في هذه الأيام المباركة، وعندما يلبي الجميع نداء الخالق عز وجل "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك والملك لا شريك لك" ويهتز الجبل بأصوات الحجيج القادمين من كل أنحاء الأرض بإختلاف أجناسهم ومراكزهم الاجتماعية، رجالا ونساء من كل الأعمار فإن صدي هذه التلبية يتعدي المكان والزمان، ويظل راحلا في أنحاء الأرض، مثله في ذلك مثل ضوء الشمعة الذي لا ينطفيء بعد ذوبانها. إنه تجمع مهيب ولحظات تهز القلوب. وعلي الرغم من أن شعيرة الحج خاصة بمن اتخذ رسالة الرسول محمد صلوات الله وسلامه عليه نبراسا يهتدي به، إلا أنها مثلها في ذلك مثل كل الشعائر الإسلامية تحمل تبليغا وبلاغا لغير المسلمين. وأحد الرسائل الهامة التي تحملها هذه الشعيرة ضرورة التوحد علي الهدف الواحد هي القبلة _ بيت الله _ رمزا للحق والخير والرسالة السمحاء. إذا توحد المسلمون علي هذا الهدف الواحد صدقا وقولا وعملا لأصبح وجودهم وتضامنهم ونهضتهم مثلا يقود العالم إلي الخير، طليعة تجذب مواطني الأرض إلي نفس الهدف، وليس بالضرورة نفس الدين ونفس الشعائر. ومن شأن الحج أن يحول كثيرا من الناس في رؤيتهم وتوجههم، فعلي سبيل المثال نجد مالكوم إكس الأمريكي الأسود الذي ثار علي عنصرية البيض ضد السود، و أصبح هو نفسه عنصريا ضد البيض إلي أن ذهب إلي الحج، وهناك تغيرت رؤيته تماما، إذ شهد ذوبان البشر بعضهم في بعض، ورأي رهبة الموقف في يوم يترك الناس كل زائل فان، ويقفون وقفة واحدة لا ينفعهم فيها إلا عملهم، عندئذ شعر أن كل تحيز وتعصب ضد البشر من أجل لونهم أو جنسهم يخرج الفرد عن رسالة الإسلام، رسالة للسلام، وخرج من الحج وقلبه مفعم بالحب لكل البشر، وأراد أن ينشر هذه الروح بين "أمة الإسلام" التي كان يتزعمها محمد إليا، والتي قامت علي أكتاف الأمريكيين السود، وكأن الإسلام لهم وحدهم، ولاقي مالكوم إكس الاستنكار من هذه الجماعة، ولم يرحب به العنصريون من البيض أيضا. وقتل بأيد غادرة مجهولة الهوية، ولكن ما يهمنا في هذا السياق هو كيف غير الحج رؤيته وحياته. وعندما قرر أحمد بن عرفان في القرن الثالث عشر الهجري (1236 ه) أي القرن الثامن عشر الميلادي أن يجمع المسلمين في رحلة للحج، لم تكن الرحلة سهلة وميسرة كما هي الآن، وكانت رحلة الحج بما فيها من مشقة ومخاطرة باعثا لروح التعاون والخدمة، وجمعت الكثيرين من مختلف أنحاء الهند، ومن مختلف الطبقات والمهن، ولكن ذابت الأدوار الاجتماعية أمام الهدف الواحد، وشارك الجميع في خدمة بعضهم البعض دون تمييز بين غني وفقير. فكان الحج رحلة تحول لكل من شارك فيها. ونشرت النيويورك تايمر مؤخرا بعد حادث فورت هود مناقشة ثلاث رجال دين، أحدهم يهودي وآخر مسيحي وثالث مسلم، وعلي الرغم من اختلاف عقائدهم إلا أنهم اتفقوا ألا يتخذوا موقف عداء بعضهم من البعض، وعندما سؤل كل منهم عن أهم صفة يعظمونها في دياناتهم، قال االمسيحي "الحب غير المشروط، وقال المسلم"الرحمة" وأما اليهودي فقد أشار إلي "الوحدة الإنسانية". إذا نظرنا إلي الثلاث تعبيرات لوجدنا أنهم جميعا يحملون معني واحدا تحت عبارات مختلفة. كيف تكون هناك رحمة ونحن نشعر أننا أشتاتا متفرقة، لابد أن نشعر بهذا التلاحم الإنساني، وهذا التلاحم هو الذي يجعل الحب طاقة منطلقة بلا حدود ولا شروط ولا انتظار لجزاء، وهذه الوصف هو إشارة إلي الرحمة أيضا. إن كل الأديان توجه أصحابها إلي الرحمة والحب والوحدة الإنسانية، وهذا ما يشيعه وينشره وتؤكده شعائر الحج من بدايتها إلي نهايتها. ومن خلال هذه