فرصة للشراء.. تراجع كبير في أسعار الأضاحي اليوم الثلاثاء 21-5-2024    مندوب مصر بالأمم المتحدة: العملية العسكرية في رفح الفلسطينية مرفوضة    الاحتلال الإسرائيلي يشن غارات كثيفة شرقي مدينة رفح الفلسطينية جنوبي قطاع غزة    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    بعد اتهامه بدهس سيدتين.. إخلاء سبيل عباس أبو الحسن بكفالة 10 آلاف جنيه    تفاصيل طقس الأيام المقبلة.. ظاهرة جوية تسيطر على أغلب أنحاء البلاد.. عاجل    أحمد حلمي يتغزل في منى زكي بأغنية «اظهر وبان ياقمر»    وزير الصحة: 700 مستشفى قطاع خاص تشارك في منظومة التأمين الصحي الحالي    قناة عبرية تتحدث عن مكان وجود السنوار وامتلاك حماس لصواريخ بعيدة المدى    مساعد وزير الخارجية الإماراتي: لا حلول عسكرية في غزة.. يجب وقف الحرب والبدء بحل الدولتين    مفاجأة.. شركات النقل الذكي «أوبر وكريم وديدي وإن درايفر» تعمل بدون ترخيص    الصحة: منظومة التأمين الصحي الحالية متعاقدة مع 700 مستشفى قطاع خاص    هل يرحل زيزو عن الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية؟ حسين لبيب يجيب    «بيتهان وهو بيبطل».. تعليق ناري من نجم الزمالك السابق على انتقادات الجماهير ل شيكابالا    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    وزير الصحة: العزوف عن مهنة الطب عالميا.. وهجرة الأطباء ليست في مصر فقط    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    اعرف موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 محافظة المنيا    محمود محيي الدين: الأوضاع غاية في التعاسة وزيادة تنافسية البلاد النامية هي الحل    أحمد حلمي يغازل منى زكي برومانسية طريفة.. ماذا فعل؟    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    «بلاش انت».. مدحت شلبي يسخر من موديست بسبب علي معلول    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    خط ملاحى جديد بين ميناء الإسكندرية وإيطاليا.. تفاصيل    مبدعات تحت القصف.. مهرجان إيزيس: إلقاء الضوء حول تأثير الحروب على النساء من خلال الفن    مصطفى أبوزيد: احتياطات مصر النقدية وصلت إلى أكثر 45 مليار دولار فى 2018    7 مسلسلات وفيلم حصيلة أعمال سمير غانم مع ابنتيه دنيا وايمي    دونجا: سعيد باللقب الأول لي مع الزمالك.. وأتمنى تتويج الأهلي بدوري الأبطال    سائق توك توك ينهي حياة صاحب شركة بسبب حادث تصادم في الهرم    الاحتلال يعتقل الأسيرة المحررة "ياسمين تيسير" من قرية الجلمة شمال جنين    التصريح بدفن جثمان طفل صدمته سيارة نقل بكرداسة    وكيل "صحة مطروح" يزور وحدة فوكة ويحيل المتغيبين للتحقيق    وزير الصحة: 5600 مولود يوميًا ونحو 4 مواليد كل دقيقة في مصر    "رياضة النواب" تطالب بحل إشكالية عدم إشهار22 نادي شعبي بالإسكندرية    بعد ارتفاعها ل800 جنيها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي «عادي ومستعجل» الجديدة    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    وزير الرياضة يهنئ منتخب مصر بتأهله إلي دور الثمانية بالبطولة الأفريقية للساق الواحدة    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    طبيب الزمالك: إصابة أحمد حمدي بالرباط الصليبي؟ أمر وارد    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    إجازة كبيرة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    إيران تحدد موعد انتخاب خليفة «رئيسي»    كيف أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي؟.. مصطفى أبوزيد يجيب    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    سعر الدولار والريال السعودي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    على باب الوزير    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الربيع العربي .. تركيا في شرق أوسط جديد(12)
نشر في محيط يوم 26 - 02 - 2013


: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية

بقلم محمد عبد القادر خليل*



مقدمة



شكلت الثورات والإنتفاضات الشعبية التي شهدتها عدد من الدول العربية اختباراً صعباً وتحدياً كبيراً للسياسة الخارجية التركية، نظراً لكثافة الإستثمار التركي في المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة، وذلك على الصعيد السياسي والإقتصادي والثقافي، حيث تحولت تركيا بفضل ديناميكية تحركاتها وميكانزمات تفاعلاتها حيال القضايا العربية إلى طرف رئيسي وفاعل على مسرح أحداث الإقليم الذي حظى بوضعاً هامشياً نسبياً ضمن أولويات السياسة الخارجية التركية خلال العقود السابقة.



ان الإستثمار التركي في منطقة الشرق الأوسط انعكس في المواقف الإيجابية التي تبنتها أنقرة إزاء قضايا العرب المركزية، لاسيما حيال الغزو الأمريكي للعراق والصراع العربي الإسرائيلي، والموقف التاريخي الذي أقدم عليه رئيس الوزراء التركي "رجب طيب أوردغان" في المنتدى الاقتصادي العالمي DAIVOS)) عام 2009، وانفتاح تركيا على كافة الأطراف العربية سواء على المستوى الرسمي (الدول) أو على مستوى الفاعلين من غير الدول (كحزب الله وحركة المقاومة الإسلامية - حماس - وحركة الإخوان المسلمين)، هذا فضلاً عن محاولة تركيا كسر الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة، بما أثمر عن توترات غير مسبوقة في العلاقات مع إسرائيل، وارتفاع غير مشهود من قبل في شعبية تركيا في الأوساط العربية.



لذلك فقد فرضت أحداث الربيع العربي على الدبلوماسية التركية تحديات مركبة تتعلق بالحفاظ على علاقات وثيقة مع دول "الربيع العربي"، في الوقت الذي وقفت فيه أنقرة بين شقي رُحى، فإما مساندة الجماهير الحاشدة التي انتفضت لإسقاط أنظمتها السياسية السُلطوية من جانب، أو الحفاظ على تحالفاتها وعلاقاتها الوثيقة مع هذه الأنظمة من جانب آخر. هذا في حين شكلت حركة الشعوب العربية غير المسبوقة تحدياً لمبادئ السياسة الخارجية التركية التي قضت أدبياتها بإلتزام عدم الإنخراط في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.



