دائما تكون الحرب راضية عن نفسها .. لا تلتفت للدمار ولكن تظل شرهة لحصد مكاسبها التي قد نراها في شال جدة ممزق أو نظارة صبي تندفع بعيدا فتعيش ويموت صاحبها أو لهفة المحبين المحرومة للأبد .. أو قد تأتي الحرب على مدن بأكملها فتمحوها ولا تتذكر مجرد الأسماء ! كانت تلك هي الأجواء المروعة لقصيدة جديدة أهداها الشاعر الفلسطيني الكبير مريد البرغوثي لقرائه الذين احتشدوا للحصول على توقيع كتابه النثري "رأيت رام الله" في طبعته الجديدة ، بحضور الدكتورة رضوى عاشور زوجة الشاعر ، ونجله الشاعر والكاتب البارز تميم البرغوثي وصاحب دار الشروق المهندس ابراهيم المعلم. ولكن الأمسية تخللها حديث عن الحب أيضا وليس الحرب بقتامتها، فجاءت قصيدة الشاعر "الحب في الحياة غير الحب في القصائد" والتي يقول فيها " الحب ذعر من قساوة الجمال نصال رغبة تلألأت على نصال احقاق طيب تكسرت على درج اطواق فلفل على مداخل المعابد . وعن الشهيد العربي ، قرأ "مريد" من قصيدته الشهيرة "لي قارب في البحر" يقول : جَسَدي خزانةُ كل ظلم الأرضْ .. جسدي سقوط العدل من عليائه .. جسدي انهماك الروح في إعداد نقمتها: مُتَكَرِّرٌ مثلَ الظهيرة، مثل حَبِّ القَمْحِ، مثلَ حكاية الجداتِ، مثلَ مطالب الأطفال مثل اللغمِ أَكْمن في الزمان، ومن يُعِدُّ القبرَ لي يخشى انتباهي وهو يدفنني! وببراعة استطاع مدير الندوة السيناريست الساخر بلال فضل أن يضفي مزيدا من البهاء على أمسية "مريد"، وقد طالب الحضور التصويت فاختاروا أن تكون الأمسية خالصة للأدب .. وقد كان ، فلا جدال عن ثورة ولا تنظير لحال مصر أو سوريا ، وربما كانوا يعلمون أن قصائد مريد ستكون أبلغ رد لكل الأسئلة التي تدور بالأذهان . وقد علقت الدكتورة أهداف سويف على قصائد مريد بقولها أن ثلاث جمل فقط استغرقت منها شهورا لترجمتها، ومعروف أنها مترجمة عمله للإنجليزية، وقالت أن السبب يكمن في بلاغة الجمل بشكل لا يسهل التقاط كلمات مترجمة تعبر عنها. وتذكرت علاقتها برضوى ومريد منذ كانا طالبين بالجامعة وكانت شاهدة على قصة حب كبيرة جمعتهما، وسعيدة لكون الحب دافعا لهما للنجاح وليس كما يروج البعض بأنه سبب في ترك الإنسان لأهدافه. أما الكاتبة رضوى عاشور فقالت جملا موجزة، التقطت خلالها روح السخرية عند مريد زوجها، والذي يحب أن يقال له في بيته أنه مواطن درجة أولى، وقالت أنها منذ أن سمعت شعره توقفت عن كتابة الشعر تماما، وقد بهرها أيضا بقدرته على إخراج التراث الشعبي الفلسطيني للعالم وجعله أيقونة من النفوس في أرجاء العالم العربي لتوصيل القضية الفلسطينية . وأكدت رضوى أن أعمالها الروائية مثل الطنطورية ما كان أن تخرج بهذا الشكل المتعمق في حياة الفلسطينيين لولا زوجها . الشاعر "تميم" فضل أن يقول لوالده شعرا ومن قصيدته :" اجري وراك على حصاني فيسبقني البراق تحتيك/ تقولي شد خلي المهر يتجنح/ أشد عليه وعيني عليك/ في باطن كفي حاسس بالعرق يرشح / ونفسي اسبقك مرة عشان ارضيك ". ثم يقول بمقطع آخر منها "أسرينا لدير غسانة ورجعنا بسنة وفرض / قلت الارض دي بتاعتك هدية ومسؤولية وعرض / كملت حروف اسمي ونبرة صوتي والمشية ونظرات العينيين/ حطينا طلقتنا في بيت النار وقلنا يا معين" أما الشاعر مريد البرغوثي، ففي رده على تساؤلات الحضور، اعتبر أنه لكي تكتب شعرا جيدا لابد أن تكون منتبها تماما ، فالشعر كالحب حالة يقظة وانتباه، والفرق بينه وبين محمود درويش أن درويش كان يغني لفلسطين وهو – أي مريد – يبنيها؛ فدرويش يقول عن الزهرة البنفسجية، ومريد يتحدث عن أدوات المطبخ والطاولة والحقيبة والأشياء الملموسة ، ويغوض بتفاصيل الأشياء، فلا يقول يحيا الوطن ولكنه يشرح بشعره كيف يحيا أيضا ولمن .. وأكد "مريد" أنه