الشعائر والتفكر في رموزها والتفاعل مع رسالة كل شعيرة، يستطيع الإنسان أن يتخلي عن أناه الصغير، انطلاقا إلي التلاحم الكبير. منذ البدء وعندما يبدأ المسلم في الإحرام، فإنه يتخلي عن ذاتيته التي تربطه بهذه الأرض، ولا تكون له صفة إلا أنه عبد من عباد الله، وهذه التجربة في حد ذاتها يجب أن تستمر إلي ما بعد الحج، فيجعل الإنسان مركزه الاجتماعي والطبقي والعائلي أمورا هامشية وليست محورية في توجيه سلوكياته. ومن اللافت للنظر أن كل عبادات الإسلام تخرجنا من هذا الحيز الضيق في الشعور بالنفس إلي هذه الرحابة الواسعة، وما الصوم إلا تطهر من الرغبات الدنيا، وما الصلاة إلا خروجا من حياتنا الأرضية إلي الوقوف بين يدي الله. إنه نفس الهدف تعزفه حركة الإنسان بنغمات مختلفة لإيقاظ الروح الخامدة والحقيقة الكامنة في النفس الإنسانية التي كثيرا ما تضل طريقها. وعجبي من أناس يتغيرون ويتجبرون ويتألهون لمال يملكونه أو مركز قوة يتقلدونه ، ولابد أننا جميعا نعرف هذه الحالات التي تتضخم فيها الذات فيصبح فيها الإنسان غريبا عن أقرب الناس إليه. وقد يكون الحج نذيرا ومعلما لنا جميعا حتي لا نخدع أنفسنا بمن نكون طبقيا أو مهنيا، وبدلا من هذا نأخد من وضعنا الاجتماعي سلما للخدمة، لنحتفظ بصفة العبودية التي يوجهنا إليه االحج في الخطوة الأولي، وتوجهنا إليه كل العبادات بصورة مستمرة، وهي خطوة ضرورية كي يستطيع أن نذوب في الهدف الواحد. وتحمل التلبية معني لا يلتفت إليه الكثيرون ألا وهو أننا في الحج ، بل وفي كل عبادة نقوم بها إنما نلبي نداء الله لنا، فنداؤه دائم قائم، يدعونا أن نعود إلي الحق وإلي الخير وإلي الرحمة وإلي كل صفات الله الحسني، وذلك الذي يسمع النداء هو الذي يلبي الدعوة، كيف نسمع النداء عندما يعلو ضجيج الكراهية والحقد والانتقام، وعندما تتضخم الذات فتريد أن تفرض ألوهيتها وقوتها، وتنزل علي قلوبنا حجب الطلام. عندما يعلو صوت الحجيج ملبيا نداء الله، أليس هذا كفيلا بأن يخرج بنا من أصوات الغفلة العالية إلي الانصات. وأما الطواف حول القبلة (الكعبة) فهو أمر حياتي مستمر، إذ يحب أن نكون دائما متيقطين إلي الهدف الأسمي من كل فعل نقوم به في كل لحظة وفي كل طور من أطوار حياتنا، وفي أي موقع نعيشه ونحياه، فهو تأكيد للتلبية برمز آخر فيه الحركة المشيرة إلي واقعية الفعل في الحياة. وتجيء شعيره رمي الجمرات تحريكا للقوة الكامنة في أعماقنا لمقاومة ظلام نفوسنا بكل ما نملك متوجهين إلي الله أن يساعدنا ويعيننا. إنه سعي الإنسان الدائم لتكون حياتنا مليئة بالارتواء من مصدر الحق والحياة، متطلعة إلي الله. إن الرسالة التي يحملها الحج بقوة إلي الفرد هي نفس الرسالة التي يحملها إلي كل البشر في كل مكان وزمان، ألا وهي أن يتركوا التناحر والتنابذ والصراع من أجل أن يفرض البعض قوتهم وسيطرتهم علي البعض الآخر، وأن يتجمعوا من أجل خير الناس جميعا، ذلك أن كلنا أمام الله سواء لا فرق بين قوي وضعيف أبيض أو أسود أو أحمر أو اصفر، لا نحمل إلا قلوبا متجهة إلي الخير.. إلي الله الحق العدل والسلام. قد يكون من بداهة القول أن وحدة الهدف لا تعني أن الطرق التي تؤدي إليه لا بد أن تكون واحدة بالضرورة، وأن اختلاف الطرق إلي الهدف الواحد لا يؤدي إلي الصراع والتناحر، طالما أن هناك وضوحا في الرؤية. وعلي قدرة بساطة هذه الرؤية إلا أن تاريخ البشرية مليء بضياع الهدف، ولذا كان الحج ناقوسا سنويا يعيد تنبيه الناس إلي ضرورة نشر المحبة والسلام بين ربوع الأرض، فهل من مجيب؟