وقد ضاعف من مأزق المواقف التركية حيال أحداث "الربيع العربي"، الطبيعة الفجائية لهذه الأحداث، فعلى الرغم من أن ثورتي مصر وتونس أسفرتا سريعاً عن سقوط نظام "بن علي" (14 يناير 2011)، ونظام "مبارك" (11 فبراير 2011)، على نحو دفعت مؤشراته المبدئية بإنحياز تركيا لإرادة ورغبة الجماهير العربية في إحداث تحول ديمقراطي حقيقي، إلا أن تطورات الصراع على المسارين الليبي والسوري أظهرتا مدى الإرتباك التركي وأوضحتا طبيعة التخوفات التركية على مسارات العلاقات الوثيقة مع نظامي "القذافي" في ليبيا و"الأسد" في سوريا، نظراً للطبيعة الخاصة للروابط السياسية وتشعُب العلاقات الاقتصادية وارتفاع حجم التكلفة البشرية والتداعيات الأمنية التي ستترتب على عملية التغيُر في الدولتين.



من هذا المُنطلق فإن هذه الدراسة تسعى إلى تحديد خطوط واتجاهات التباين بين المواقف التركية من عمليات التغيير التي شهدتها دول "الربيع العربي"، والعوامل التي دفعت بتحول وتغيُر المواقف التركية حيال الثورات العربية. وكذلك تهدف الدراسة إلى تحديد أنماط المواقف التركية من هذه الثورات، وتأثرها بخصوصية كل حالة، وصولاً من ذلك لرصد مستقبل العلاقات العربية - التركية وسيناريوهاتها.



أولاً: مُحددات مواقف تركيا من "الربيع العربي":



تنوعت المواقف التركية واختلفت من حالة لأُخرى على نحو دفع بعض الإتجاهات للحديث عن "الميكافيلية التركية" في التعامُل مع أحداث المنطقة المستجدة([i])، حيث أن المصالح التركية المُتغيرة أفضت إلى مواقف مُتباينة. ومع ذلك فإستقراء طبيعة المقاربة التركية إزاء ثورات "الربيع العربي" تكشف أنها تأسست على فرضيتين أساسيتين مرتبطتين ببعضهما البعض، أولها: أن تطورات الشرق الأوسط تُشير أنه لا مفر من التغير بما يدفع إلى التكيُف مع هذا التغير وليس مقاومته، وثانيهما: أن التكيُف التركي مع هذه الأحداث بالصورة الملائمة من شأنه أن يُعظم مصالح تركيا في المنطقة على الصعيد السياسي والاقتصادي والأمني.



على هذا الأساس يُمكن رصد أبرز محددات المواقف التركية حيال ثورات "الربيع العربي"، وذلك على النحو التالي:



1- المحدد السياسي:



عقب وصول حزب "العدالة والتنمية" للسلطة في نوفمبر 2002 سعت أنقرة لإنهاء انفصالها المفتعل عن منطقة الشرق الأوسط. كما عملت السياسة الخارجية التركية ضمن إطار عام وشامل يخدم عليه، وتندرج ضمنه لتعظيم التواجُد التركي في المنطقة وتكثيف العلاقات مع الدول العربية، من خلال عدد من الآليات التي ضمنت لتركيا التواجُد في مركز الإقليم وفي "ميادين الأحداث" المُلتهبة التي شهدتها المنطقة العربية وأفضت للإطاحة ب "زين العابدين بن علي" بعد 23 عاماً من حُكمِه لتونس، وتنحية "حسني مبارك" بعد حُكم لمصر دام 30 عاماً، وسقوط نظام "القذافي" بعد 42 عامٍ من حُكمِه لليبيا، وتوقيع "علي عبد الله صالح" لوثيقة تنحي بعد 33 عامٍ من دوام حُكمِه لليمن.



ان "التسونامي العربي" الذي ضرب بعض أنظمة الحكم العربية، اعتبره وزير الخارجية التركي "أحمد داوود أوغلو" بمثابة "تدفق طبيعي للتاريخ" وحدث "عفوي" و"ضروري" جاء مُتأخراً حيث كان ينبغي أن يحدُث في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. واعتبر "أوغلو" أن ما يجري بالعالم العربي "مساراً طبيعياً للأمور"، وأن التحولات التي تشهدها دول الشرق الأوسط ناتجة عن ضرورات اجتماعية، مشدداً على وجوب ابتعاد الزعماء العرب عن الوقوف أمام رياح التغيير([ii]).



وقد وضع وزير الخارجية التركي "أحمد داوود أوغلو" عدد من المحددات الرئيسية للمواقف النركية إزاء ثورات "الربيع العربي" وذلك على النحو التالي([iii]):


- ينبغي ألا تؤدي ثورات "الربيع العربي" إلى تدمير أو إضعاف المؤسسات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمعات العربية، ولكن ينبغي العمل من أجل حمايتها، فالثورة لا تعني التدمير وتهديد بقاء واستمرارية هذه المؤسسات. والحالة المصرية نموذج جيد على ذلك، فلقد تصرف الجيش المصري بحكمة، حيث أنه لم يضع نفسه في مُواجهة مع الشعب، تأسيساً على أن ذلك ليس من قيم الجيوش المحترفة. أن هذا السلوك يجب تشجيعه في كافة المجتمعات العربية الأخرى، كما يجب أن تتكاتف الجهود من أجل أن تنهض المؤسسات وليس شخص واحد أو جهة واحدة بمسئوليات المراحل الإنتقالية في دول "الربيع العربي"، كما ينبغي التأكيد على أن أقوى جيوش العالم هى تلك التي لا تُشارك في الحياة السياسية، حيث يجب أن يكون هناك فصل واضح بين دور العسكريين والمدنيين في المؤسسات السياسية.



- ينبغي أن يكون هناك وضع قانوني وشرعي للدول بحيث لا تفضي الثورات العربية إلى المطالبة بتغيير الحدود، ذلك أن المنطقة لديها ما يكفي من انقسامات وصراعات في هذا الشأن، كما أن تركيا لا تبغي أن ترى في المنطقة بلدان جديدة مُقسمة أو مُعرضة للإنقسامات والصراعات. ان ما تحتاجه دول المنطقة هو الإتحاد والتكامُل وليس الإنقسام والصراع، لذلك فإذا كان قبول التغيير واجباً وضرورة فإن هذا التغيُر يجب أن يحدُث دون انقسامات جديدة.



