تعددت أنماط المواقف التركية من الثورات العربية، تبعاً لاختلاف المصالح السياسية والروابط الاقتصادية والتقديرات الأمنية، فاختلف موقفها في كل حالة على حدة، فتماثل موقفها من ثورتي "مصر" و"تونس" إلى حد كبير عن بقية الثورات العربية الأخرى. وفي هذا الإطار نحاول رصد أنماط المواقف من الثورات العربية، وكشف أسرار اتخاذ المواقف والسياسات التركية، حيث شهدت المنطقة العربية في أواخر عام 2010 ومطلع 2011، قيام عدد من الثورات العربية أطلق عليها فيما بعد "ثورات الربيع العربي"، بدأت بالثورة التونسية ونجحت في الإطاحة بالرئيس السابق "زين العابدين بن علي،" وبعدها، وبموجب نظرية العدوى، انتقلت إلى "مصر" ونجحت بإسقاط الرئيس السابق "محمد حسني مبارك"، وسرعان ما مرت الثورات حتى وصلت إلى "ليبيا" ونجحت هي الأخرى في الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي وقيام نظام جديد. علاوة على ذلك نجحت الثورة اليمنية في إجبار "علي عبد الله صالح" على التنحي، وانتخاب رئيس جديد، وعن الثورة السورية فلا تزال تعاني بصورة موجعة، ولم تصل إلى درجة النجاح التي وصلت إليها البلدان العربية الأخرى. وما يهمنا في هذا الإطار، هو توضيح موقف "تركيا" من الثورات العربية التي نجحت في إسقاط أنظمتها؛ كي نصل إلى المغزى الحقيقي خلف تلك السياسة التركية. رهان ومكسب وحول الثورة المصرية، أخذت "تركيا" موقف الداعم المباشر والصريح لها، وراهنت على نجاحها، وخاطرت بعلاقاتها مع النظام السابق. وكان يتضح ذلك من خلال قيام رئيس الوزراء التركي بعد 6 أيام من تفجر ثورة 25 يناير، بدعوة "مبارك" للتخلي عن الحكم، وحينما نجحت الثورة أيضاً، كان من أول المساندين لها، فقام الرئيس التركي بأول زيارة ل"مصر" بعد الثورة مباشرة، والتقى برئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، كما التقى بعدد من شباب القوى والائتلافات الثورية وممثلين عن الأحزاب المصرية. وحرصت "تركيا" بعد الثورة على تقديم الدعم الاقتصادي ل"مصر"، من خلال المنح والقروض المقدمة بشروط سهلة وبلا معوقات. ترقب وتتبع وفيما يخص الثورة التونسية، نجد أن موقفها لم يكن على نفس الموقف السابق، حيث أخذت دور المراقب للثورة التونسية في بداية الأمر، ولكن مع قيامها واشتعالها ومغادرة "بن علي" الأراضي التونسية، أعلنت "أنقرة" دعمها للثورة التونسية، وقال وزير الخارجية التركي "أحمد داود أوغلو": "إن الثورة التونسية قد تمثل نموذجاً تحتذي به بلدان أخرى تسعى للإصلاح". وعملت "تركيا" بعد نجاح الثورة على توطيد العلاقات السياسية والاقتصادية مع النظام التونسي الجديد، وبخاصة على الصعيد الاقتصادي، ووقعت أربع اتفاقيات تعاون بينها وبين "تونس"، مثل اتفاقية تقضي بتقديم قرض ل"تونس" بقيمة نصف مليار دولار، واتفاق لإلغاء نظام التأشيرات بينهما، علاوة على توقيع مذكرات تفاهم بشأن إقامة منطقة تبادل حر وتبادل المنتجات الزراعية. تردد وتحول أما عن الحالة الليبية، اتبعت "تركيا" نهج التردد والتذبذب في اتخاذ المواقف، وكانت الثورة الليبية كاشفة لموقف متناقض للسياسة التركية، فلم تلتزم بمبادئ الانحياز للإرادة الشعبية في مواجهة الأنظمة السلطوية مثلما حدث في ثورتي "مصر" و"تونس"، وطرحت ما أسمته خريطة طريق لتجاوز الأزمة الليبية، والتي كانت تقتضي بوقف العنف من كلا الطرفين، وعدم مواجهة نظام "القذافي" من خلال تسليح المعارضة، ومن ثم رفضت المعارضة الليبية هذه المبادرة، وعارضت أية تدخلات تركية في الشأن الليبي. ولكن بعد تحقيق الثوار الليبيين نجاحات ملموسة، تغيرت السياسة التركية حيال الوضع الليبي، وأعادت النظر في طبيعة المحددات الأمنية والاقتصادية التي وقفت وراء الموقف التركي المتردد والمضطرب حيال الأزمة الليبية. فبعد حدوث إجماع دولي على ضرورة تنحي "معمر القذافي" حيال الأزمة، انتقل الموقف التركي من الدعوة لإعطاء فرصة للحل السلمي للأزمة، ومعارضة اتخاذ قرار أممي بفرض عقوبات على النظام الليبي، إلى المطالبة في 3 مايو 2011 بتنحي "القذافي". وبالنسبة لثورة "اليمن"، فلم تحظ بأي اهتمام تركي مقارنة بثورات "مصر" و"تونس" و"ليبيا"، حيث لم يلق الثوار اليمنيون اهتماماً ملحوظاً من القادة الأتراك، ويفسر البعض ذلك لكون مصالح "تركيا" مع "اليمن" ليست كبيرة. لذلك يمكن القول، إن الثورة اليمينية لم تلق اهتماماً حقيقياً من قبل القيادات والنخب التركية كما لقيت "ليبيا" الغنية بالنفط، أو "مصر" الغنية بالعمالة والسوق الاستهلاكية الكبيرة والنفوذ الإستراتيجي المحوري، أو "تونس" بما تتمتع به من أهمية إستراتيجية. في النهاية، يلاحظ الجميع من خلال متابعة الموقف التركي حيال دول "الربيع العربي" بأنها تسعى إلى إعادة صياغة المقاربات التركية القائمة على القوة الناعمة، مستغلة حالة السيولة والسعي نحو الديمقراطية التي تشهدها العديد من الدول العربية. ولذا، نجدها تنشط وبقوة في دعوة عدد من القيادات والأحزاب السياسية في الدول العربية، لزيارة "تركيا" والتعرف على تجربتها الذاتية والتطور السياسي والاقتصادي والثقافي بها. وكل هذا يأتي في إطار مصالحها الخاصة في المنطقة العربية، والتي تعتبر العامل الوحيد والمحدد الأساسي لتوجهاتها الخارجية، فهي تهدف بالأساس إلى زيادة نفوذها ومصالحها السياسية والاقتصادية.