ما أن وقعت عيني على الجريدة البريطانية التي وجدتها على مكتبي . حتى جذب انتباهي الخبر والصورة . كان الخبر عن فتاة بريطانية تدعى كارولين بيلى . تم القبض عليها في نيويورك وهى تهم بصعود الطائرة المتجهة الى بلادها ، بعد أن شك رجال أمن مطار نيويورك في مظهرها ، وعندما قاموا بتفتيشها عثروا على كيس جثة طفل حديث الولادة ، داخل الكيس ! وكان من الواضح أن الطفل الذي مات خنقا هو ابن "الفتاة" البريطانية التي أحيلت الى المحاكمة وبدأت الصحف البريطانية تتبع أخبار محاكمتها . كيف تجرؤ أم على قتل وليدها ؟ حتى هذه اللحظة لا أستطيع العثور على إجابة . في الحال يأخذني الخبر القصة المؤلمة .. الى قصة أخرى عشتها بنفسي منذ حوالي أربع سنوات ، ولم تمحها الأيام من ذاكرتي حتى اليوم . ولا أظن أنها سوف تنمحي . .. ويا لها من قصة ! في صباح ذلك اليوم منذ أربع سنوات .. دلفت بسرعة عبر باب الجريدة وأنا أهرول ناحية المصعد لأنني تأخرت عن موعد عملي . في نفس الوقت صاح بي موظف الاستعلامات : سيدي .. هذه الزائرة تجلس في انتظارك منذ ساعة . التفت ناحية المرأة فوجدتها شابة في العشرينيات من عمرها ، تحمل بين ذراعيها طفلة رضيعة كانت هادئة صامتة . لكنى لاحظت آثار تورم عينيها من البكاء ، فطلبت منها أن تصعد معي الى مكتبي. كنت قد تعودت أن يحضر الكثير من القراء الى الجريدة ، حيث يرون الى مشاكلهم وهمومهم . فأكتب بعضها وأحاول حل بعضها . وتعودت أن يكون أغلب هؤلاء من النساء اللائى لهن مشاكل زوجية . تصورت أن المرأة الشابة من هذا النوع ، وأنها جاءت لتشكو أن زوجها يضربها ، أو أنه غادر بيت الزوجية بلا رجعة . وتركها مع طفلتها الرضيعة دون نفقة . هكذا تصورت . لكنى لم يخطر لي على بال إطلاقا أنني خلال دقائق جيزة سوف أكون شاهدا على جريمة قتل بشعة!جلست المرأة الشابة في هدوء غريب على المقعد المواجه لمقعدي ، عندما عرضت عليها أن تشرب شيئا هزت رأسها بالنفي القاطع ، ثم سرعان ما انخرطت في البكاء الشديد ، حاولت أن أهدئ من روعها بكلمات التسرية المعهودة التقليدية ، لكن المشكلة أنني لم أكن قد عرفت بعد ما هى مشكلتها ! . قالت لي وهى تبكى : أنا قارئة من قرائك .. وأنني في ورطة شديدة لا أعرف ماذا أفعل ؟ سألتها : أي خدمة لن أتردد في تقديها لك ..لكن ما هى مشكلتك ؟ توقفت عن البكاء فجأة . التمعت عيناها بنظرات غريبة ، جعلتني ارتجف وأنا جالس مكاني . قالت : لقد ارتكبت جريمة قتل ! لم أصدق أن هذا الوجه الملائكي يمكن أن يكن وجه قاتلة . مع ذلك سألتها : قتل .. من هذا الذي قتلته ؟ ألقت بالمفاجأة التي كان لها وقع الصاعقة علىّ نظرت الى طفلتها الرضيعة التي تحملها بين ذراعيها . وهمست : قتلت طفلتي .. هذه ! وجدت نفسي أقفز من على المقعد الى ناحيتها ، وبلا شعور حاولت انتزاع الطفلة منها، لكنى فجئت بها تحتضنها في شدة الى صدرها . عادت تردد بصوت هستيري : قتلتها .. قتلت طفلتي . كان الموقف غريبا بالفعل وقع نظري على وجه الطفلة البريئة فرأيتها مغمضة العينين لا تتنفس ،كاد قلبي ينخلع تألما تأثرا ، من جديد حاولت أن أخذ منها الطفلة لكنها واصلت التشبث بها . قلت لها : ربما لاتزال على قيد الحياة .. أعطيني إياها لأسرع بها الى أقرب طبيب . لكن الأم الشابة رفضت وأخذت تمطر وجه الطفلة بالقبلات . وهى تقول بصوت متهدج : لا .. لقد ماتت وانتهى الأمر . حاولت أن أفكر بسرعة فيما ينبغي أن أفعله . طلبت منها أن تنتظرني في مكانها لدقائق ، وأسرعت الى المكتب المجاور لمكتبي