- ينبغي ألا يكون هناك تدخل أجنبي في الشؤون الداخلية لدول "الربيع العربي"، فعملية التغيُر والتحوُل يجب أن تقوم بها الشعوب وحدها، فهي المنوط بها صوغ مستقبلها بنفسها، كما ينبغي أن يضطلع بمسئوليات هذا التحول الطبيعي قوى حقيقية على أرض الواقع. بمعنى قوى تُمثل وتُجسِد إرادة الشعوب، تأسيساً على أن أنماط التدخل الأجنبي يُمكن أن تُعقِد الأوضاع الداخلية في دول "الربيع العربي".



- ينبغي أن تكون هناك "ملكية إقليمية" لعملية التحوُل والتغيُر التي تشهدها العديد من دول المنطقة، بمعنى أن يلتقى المفكرين وصناع الرأي والسياسة على نحو مكثف من أجل مناقشة مستقبل المنطقة في ظل التطورات المُتلاحقة التي تشهدها. ان ما يحدث في مصر أو ليبيا أو اليمن أو سوريا من شأنه أن يؤثر على كافة دول المنطقة، بما يدفع بضرورة إيجاد المزيد من المحافل الإقليمية التي لا تقتصر وحسب على قادة الدول والزعماء السياسيين والوزراء، وإنما يجب أن تتزايد أيضاً اللقاءات الدورية بين المثقفين ووسائل الإعلام وأصحاب الرأي في المنطقة.



وقد ساهمت هذه المُحددات في صوغ مبادئ السياسة الخارجية التركية حيال الثورات العربية، بحيث تجسدت في([iv]) :



- احترام إرادة الشعوب ورغبتهم في التغيير والديمقراطية والحرية.



- الحفاظ على استقرار وأمن الدول العربية، وضرورة أن يتم التغيير فيها بشكل سلمي، فالأمن والحرية ليسا بديلين ولابد من كليهما معاً.



- رفض التدخُل العسكري الأجنبي في شئون الدول العربية، تجنباً لتكرار مأساة العراق وأفغانستان وتعرُض البلدان العربية لخطر الإحتلال أو التقسيم.



- تقديم العون والدعم للتحوُلات الداخلية حسب الظروف الداخلية الخاصة بكل دولة.



- رعاية المصالح التركية الوطنية العليا، وفي مقدمتها الإستثمارات والمصالح الاقتصادية والحفاظ على أرواح وممتلكات الرعايا الأتراك.



- الإستناد إلى الشرعية الدولية والتحرُك في إطار القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة.



- عدم توجيه السلاح التركي إلى أياً من الشعوب العربية، واقتصار الدور التركي على المهام الإنسانية والمهام غير القتالية والقيام بأعمال الإغاثة.



- مراعاة خصوصية كل دولة وظروفها ووضعها الداخلي وعلاقاتها الخارجية ومصالح تركيا المتشابكة معها.


وعلى الرغم من أنه بدا واضحاً أن ثمة مخاوف لدى أنقرة من أن تفضي أحداث المنطقة لتراجُع علاقاتها مع الدول العربية، إلا أن استرجاع خبرة ما بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، بما مثله من مخاطر تراجُع أهمية تركيا الإستراتيجية بالنسبة للتحالُف الغربي، وما شكله من فُرص وقُدرة أكبر على الحركة في دول وسط آسيا وظهور تركيا بإعتبارهِا تُمثل نموذج لدول العالم الإسلامي، قد دفع بضرورة إعادة تكيُف الدور التركي في المنطقة سعياً لإستغلال الفُرص التي يُمكن أن يُشكلها "الربيع العربي"، خصوصاً بعد أن أكدت الثورات العربية أهمية تركيا "الدور" و"النموذج" بالنسبة لدول المنطقة.


وقد عبر عن ذلك مستشار رئيس الوزراء التركي "إبراهيم كالين"، حيث أكد أنه على عكس مما يرى البعض، فإن التغيُرات في منطقة الشرق الأوسط ستُعزز موقع تركيا، وستُخرِج تركيا رابحة في إطار عالم عربي أكثر ديمقراطية، معبراً عن قناعته بأن تركيا لا يجب أن تقلق من التغيُرات الدراماتيكية التي شهدتها المنطقة، لأن أنقرة تُدرك أن الشعوب العربية تتقدم على حكامها من ناحية النظرة الإيجابية للدور التركي في المنطقة([v]).


وفي هذا الإطار اعتبرت اتجاهات عريضة في بعض الأدبيات التركية أن "الربيع العربي" من شأنه أن يُسهِم في تعزيز قدرة تركيا على وضع إستراتيجية "العثمانية الجديدة" موضع التطبيق([vi])، بحيث تتكامل تركيا بصورة أكبر وأعمق مع الدول العربية التي خضعت لسيطرة "الإمبراطورية العثمانية". وترى هذه الآراء أن "العثمانية الجديدة" تقوم في مرحلة ما بعد "الربيع العربي" على ركيزتين أساسيتين([vii]):



أولهما، أن تركيا لا تسعى لإستغلال أحداث المنطقة لمُحاولة السيطرة على المجتمعات والأنظمة السياسية العربية الجديدة، وإنما تسعى لدعم عملية التحول الديمقراطي في الدول العربية وتعميق الفهم العربي لمفهوم العلمانية. وفي هذا الإطار شهدت المنطقة العربية وتركيا زيادة ملحوظة في الندوات العلمية والمؤتمرات الأكاديمية واللقاءات المشتركة بين الباحثين والخبراء العرب والأتراك حول سبل الإستفادة من الخبرة التركية في مجال التحول الديمقراطي، والأدوات اللازمة لتعميق التفاهُم العربي التركي على المستويات السياسية والثقافية والاقتصادية.



ثانيهما، التركيز على مفهوم الدبلوماسية والقوة الناعمة Soft Power من أجل تعميق التعاون الاقتصادي والدبلوماسي ومُضاعفة نفوذ تركيا الثقافي، بما يضمن مصالح تركيا في أن تتحول إلى قوى إقليمية كبرى. وعلى الرغم من أن التغيُرات في منطقة الشرق الأوسط كان لها الكثير من التداعيات على القُدرة التركية على تطبيق إستراتجية "Zero Problems"، ومع ذلك فقد رأت الكثير من هذه الإتجاهات أنه من المُرجح أن تزداد أهمية الدور التركي في المنطقة إذا ما تم توثيق العلاقات مع النظام المصري الجديد، لاسيما بعد وصول أحد أعضاء حزب "الحرية والعدالة" الجناح السياسي لحركة الإخوان المسلمون إلى منصب الرئاسة في مصر، وطرح تركيا بإعتبارها تقدم نموذج مُلهِم يمكن لدول "الربيع العربي" الإستفادة منه في هذه المرحلة([viii]).


بناء على ذلك فقد وضح أن الجدل الدائر في أنقرة حول تأثيرات "الربيع العربي" على الإستثمارات التركية المُتنوعة في المنطقة قد دفعت بتبني تصور للتعامُل مع"الربيع العربي" وفق المُحددات السابقة على ثلاث مستويات:



(أ) استغلال الحدث لتوثيق علاقات تركيا الدولية: وذلك في مُحاولة لإعادة تأكيد محورية الدور التركي بالنسبة لكل من الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي، وذلك من خلال إعادة توظيف هذا الدور في خدمة الإستقرار الإقليمي في المرحلة الجديدة، مستغلة في ذلك نفوذها السياسي وقوتها الناعمة وتشعُب علاقاتها الاقتصادية مع دول المنطقة، وفي هذا الإطار فقد تجلى تزايد التقارُب التركي - الأمريكي في ضوء التنسيق المشترك حيال التعامل مع الملف السوري، وإزاء طرق استيعاب التيارات الإسلامية التي تصاعد حضورها في المشهد السياسي العربي.



وفي هذا السياق فقد اعتبرت تركيا أن مواقفها من ثورات "الربيع العربي" اتسقت إلى حد بعيد مع المواقف الغربية عموماً والمواقف الأوروبية على وجه الخصوص، بما من شأنه إعادة تأكيد أهمية ومحورية الدور التركي في المنطقة، ليس وحسب بإعتبارها دولة تُقدم نموذج مُلهِم إلى دول "الربيع العربي" يُجسد ما يُطلق عليه في الأدبيات السياسية "الديمقراطية المحافظة" التي تُعبر عن التوافُق والإنسجام بين مبادئ الديمقراطية والقيم الإسلامية، وإنما أيضاً لإتساق سياسات وتوجهات تركيا الخارجية حيال الثورات العربية مع كل من السياسات الأمريكية والمواقف الأوروبية إزاء القضايا والإشكاليات التي أثارتها هذه الثورات([ix]).



(ب) دعم العلاقات مع أنظمة الحكم العربية الجديدة: سعت تركيا لإنهاء حال التوتر المكتوم الذي ميز علاقاتها بالنظام المصري السابق، من خلال الوقوف إلى جانب المتظاهرين المصريين هذا من جانب، ومن جانب آخر من خلال العمل على توثيق العلاقات في أبعادها المختلفة مع مصر في مرحلة ما بعد (25 يناير)، وصولاً إلى التعاون العسكري والأمني، لاسيما أن ثمة رؤى تركية تُدرك أن تقارب مصري تركي من شأنه أن يُعيد ترتيبات الأمن الإقليمي وإعادة صوغ خريطة التحالُفات الإقليمية في المنطقة. وقد كان من الواضح أن تركيا تتخوف من وصول الفريق "أحمد شفيق" إلى منصب الرئاسة في مصر، حيث بدا وضحاً أنها تُفضل مرشح حزب "الحرية والعدالة" "د. محمد مرسي"، والذي نظرت إليه بإعتباره قد يمنح العلاقات المشتركة دفعة كبرى، وذلك على مستوياتها المختلفة.



وفيما يتعلق بالملف الليبي، فقد كان لتخلي تركيا عن تحالُفها الوثيق مع نظام "القذافي"، ودبلوماسيتها النشطة حيال ليبيا في مرحلة ما بعد سقوط "نظام العقيد" دوراً كبير في تسهيل مُهمة عقد شركات سياسية واتفاقات اقتصادية كبيرة مع النظام الليبي الجديد.


ويأتي في هذا الإطار أيضاً التخلي عن مساندة نظام "الأسد" في سوريا رغم العلاقات الشخصية الوثيقة التي ربطت "أوردغان" ب "بشار الأسد" ورغم تشعُب العلاقات السياسية والاقتصادية مع "النظام البعثي"، وذلك بعدما توصلت أنقرة لقناعة بأن "الأسد" لن يكون بمقدوره إجراء إصلاحات جذرية تنقذ نظامه وتدفع سوريا نحو تحول ديمقراطي حقيقي، استجابة لتطلعات الشعب السوري، الذي بدا أنه أكثر إصراراً على دفع كلفة هذا التحوُل، بما جعل تركيا من جهتها تُركِز على توثيق علاقاتها مع شُركاء مرحلة "ما بعد الأسد".



(ج) تعميق العلاقات مع التيارات الإسلامية: أوضحت التحرُكات التركية في المنطقة خلال مرحلة ما بعد اندلاع الثورات الشعبية في العديد من الدول العربية، أن ثمة تركيز تركي على دعم حركة الإخوان المسلمون وبقية التيارات الإسلامية التي نشطت على الساحات السياسية العربية بعد الثورات الشعبية، وذلك عبر تشجيعهم على العمل السياسي وفق منهج يتسم نسبياً بالبراجماتية من خلال الإستفادة من الإستشارات واللقاءات السياسية التي عقدتها القيادات والنُخب التركية مع الكثير من هذه التيارات.



وفي هذا الإطار نشط عدد من أعضاء حزب "العدالة والتنمية" التركي في عدد من الدول العربية من أجل تقديم دعوات لبعض أعضاء التيارات والأحزاب ذات التوجُهات الإسلامية لزيارة أنقرة للإستفادة من تجربة إسلامي تركيا، وهى لقاءات في مجملها حاولت التأكيد على أن مسألة تدخل الدولة في حياة المواطنين الخاصة قد تخطاها الزمن. كما عقدت ندوات ومؤتمرات مشتركة في عدد من الدول العربية كان أغلب المشاركين فيها من التيارات الإسلامية، وذلك بهدف نقل خبرة تجربة حزب "العدالة والتنمية" إلى التيارات والأحزاب الإسلامية العربية.


وقد تجلت إستراتجية تركيا في دعم تجربة مشاركة الإسلاميين في العمل السياسي العربي، في حديث "أوردغان" أثناء زيارته لكل من مصر وليبيا وتونس في سبتمبر 2011- عن مفهوم العلمانية، حين أشار أن العلمانية لا تختلف أو تتناقض مع الهوية الإسلامية. وقد جلب ذلك عليه عاصفة من الإنتقادات من التيارات الإسلامية نفسها. وفي هذا الإطار شنت سوريا من جهتها أيضاً حملة ضارية على الحكومة التركية بسبب دعمها لحركة الإخوان المسلمين السورية، مشيرة إلى أن تركيا تسعى لإعادة الهيمنة على المنطقة عبر إستراتيجية "العثمانية الجديدة"([x]).



ويمكن القول، إن المحددات السياسية لطبيعة الدور التركي في المنطقة ظلت حاكمة للأنماط المتغيرة للسياسة الخارجية إزاء الثورات العربية ووفقاً لخصوصية كل حالة، وفي هذا الإطار بدا جلياً خفوت الموقف التركي حيال الوضع في كل من البحرين واليمن، حيث ارتبطت التوجُهات التركية بالحرص التركي على العلاقات السياسية مع دول مجلس التعاون الخليجي، بما جعل المقاربة التركية حيال الملفين تقوم على ضرورة إنهاء الأزمات الداخلية في الدولتين وإنهاء الإنقسامات المجتمعية عبر الأدوات السلمية، بالترافُق مع رفض التدخلات الخارجية، خصوصاً الإيرانية منها لما لها من تأثيرات وتداعيات سلبية على عمليات التغيُر السلمي والمُتدرج الذي راعته دول الخليج العربي في الحالتين.



2- المحدد الاقتصادي:



تخوفت تركيا من أن تتأثر استثماراتها التركية لدول المنطقة، بما قد يُسفر عن زيادة الأعباء المالية التي قد تؤثر سلباً على مُعدلات نمو الاقتصاد التركي.



كما تخوفت تركيا من التداعيات الاقتصادية للثورات العربية، لاسيما فيما يتعلق بإتفاقات التجارة الحرة التي أبرمتها مع عدد من الدول العربية، ومنها الإتفاقية الموقعة مع كل من مصر([xi]) وليبيا، وكذلك اتفاقية إقامة منطقة مشتركة بين لبنان وسوريا والأردن وتركيا، وهى الإتفاقية التي علقت بعد ذلك بسبب الموقف التركي من أحداث الثورة السورية([xii]).



وتخوفت تركيا كذلك من ارتفاع أسعار النفط عالمياً بسبب أحداث المنطقة المُلتهبة، لما لذلك من تأثيرات على ارتفاع معدل العجز في الميزان التجاري، بالنظر لإعتماد تركيا على استيراد أكثر من 90 في المائة من احتياجاتها النفطية من الخارج. وتكشف المقارنة بين حجم الصادرات والواردات التركية عن تضاعف حجم العجز في ميزان التجارة الخارجية من 505 مليار دولار في ابريل 2010 إلى 9 مليار دولار في ابريل 2011([xiii]).



هذا في وقت عاني فيه الاقتصاد التركي من صعوبات بسبب ارتفاع الطفرة الإستهلاكية المدفوعة بالائتمان لذروتها، وتجاوز العجز في الحساب الجاري نسبة 10 في المائة، وهو وضع كان محدداً رئيسياً في أن يتوقع صندوق النقد الدولي انخفاض نسبة النمو الاقتصادي إلى 2.2 في المائة خلال عام 2012([xiv]).



وعلى الرغم من الحذر الذي أبدته تركيا في التعامل مع أحداث المنطقة، غير أنه كان من الواضح أن مواقفها التي لم تنسجم كلياً مع مُحددات مواقف العديد من دول مجلس التعاون الخليجي، ساهمت في تعطل توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع دول الخليج وذلك بسبب طلب الأخيرة توقيع الإتفاقية دون إبداء أي أسباب، وهى اتفاقية كان من المُقرر توقيعها في ديسمبر 2011.



كما ساهمت الأحداث التي شهدتها دول "الربيع العربي" في تراجع إجمالي صادرات تركيا إليها بنسبة 13 في المائة. ففي حين كان نصيب مصر وسوريا وليبيا وتونس واليمن 6.48 في المائة من إجمالي الصادرات الخارجية التركية في عام 2010، تراجعت هذه النسبة إلي 4.74 في المائة نتيجة تداعيات "الربيع العربي". ووفقاً لإحصائيات مجلس المُصدرين الأتراك، فإنه خلال عام 2010 تم تصدير منتجات تركية إلي مصر بقيمة مليارين و323 مليون دولار وإلي سوريا بقيمة مليار و852 مليون دولار وإلي ليبيا بقيمة مليارين و7 مليون دولار وإلي تونس بقيمة 751 مليون دولار وإلي اليمن بقيمة 338 مليون دولار. هذا فيما تراجع إجمالي الصادرات التركية خلال عام 2011 إلي هذه الدول العربية الخمس من 7 مليارات و272.5 مليون إلي 6 مليارات و323 مليون دولار([xv]).



وقد عكست زيارة رئيس الوزراء التركي إلى دول الربيع العربي على رأس وفد وزاري عالي المستوى وبرفقة 280 من رجال الأعمال الأهمية الاقتصادية لعلاقات تركيا مع الدول العربية، حيث سعت تركيا للمُساهمة في إعادة أعمار دول "الربيع العربي" وإمداد هذه الدول بخدمات الإتصالات، والمشاركة في قطاع التشييد والبناء. كما سعت تركيا إلى مضاعفة الإستثمارات التركية في مصر، بما يوفر فُرص عمل أكبر أمام العمالة المصرية التي يوجد منها بالفعل قرابة 75 ألف مصري يعملون في الشركات التركية بمصر.



وفي هذا الإطار تُشير التقديرات التركية إلى احتمال تزايُد استثمارات تركيا في مصر من 1.5 مليار دولار إلى 5 مليارات خلال العامين المُقبلين وأن تزيد المُبادلات التجارية من 3.5 مليار دولار إلى 5 مليارات دولار قبل نهاية عام 2012 وإلى 10 مليارات دولار بحلول عام 2015، وهو أمر من شأن تحققه أن يزيد من الروابط السياسية والاقتصادية بين البلدين، وقد يدفع بتحقُق نبوءة رئيس الوزراء "رجب طيب أوردغان" بأن تكون أنقرة مفتاح القاهرة لأوروبا وأن تكون القاهرة مفتاح أنقرة لأفريقيا([xvi]).



وقد أبرم رجال الأعمال الأتراك خلال زياراتهم لمصر برفقة رئيس الوزراء التركي، اتفاقيات تجارية تُقدر بزهاء 850 مليون جنيه، كما ازدادا إقبال رجال الأعمال الأتراك على الإستثمار في كل من مصر وتونس بإعتبار أنهما الدولتين اللتين شهدتا استقراراً نسبياً، بما أدى إلى عودة الإرتفاع لقيمة الصادرات التركية إلي مصر بنهاية عام 2011 بنسبة 23 في المائة وإلى تونس بنسبة 12.3 في المائة مُقارنة بعام 2010. هذا في الوقت الذي تراجع فيه حجم الصادرات التركية إلي ليبيا بنسبة 63 في المائة وإلي اليمن بنسبة 15 في المائة وإلي سوريا بنسبة 14 في المائة مقارنة بعام 2010 بسبب الوضع الأمني في هذه الدول([xvii]).



وقد ساهمت المجهودات التركية لدعم العلاقات مع ليبيا بعد هدوء الأحداث نسبياً إلى زيادة الصادرات التركية لليبيا بمقدار 139 في المائة خلال شهر ديسمبر 2011 مقارنة بشهر نوفمبر من العام ذاته. هذه التطورات الإيجابية من المتوقع أن تستمر خلال الفترة المقبلة، لاسيما بعد إعلان الحكومة الليبية أنها ستُقدم فُرص استثمارية بقيمة 100 مليار دولار للشركات التركية، كما أُعلن عن منح الشركات التركية استثمارات في قطاع التشييد والبناء وصلت قيمتها إلى 15 مليار دولار([xviii]). وتسعى تركيا في هذا الإطار إلى مضاعفة حجم الصادرات التركية لكل من مصر وليبيا، وذلك بعد استكمال خط "RORO" الملاحي بين مينائي مرسين التركي، والإسكندرية المصري، والذي يعتبره الأتراك أن من شأنه أن يجعل من مدينة الإسكندرية بوابة تركيا للدول العربية وأفريقيا.



ويمكن القول أن مواقف تركيا حيال الثورات العربية قد تأثرت بمصالح تركيا الاقتصادية في المنطقة التي شهدت تطورات مهمة على صعيد العلاقات الاقتصادية التركية العربية بفعل فاعلية إستراتجية تركيا الخاصة بعمليات "البحث عن أسواق جديدة" وازدهار سياسات التصدير بديلاً عن أية "برامج أيديولوجية"، وذلك فيما أُطلق عليه "السياسات التجارية" الجديدة لأنقرة.



وقد انعكس ذلك في مواقف تركيا المُتغيرة من ثورات "الربيع العربي"، حيث ساندت مبكراً كلاً من الثورة المصرية والتونسية، وذلك بسبب انخفاض حجم الإستثمارات التركية في الدولتين مقارنة بليبيا على سبيل المثال. ففي ليبيا وحدها يوجد حوالي 25 ألف مواطن تركي، وتُقدر الإستثمارات التركية فيها بزهاء 15 مليار دولار. كما يُشكل السوق الليبي السوق الثاني للمُتعاقدين الأتراك في الخارج بعد روسيا، ويوجد في ليبيا حوالي 120 شركة تركية. ووصل التبادل التجاري بين الدولتين في عام 2010 إلى 9.8 مليارات دولار([xix]).



وفي سوريا قامت الشركات التركية بتوسيع استثماراتها بشكل سريع، ووفقاً لتقرير صدر في شهر أكتوبر 2010، فإن تركيا خصصت ما يرقب ل 180 مليون يورو (247 مليون دولار أمريكي) في صورة قروض مُيسرة لسوريا لإستخدامها في مشاريع البنية التحتية. وأعلن وزير الدولة التركي المسئول عن التجارة الخارجية "ظافر جلايان" خلال مؤتمر حول الإستثمار في الساحل السوري نظمه مركز الأعمال السوري التركي، أن الإستثمارات التركية في سوريا بلغت حوالي 700 مليون دولار([xx]).



كما انتهجت تركيا سياسة أكثر ليبرالية فيما يخُص تأشيرات الدخول إلى أراضيها، حيث كانت السمة المُميزة ل "سياسات الجوار" التركية. وقد عكس قرار تركيا الداعي إلى تشجيع تدفُق البشر والتجارة والأفكار مظاهر التخلي عن "النظرة الواقعية" وإدراك أن مُحصلتها الإيجابية محدودة في العلاقات الدولية، وذلك لصالح أفكار من قبيل "الليبرالية" و"الإعتماد المُتبادل"، وقد أفضت هذه الأفكار والسياسات إلى ارتفاع كبير في عدد المواطنين العرب الذين يقومون بزيارة تركيا([xxi]).



3- المحدد الأمني:


لعبت المُحددات الأمنية دوراً أساسياً في تشكيل معالم السياسة الخارجية التركية في الفترة السابقة على وصول حزب "العدالة والتنمية"، غير أن قادة الحزب صاغت مفهوم مُغاير للأمن التركي، ينطلق من أن الجوار الإقليمي ليس بالضرورة مصدراً لتهديدات الأمن القومي، وإنما قد يكون التعاون المشترك مع دول الجوار سبيل التعامل مع كافة التهديدات التي يُمكن أن تؤثر على سلامة الأمن والإستقرار التركي([xxii]).



وقد لعبت العوامل الأمنية دوراً أساسياً في تحديد المُقاربة التركية حيال الثورات العربية، حيث انطلقت تركيا من قناعة مؤداها أن استمرار حالة الإحتجاجات والثورات قد تؤثر في مستقبل استثماراتها السياسية والاقتصادية في المنطقة، بما قد يخدم المصالح والسياسات الإسرائيلية، ويرفع من التكلفة الأمنية لإنخراط تركيا في تفاعلات منطقة الشرق الأوسط.



وقد ارتبطت هذه الرؤية بالخبرة التركية من حرب العراق في 1990-1991، ومناخ عدم الإستقرار الذي ساد المنطقة وقت ذاك، بما أثمر عن خسائر اقتصادية ضخمة وتداعيات أمنية قضت مضاجع الأتراك ومازالت بسبب تشكيل إقليم شمال العراق، وتزايُد هجمات حزب العمال الكردستاني ضد تركيا انطلاقاً من الأراضي العراقية، هذا فضلاً عن تزايُد الدور الإيراني في العراق، بما ضاعف من التحديات الأمنية والسياسية بالنسبة لأنقرة.



وفي هذا السياق فقد لعبت الإعتبارات الأمنية دوراً أساسياً في صوغ الموقف التركي حيال كل من البحرين واليمن، حيث برز المُحدد الأمني في تشكيل السياسات التركية حيال الملفين، إذ بدت تخوفات تركية من تحول الأزمة في الدولتين إلى صراع طائفي ومذهبي يكون له امتدادات إقليمية، لاسيما في ظل اشتداد المُواجهة الإعلامية والسياسية والدبلوماسية بين العديد من دول الخليج العربي من جانب وإيران من جانب آخر.



وقد سيطرت الإعتبارات الأمنية كذلك على المواقف التركية إزاء الأزمة السورية، وذلك في ظل تنامي التخوفات من تأجُج المشكلة الكردية خصوصاً في ظل اتساع مساحة الحدود المشتركة مع سوريا (877 كم)، وسعى أكراد سوريا إلى تأسيس إقليم حكم ذاتي على غرار إقليم كردستان العراق. كما تخوفت تركيا من تدفُق أعداد هائلة من اللاجئين السوريين إلى الأراضي التركية، وبدا القلق التركي واضحاً من تداعيات هذه الأزمة بملفاتها السياسية والاجتماعية على الوضع الداخلي في تركيا، وأيضاً من احتمالات انتقال الأزمة إلي حدودها الجنوبية إذا ما خرج الوضع الأمني عن السيطرة، أو تطور إلى مُواجهة عسكرية بين القوى الغربية وسوريا كما حدث في ليبيا.



كما اعتبرت تركيا وفقاً لتقديرات مواقف عديدة أن العلاقات التركية – الإسرائيلية قد تُواجه العديد من التحديات وذلك بسبب أن تركيا هى القوة الإقليمية الرئيسية المُساندة لعمليات التغيُر في منطقة الشرق الأوسط، هذا فيما اتجهت إسرائيل إلى إعادة صوغ مُعادلاتها الأمنية بعد خسارة أنظمة عربية كانت تحتفظ معها بعلاقات شبه طبيعية، خصوصاً أن الإنتخابات التي أُجريت في دول الربيع العربي أسفرت عن صعود تيارات وأحزاب إسلامية تتبنى مُقاربات أكثر عدائية حيال إسرائيل([xxiii]).



ارتبط بذلك أيضاً أن "النموذج التعاوني" الذي نادت به أنقرة للتعامل مع المشكلات الأمنية والتهديدات التي تُواجهها المنطقة، لم يعُد يُجدي نفعاً في ظل تضرُر العلاقات التركية مع سوريا بفعل الثورة السورية، ومن قبلها في ظل ما شهدته العلاقات مع إسرائيل من توترات بسبب أزمة أسطول الحرية، هذا فضلاً عن تضرُر العلاقة مع طهران بفعل إقدام أنقرة على نشر صواريخ الدرع الصاروخي على أراضيها. هذا بالإضافة إلى الصراع بين طهران وأنقرة للتأثير على مجريات الأحداث الدائرة على الأراضي السورية، فبينما تُدعم إيران النظام البعثي، فإن أنقرة تُدعم المُعارضة سواء في شقها السياسي أو العسكري (الجيش السوري الحر).



وعلى الرغم من أن تركيا عملت على كبح جماح تدهور العلاقات مع دول الجوار التي تضررت علاقاتها معها بسبب المواقف التركية حيال قضايا "الربيع العربي" وإشكالياته، وذلك من خلال التأكيد على عدم إمكانية اللجوء إلى عمل عسكري ضد أيا من هذه الدول إلا في إطار موقف دولي موحد، بيد أن الموقف التركي حيال الثورة السورية قد أدى إلى تصاعد التوتر بين تركيا من جانب وسوريا وإيران والعراق من جانب آخر.



وقد مثلت حادثة إسقاط سوريا لطائرة استطلاع تركية (F4) تحدياً كبيراً بالنسبة لتركيا، دفع الأخيرة إلى التهديد بأن تحدي سوريا للقوات العسكرية التركية ستكون عواقبه وخيمة. هذا الموقف لم تستند فيه أنقرة وحسب إلى موازين القوى التي تصُب لصالحها مقارنة بسوريا أو حتى كل من إيران والعراق، بإعتبارهما داعمتين للموقف السوري، وإنما أيضاً لإعتبارات عديدة منها أن تركيا تُعد إحدى دول حلف شمال الأطلسي، بل وتُمثل ثاني أكبر قوة عسكرية في هذا الحلف بعد الولايات المتحدة الأمريكية([xxiv]).



ويتضح من الجدول السابق أن الإنفاق التركي مازال يتجاوز إنفاق كافة دول الجوار، بل أنه يتجاوز الإنفاق السوري بقرابة الضعفين والنصف في الفترة ما بين عام 1989 وعام 2008، فيما يُمثل 36 ضعف لمعدل الإنفاق العراقي في ذات الفترة، وحوالي ثلاث أضعاف ونصف لمعدلات الإنفاق الإيراني في ذات الفترة المذكورة.



وبصفة عامة يمكن القول إن الثورات العربية أوضحت أن المُحدد الأمني شكل ضلعاً رئيسياً في تشكيل السياسة الخارجية التركية، بما أفضى إلى تبلوُر مواقف تركية مُتباينة حيال الثورات الشعبية التي شهدتها المنطقة العربية. ومع أن أنقرة أوضحت الكثير من أدبيات سياساتها الخارجية وتصريحات مسئوليها رفضها لإستراتيجية المحاور، غير أن المُحددات الأمنية ذاتها وقفت أيضاً وراء الحركة الدبلوماسية والسياسية التركية النشطة حيال القاهرة في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير، لاسيما بعد وصول مُمثل الإخوان المسلمون "محمد مرسي" إلى منصب الرئاسة المصرية، وذلك من أجل تأسيس محور "القاهرة –أنقرة" سعياً إلى مُواجهة التحديات السياسية والأمنية التي تحيط بالمنطقة.



الهوامش

([i]) محمد نور الدين، "العودة إلى التوازن ممكنة"، جريدة الخليج، 25 يناير 2012.

[ii]))"تركيا حذرت إيران من مخاطر التدخل المباشر في الأزمة البحرينية"، جريدة الشرق الأوسط، 17 مارس 2011.

([iii]) Ahmet Davutoğlu, "Principles Of Turkish Foreign Policy And Regional Political Structuring", Vision Papers, Center For Strategic Research (SAM), No. 3, April 2012.

([iv]) أنظر لمزيد من التفاصيل محمد عبد القادر، "تحولات السياسة الخارجية التركية في عهد حزب "العدالة والتنمية" إزاء الدول العربية"، في مؤتمر بعنوان : العرب وتركيا: تحدّيات الحاضر ورهانات المستقبل، المركز العربي لدراسات السياسات، الدوحة، 18-19 مايو 2011.

([v] ( Ibrahim Kalin, "Turkey And Democratic And Prosperous Arab World", Today Zaman, 15 May 2011.

([vi]) يجسد مصطلح "العثمانية الجديدة" التحولات التي شهدتها السياسية الخارجية التركية في منطقة الشرق الأوسط منذ نوفمبر 2002. وقد أطلقت مسميات متعددة لوصف رؤية حزب العدالة لسياسية تركيا الخارجية إزاء العالم أجمع والشرق الأوسط بصفة خاصة، ومنها "ما بعد الكمالية"، "مذهب العمق الإستراتيجي"، و"المكانة المركزية لتركيا" و"سياسية المحاور المتعددة".

([vii]) Ömer Taşpınar, "The Turkish Model And Its Applicability", In : "Turkey And The Arab Spring Implications For Turkish Foreign Policy From A Transatlantic Perspective", Mediterranean Paper Series, The German Marshall Fund Of The United States, October 2011.

([viii]) İbrahim Kalin, "Soft Power And Public Diplomacy In Turkey ", Perceptions, Autumn 2011, Volume XVI, Number 3, Pp. 5-23.

([ix])Tarık Oğuzlu, "Turkey And Europeanization Of Foreign Policy", Political Science Quarterly, Vol. 125, No. 4 (Winter 2010-2011), Pp. 657-683.

([x]) على حسين باكير، "محددات الموقف التركي من الأزمة السورية: الأبعاد الآنية والإنعكاسات المستقبلية"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 29 يونيو 2011.

([xi]) تطورت العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا بشكل كبير منذ توقيع اتفاق التجارة الحرة بين البلدين في عام 2005، وهو الإتفاق الذي دخل حيز التنفيذ في الأول من مارس عام 2007، فتضاعفت الصادرات المصرية لتركيا، والصادرات التركية لمصر، وزاد حجم الاستثمارات المشتركة، وعدد رحلات الطيران المصرية والتركية إلى 4 رحلات يوميا اثنتان من الجانب التركي واثنتان من الجانب المصري. وقبل تطبيق أو تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة كانت الصادرات التركية لمصر لا تتجاوز 500 مليون دولار في العام، وبعد الاتفاقية بلغت 2.2 مليار دولار عام 2010. وخلال السبعة شهور الأولي من عام 2011 بلغت الصادرات التركية لمصر زهاء مليارا و520 ألف دولار أمريكي، فيما كانت الصادرات المصرية قبل الاتفاقية تقدر ب390 مليون دولار سنويا، وفي عام 2010 قاربت علي المليار دولار. وترجع أسباب زيادة حجم التجارة بين البلدين إلي: سهولة تبادل المعلومات الاقتصادية والتجارية للقطاع الخاص بين البلدين، التسهيلات الجمركية من الجانبين، توافر خطوط للطيران، وجود أرضية ثقافية مشتركة، وسهولة حل أي مشكلة تنشأ بين رجال الأعمال في الدولتين.

([xii]) تركيا هي أكبر شريك تجاري لسوريا، حيث تحظى تركيا بنسبة 7 في المائة من التعاملات التجارية الخارجية السورية، والتي قدرت بزهاء 31 مليار دولار في عام 2010. وقد وقعت البلدين اتفاقية التجارة الحرة في عام 2004 ودخلت حيز التنفيذ عام 2007، وأوقف العمل بها من قبل الجانب السوري في ابريل 2012. وكان لهذه الاتفاقية دورا أساسيا في رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين سنويا بحدود 30 في المائة، حيث وصل عام 2010 إلى مليارين و272 مليون دولار، مقارنة مع عام 2009 الذي وصل إلى مليار و700 مليون دولار. وقد بلغت قيمة التبادل التجاري بين البلدين في الأشهر العشرة الأخيرة (منذ مطلع عام 2011) 1.4 مليار دولار، بينما كانت التوقعات تشير إلى ارتفاعه خلال ال3 سنوات المقبلة إلى 5 مليارات دولار.



([xiii]) على جلال معوض، "الإرتباك: تحليل أولى للدور التركي في ظل الثورات العربية"، السياسية الدولية، يوليو 2011.

([xiv]) Http://Www.Crisisgroup.Org/En/Regions/Europe/Turkey-Cyprus/Turkey/Turkey-And-The-Arab-Uprising.Aspx

([xv]) Http://Turkeytoday.Net/Node/6601

([xvi]) M. Abdel Kader, "Egypt And Erdoğan's Message To The Arab Spring Countries", Turkish Review,Ankara, 24 November 2011. At:

Http://Www.Turkishreview.Org/Tr/Newsdetail_Getnewsbyid.Action?Sectionid=341&Newsid=223154

([xvii]) Ibid.

([xviii]) "الموقف التركي من الثورة الليبية"، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، 18 مارس 2011. على الرابط التالي:

Http://Www.Dohainstitute.Org/Home/Details?Entityid=5d045bf3-2df9-46cf-90a0-D92cbb5dd3e4&Resourceid=3e8c7bcc-Ac22-4b15-Bece-66e1eb3fcbc3

([xix]) Kemal Kirişci, Turkey's "Demonstrative Effect" And Transformation Of The Middle East, Insight Turkey, Vol. 13, No,2, 2011.

([xx]) Ibid.

([xxi]) Ibid.

([xxii])Kemal Kirişci, Nathalie Tocci, And Joshua Walker, "A Neighborhood Rediscovered: Turkey's Transatlantic Value In The Middle East", Brussels Forum Paper Series, Transatlantic Academy, March 2010.

([xxiii]) Tarık Oğuzlu, "The ‘Arab Spring' And The Rise Of The2.0 Version OfTurkey's ‘Zero Problems With Neighbors' Policy", SAM Papers, Center For Strategic Research (SAM), No.1, