حمل الربيع العربي إلى العالم الإسلامي الكثير من السمات التي كان أبرزها صعود التيار الإسلامي في معظم بلدان الربيع العربي، وارتباط هذا الصعود بتفاقم ظاهرة الفتاوى الدينية الشاذة التي لم تعد تقتصر على قضايا اجتماعية، بل تعدى الأمر إلى توظيفها في مسائل سياسية، وصلت لحد الإفتاء بجواز قتل المعارض السياسي لمخالفته رئيساً منتخباً، أو بجهاد النكاح في "سوريا"، وحتى بتحريم جلوس الأب وابنته منفردين، وهي الفتاوى التي دفعت بعلماء في دول إسلامية كثيرة إلى التحذير من مخاطرها وعدم الأخذ بها، كما فعل مفتي تونس بالنسبة لفتوى جهاد النكاح. ولهذه الظاهرة أسباب ساعدت على انتشارها بشكل واسع بين الفينة والأخرى، الأمر الذي دفع البعض لوصفها "بفوضى الفتاوى"، لاسيما وأن معظمها لم يصدر عن مصادر موثوقة أو متفق عليها في العالم الإسلامي. جذور وعلاج وعن الأسباب التي دعت إلى تفاقم هذه الظاهرة، قال الدكتور "علي عبد الباقي" - أمين عام مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر : "إن تعدد المذاهب واعتداد كل برأيه والغلو والإفراط وشبهة السياسة، أدوا إلى ظهور الفتاوى المخالفة التي فيها مغالاة"، معتبراً تعدد القنوات الفضائية والعمل التجاري والسعي إلى الربح عاملاً أساسياً في انتشار الفتاوى العشوائية، وتهميش كبار العلماء والمفكرين الإسلاميين، الذين أعلنوا عدم رضاهم عن الظاهرة التي أنتجت هذه الفوضى في الفتاوى التي نشهدها اليوم، وجعلت صوتهم غير مسموع". أما على مستوى علاج هذه الظاهرة، فأجمع العلماء على أهمية مراعاة ضوابط وآداب الفتوى كحل مبدئي للتصدي لهذه الظاهرة، بما يوجب على المفتين الالتزام بها عند نظر الجديد من الفتوى لضمان الحفاظ على المقام العالي لها من الشريعة. ومن ناحية أخرى فإن توحيد جهة الفتوى يعتبر من أهم دعائم التصدي لظاهرة الفتوى العشوائية، إذا كانت دار الإفتاء منذ إنشائها هي المنوط بها بيان الحكم الشرعي, في كل ما يستجد في حياة الناس, وهي تعنى بإصدار الأحكام والفتاوى الشرعية بمنهجية علمية منضبطة, تراعي الواقع والمصالح والمآلات والمقاصد الشرعية. وبدوره قال الدكتور "إبراهيم نجم" مستشار مفتي الجمهورية: إن إشكالية فوضى الفتاوى تحدث عند ما يتصدر غير المتخصصين لإصدار الفتاوى، مشدداً أن أهم سبل علاج هذه الظاهرة هو توحيد جهة الفتوى؛ حتى يتم القضاء على من يتاجرون بالفتاوى، ويفتون بكل ما يحلو لهم في الفضائيات, مؤكداً أن الأزهر الشريف هو المرجعية الرئيسة للشأن الإسلامي في "مصر". وإذا كانت المؤسسات الدينية تحذر من الانسياق وراء الآراء الشاذة والغريبة التي حفلت بها كتب التراث والفقه الإسلامي القديمة, فإن علماء الدين يطالبون جميع من تتوافر فيهم شروط الفتوى ويتصدون لتلك المهمة الجليلة بالتزام منهج الوسطية، ويقول الدكتور محمد السعدي (مدرس البلاغة والنقد بجامعة الأزهر): إنه يجب على الفقهاء ومن يتصدون للفتوى, التزام منهج الوسطية التي توازن بين الثوابت والمتغيرات, فلا إفراط ولا تفريط, فالناس في حاجة إلى تبني منهج التيسير والاعتدال في الفتاوى. سلاح سياسية هذا وقد انتعشت بورصة الفتاوى السياسية في "مصر" كدولة من دول ثورات الربيع العربي، ووجهت بالأساس ضد منافسي التيار الإسلامي من فلول النظام السابق أو الليبراليين، بل اعتبرت أن الأقباط في منافسة سياسية مع المسلمين، وصدرت فتاوى ضدهم، وبدا إشهار سلاح الفتاوى الدينية عاملاً مؤثراً في كافة الانتخابات والاستفتاءات. وامتد خطر انتشار الفتاوى حتى وصل إلى الحد الذي أخذت فيه الظاهرة تداخلاً سياسياً مع فكرة تكفير الأنظمة، فضلاً عن توظيف تعبير التكفيريين للتغطية على السياسات الخاطئة وقمع الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالحرية. وفي هذا السياق قال الدكتور "محمد مهنا" - مستشار شيخ الأزهر -: إن هذه الفتاوى لا تعبر بحال من الأحوال عن موقف الأزهر الذي وصفه بأنه منبر الوسطية، واستنكر "استغلال اسم الأزهر، وهو المؤسسة الإسلامية العريقة في الفتاوى السياسية التي تستهدف ترجيح كفة مرشح أو آخر، منوهاً بأن هذا النوع من الفتاوى ينال من هيبة الأزهر الذي حرص "طوال أكثر من ألف عام على أن تكون عينه على الأمة، لا على السلطة أو الكرسي، وهو ما أناله مركزه كمرجعية إسلامية وطنية وعالمية". خيط النجاة ومع استمرار الشكوى من فوضى الفتاوى، وتفشي ظاهرة الفتاوى الشاذة، وتعثر إيجاد حلول ناجحة على الأقل في "مصر"، فإن الأمر يحتاج إلى وقفة حقيقية وعملية، تنقذ المسلمين من عبثية غير المتخصصين، وهو ما أكد عليه الدكتور "يوسف القرضاوي" - رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين - من خلال دعوته لإنشاء معهد للفتوى، أو استحداث تخصص للفتوى في الكليات، لتكوين العلماء المؤهلين للإفتاء. وتبقى تجربة المملكة العربية السعودية في هذا الشأن تجربة رائدة، حيث اتخذت قبل عامين قراراً بقصر الإفتاء على هيئة كبار العلماء. وفي النهاية يبقى التساؤل عن الجهة المسئولة عن فوضى الفتاوى المنتشرة في العالم الإسلامي؟