لاشك أن الفارق الحوهري بين القائد والجندي هو أن الأخير تابع منفذ , أما القائد فهو يرى أمامه لخطوات قادمة, وكلما كانت قدرة القائد على إستشراف المستقبل كبيرةً , كلما كانت خططه أكثر واقعية وأقرب إلى تحقيق الطموحات . ومن البديهي أن إعداد القادة القادرين على قراءة المستقبل تحتاج إلى تأهيل وتدريب على حسن التوقع ومعرفة السيناريوهات المحتملة في المسألة الواحدة , ووضع التصورات المختلفة لمواجهاتها , ولذلك نجد أن الفقهاء ألحقوا حكم المآل بحكم الواقع فلا ينفصلان , فالنظر في عواقب الأمور من فعل القادة المحنكين الذين عركتهم الأحداث والتجارب , فلا يكاد يخطو أحدهم خطوة إلا وأعد لها من الترتيبات ما يعالج به كافة الأمور المتوقعة , وأذكر أنني ذات مرة أجريت حواراً صحفياً مع جريدة الشعب في التسعينات وخلال إجابتي عن أحد الأسئلة أردت أن أهاجم نظام مبارك فقلت : إن هذا النظام يتحرك بغير رؤية مستقبلية فهو يسير في الطريق دون أن يسأل عنه حتى إذا اصطدم بالحائط في نهايته عاد أدراجه ليبحث عن طريق آخر يساكه دون أن يعرف إلى أين يؤدي هذا الطريق!! فالنظام يتخبط ولا يتعلم من تجاربه السابقة , ولقد جاءتني النيابة العامة لتحقق معي في السجن بتهمة إزدراء النظام والتحريض على كراهيته !! ولعلي أذكر للقارئ الكريم واقعة هامة حدثت في عهد عبد الناصر في عام 1956 إذ أن البنتاجون الأمريكي كان يكلف بعض الباحثين لديه بدراسة شخصيات معينة بشكل كامل حتى يتمكن من تقمص عقلية ونفسية هذه الشخصية المعادية للولايات المتحدةالأمريكية , وذلك على أساس توقع ما يمكن حدوثه من ردود أفعال لهذه الشخصية , وكان من بين هؤلاء الرئيس جمال عبد الناصر إذ خصصوا رجلاً مخابراتياً لدراسته , فلما وقعت مشكلة التمويل اليوغسلافي للسد العالي وتوقف هذا التمويل , أسرعت القيادة العسكرية في البنتاجون إلى سؤال هذا الرجل عن ما يتوقعه من ردود أفعال للرئيس حمال , ففكر قليلاً ثم قال : يؤمم قناة السويس !! فانزعجوا لذلك لكنهم في نفس الوقت استعدوا لهذا التوقع ولم يكد يمر إسبوع واحد حتى أعلن الرئيس جمال عن تأميمه للقناة فوقعت بعدها حرب 1956 . واليوم نحن نرى دولاً ترسم الخرائط والتصورات حول المستقبليات في شتى المجالات , وتضع الحلول لكافة المشكلات المتوقعة في ضوء دراسة متأنية للماضي وما فيه من عبر ودروس وتقويم شامل للحاضر وما لديهم من إمكانات حالية ومتوقعة , فهل نحن كمصريين في مصاف هذه الدول ؟! أم نحن نسير في طريق أشبه بعمال التراحيل الذين يعملون يوماً بيوم , بل وربما أدنى من ذلك خاصة إذا كانت هناك من المشكلات المعوقة للعمل والتي تجر الدولة إلى الوراء وتحول بينها وبين النظر إلى المستقبل الذي تتطلع إليه الجماهير الحريصة على حياة أفضل لها ولأجيال قادمة من الأبناء والأحفاد . إن التعامل مع المشهد الثوري الحالي يحتاج إلى نظرة ثاقبة لاستباق الأحداث وتقديم الحلول قبل وقوع الأزمة ونزع الفتائل قبل نشوب الصراع وليكن لنا العبرة في الرئيس المخلوع الذي لم يكن يقبل النصيحة ويؤكد أنه حاصل على الدكتوراة في العناد !! فإذا به يتأخر كثيراً عن المشهد القائم فجاءت قراراته على نحو لم تقبله الجماهير , وأذكر أنني علقت وقتها على ذلك بأن صاحب الفكرة يقبل النصيحة لكونه يمكن أن يُعدّل من فكرته , أما صاحب الهوى فلا يستطيع أن يوفق أوضاعه , وكذلك صاحب الشهوة لا ينتصح أبداً بل يتابع محاولته لتحقيق مآربه دون الاستفادة من درس أو تجربة مضت , ولقد نظرت في حكم مبارك فوجدت أن العقوبة القدرية تلاحقه لبغيه وظلمه وأن شهوة البقاء قي السلطة قد تمكنت من قلبه , وأن هوى تولية أبنه من بعده قد ملك عليه فؤاده , وبالتالي إفتقد التوفيق , وعميت البصيرة , حتى صار الأمر إلى الإطاحة به وبنظامه . ولعلنا في هذه الأيام ننظر بعين القارئ للتاريخ والمستشرف لغد أفضل ندرك ما علينا من واجبات نحو أمتنا وشعبنا وأنؤكد على أن التمسك بالسلطة أو السعي لها تحت أي دعوى لا يساوي شيئاً أمام مصالح الوطن العليا . أسأل الله تعالى أن يوفق حكومتنا والمخلصين في هذا البلد إلى استباق الأحداث وطرح الحلول المناسبة بما يعود علينا بالنفع العام . والله المستعان