الذي يخص محمد عبد القدس نجل الكاتب الكبير الراحل إحسان عبد القدس ، بسرعة حاولت أن أروى له ما حدث ، وطلبت منه أن يتظاهر بأنه طبيب ، حتى يمكننا الحصول على الطفلة من بين ذراعي أمها ربما لاتزال فعلا على قيد الحياة . عاد محمد عبد القدوس معى الى مكتبى .. وقلت للأم المذعورة : هذا هو الطبيب .. أرجو أن تسمحي له بإلقاء نظرة على الطفلة. تقدم محمد عبد القدوس برفق منها ، لا أعرف كيف استسلمت وأعطته الطفلة ، وضع عبد القدس يده فوق فم الطفلة ثم رأسه على صدرها ، ثم حاول أن يعثر على نبض شرايين يديها ، لكن بلا جدوى . رفع محمد عبد القدوس وجهه عن الطفلة التي كان يحملها بين يديه . قال وعيناه قد امتلأتا بالدموع : انا لله وانا إليه راجعون .. البقاء لله ! جثة في مكتب ؟ وجريمة قتل بشعة ؟ كان لابد من إبلاغ الشرطة ، فغادرت المكتب اتصلت بهم ، طلبت منه ألا يحضروا بزي الشرطة الرسمي وانما بملابس عادية ، حتى لا نستثير الأم القاتلة ، فمن يعرف ماذا يمكن أن تفعل أيضا بعد أن قتلت فلذة كبدها ؟ وعدت إليها أحدثها محاولا العثور على الدافع وراء ارتكابها لهذه الجريمة ، التي تتناقض مع الطبيعة . فهمت منها أنها تزوجت قبل عامين فقط ، وأن حياتها عادية سوى بعض مشاكل مع أسرة زوجها ، وأن الزوج ضعيف الشخصية يميل دائما الى صف أهله ضد زوجته . قالت أن زوجها انصرف الى عمله في ساعة مبكرة من الصباح ، بعد ذلك جلست وحيدة في الفراش تتأمل طفلتها النائمة ، ثم فجأة رفعت الوسادة وأطبقت بها فوق وجه طفلتها، ولم ترفعها إلا بعد أن أخمدت أنفاس الطفلة البريئة ، وماتت مخنوقة بيدي أمها وفى علم النفس يسمى مثل هذه الحالة . "الجنون اللحظي" الذي يصيب الإنسان فجأة ويجعله يفقد عقله فيرتكب من التصرفات ما لا يمكن تصديقه. ومر الوقت بطيئا .. أخيرا حضر رجال الشرطة الذين تظاهروا بأنهم أطباء ، وأخذوا الأم القاتلة وجثة الطفلة. وطلب رجال الشرطة منى أن أذهب معهم . لماذا ؟ قالوا : أنت شاهد في قضية القتل هذه ؟ استمر تحقيق الشرطة والنيابة حتى الغروب ، وعدت الى الجريدة مرة أخرى متعبا مرهقا وقد نالت الجريمة البشعة من أعصابي ، ووجه الطفلة المسكينة مغمضة العينين لا يفارق خيالي . في لحظة مثل هذه يكره الإنسان كل شئ . يشك في أي شئ ، يعجزه تصور ما حدث ما يمكن أن يحدث . تهالكت على مقعدي وأنا العن في سرى هذه المهنة التي تعرضني لمثل هذه المواقف. وشعرت بمن يفتح باب المكتب ، وعندما رفعت رأسي وجدته إبراهيم سعده رئيس التحرير . سألني : ماذا تنتظر ؟ قلت : ماذا ؟ قال : لم يبق على موعد طباعة الجريدة وقت طويل .. أكتب القصة فورا ! تذكرت كل هذا صباح أمس أنا أقرا خبر الأم البريطاني قاتل طفلتها في نيويورك ، تذكرت أيضا كيف عشت فترة ما يقرب من العام في أحداث القضية الأولى ، فقد كنت مضطرا طوال هذه الفترة الى حضر محاكمة الأم ، حتى أصدر المستشار محمد سعيد العشماى رئيس محكمة جنايات القاهرة حكمه في النهاية بإيداع الأم القاتلة في مستشفى الأمراض العقلية . لأن "شر البلية ما يضحك" كما يقولون ، فقد تذكرت وأنا ابتسم لنفسي في مرارة ، صباح اليوم التالي لهذه الجريمة البشعة ، فعلى الرغم من أنني سجلت بالكلمة والصورة تفاصيل ما حدث تماما ، إلا أن إحدى الصحف صدرت في نفس اليوم ، وهى تحمل عنوانا للقصة يقول " أم تقتل طفلتها وتطلب من الصحفي محمود صلاح مساعدتها في التخلص من جثة الطفلة"!. أي أن زميلي الصحفي الباحث عن الإثارة رأى أن مهنتي ليست صحافيا .. انا "حانوتي"!.