لا يجعل احتقار الدنيا شرطاً للنجاة في الآخرة .. وفي الإسلام لا يحق لك فحسب، بل يجب عليك أيضاً أن تفيد من حياتك إلى أقصى حدود الإفادة .. إن من واجب المسلم أن يستخرج من نفسه أحسن ما فيها كيما يُشرّف هذه الحياة التي أنعم الله عليه بها، وكيما يساعد إخوانه من بني آدم في جهودهم الروحية والاجتماعية والمادية . الإسلام يؤكد في إعلانه أن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال في حياته الدنيا ، وذلك بأن يستفيد استفادة تامة من وجوه الإمكان الدنيوي في حياته هو". ويسلط محمد أسد الضوء على سبيل النجاة من واقعنا المتردي فيكتب :"ليس لنا للنجاة من عار هذا الانحطاط الذي نحن فيه سوى مخرج واحد؛ علينا أن نُشعر أنفسنا بهذا العار ، بجعله نصب أعيننا ليل نهار ! وأن نَطعم مرارته.. ويجب علينا أن ننفض عن أنفسنا روح الاعتذار الذي هو اسم آخر للانهزام العقلي فينا، وبدلاً من أن نُخضع الإسلام باستخذاء للمقاييس العقلية الغربية، يجب أن ننظر إلى الإسلام على أنه المقياس الذي نحكم به على العالم ..أما الخطوة الثانية فهي أن نعمل بسنة نبينا على وعي وعزيمة"