من الخطأ أن نظل نحصر الشعراء في لون كتابة نثري أو تفعيلة أو غيره، لأن الكتابة عملية إبداعية مفتوحة وقد تجيء قصيدة واحدة تهزم مقاييس الشعر العربي التقليدية . وعن كتابه "رأيت رام الله" أكد مدير الندوة الكاتب بلال فضل أنه ملحمة تحكي قصة الأب بابنه وتسرد من خلالها القضية الفلسطينية بتفاصيلها اليومية المعاشة، ثم يجيء الجزء الثاني الذي تمنى بلال أن تطلع بنشره دار الشروق وهو "ولدت هنا .. ولدت هناك" والذي يستكمل السيرة الذاتية والوطنية حتى 2008 بشكل نثري يشبه الشعر ويظنه البعض سرد روائي ! ساعة مع الشعر تخللت الأمسية قصائد رومانسية خالصة، ومنها القصيدة الشهيرة لمريد "غمزة" يقول منها "غمزةٌ مِن عينها في العرس و "انْجَنَّ الوَلَدْ ".. وكأنّ الأهلَ والليلَ واكتافَ الشباب المستعيذينَ مِن الآحزانِ بالدبكةِ .. والعمّاتِ والخالاتِ والمختارَ .. صاروا لا أَحَدْ .. وَحْدَهُ اللَّوّيحُ .. في منديله يرتجُّ كلُّ الليلِ .. والبنتُ التي خَصَّتْهُ بالضَّوْءِ المُصَفّى .. أصبحتْ كلَّ البَلَدْ وفي قصيدته التي يتحدث بها لنفسه قائلا "لست نجما لهذا الزمان" يقول : لست يا شاعر نجمهم .. أولئك بحارة يسرعون إلى صخرة الارتطام .. ربما تهلك الآلة كالهالكين .. فخلي الهلاك اضطرارا وليس انسجاما" ثم يختتم قصيدته بقوله "أتقن الشعر حتى تغار اللغة .. أتقن الحب حتى يغار الخيال.. أتقن العمر حتى يقال لقد شابهت نفسه نفسه .. أتقن الموت حتى يفز احتراما" وتعالت صيحات المنادين بقصيدة "رضوى" الشهيرة التي كان مريد قد كتبها عن زوجته في ديوانه "طال الشتات" الصادر عام 1987 ومنها يقول مريد : على نَوْلِها في مساءِ البلادْ تحاول رضوى نسيجاً وفي بالها كلُّ لونٍ بهيجٍ وفي بالها أُمّةٌ طال فيها الحِدادْ ثم يختتم عن رضوى قائلا : في كفِّها النَّوْلُ، متعبَةً، تمزجُ الخيطَ بالخيْطِ واللونَ باللونِ تَرضى وتستاءُ لكنها في مساءِ البلادْ تُريدُ نسيجاً لهذا العراء الفسيحِ وترسمُ سيفاً بكفّ المسيحِ وجلجلةً مِن عِنادْ أما قصيدة مريد المعروفة ب "ليل لا يشبه الليل" فقد أوجعت القلوب؛ حيث تتخيل شهيدا طفلا غدر به الصهاينة عاد لداره الفلسطيني، والجميع يكادون يصدقون لولا أن أفاقوا على الفجيعة مجددا ، ومنها يقول الشاعر : يخطو إلى باب غرفته حيث صورته بجوار السرير الصغيرِ، وحيث حقيبته المدرسية ساهرة في الظلام يرى نفسه نائماً بين حلمين أو علمينِ يدقُّ على غرفِ البيت، يوشكُ لكنه لا يدقُّ فيستيقظ الكلّ في ذهل: عاد! والله عاد! يصيحون لا يسمعون لصيحتهم أي صوت، يمدون أذرعهم لاحتضان محمدَّ لكنها لا تلامس أكتافَهُ وفي ختام القصيدة يقول الشاعر وعند الصباحِ تهامَسَ أهل الجِوارِ بأنّ الروايةََ محضْ خيال، فهذي حقيبته المدرسية مثقوبة بالرصاص، على حالها، ودفاتره غيرّتْ لونَها، والمعزّونَ ما فارقوا أمَّه، ثم كيف يعودُ الشهيدُ إلى أهله، هكذا، ماشياً، رائقاً تحت قصفِ مساءٍ طويلْ ! في قصيدته "لي قارب في البحر" قال مريد أنها تعبر عن حالنا رغم أنها كتبت من ربع قرن يقول فيها : وأنا بِلادُ الروح تبني لي كهوفاً من سرائرِها بلادُ الله تُنْكِرُ خطوتي فيها بلادُ الموتِ تفتح لي حُدوداً دون أختامٍ، وتستعصي على عيني بِلادي. وأنا عنادٌ فاجِعٌ وأنا عيونٌ أجَّلَ التاريخ دمعتَها وكَلَّفَها التيقُّظَ في الظلامْ أنا نظرةُ الإلحاحِ في قومي إذا عَزَّ الكلامْ وأنا خِتامُ هزائم العربيِّ وهو هزيمتي الأولى، وعاري طائِلُه وفي ختامها يقول : قل إنني بحرٌ تتالي فيه غرقاهُ الكثارُ وما بَدَتْ للمبحرين سواحِلُهْ قل إنني المجنونُ أُبْصِرُ مَوْتَ حُلْمٍ رائعٍ وأواصِلُهْ. وأواصِلُهْ. وأواصله قصيدة "الحرب راضية عن نفسها" كاملة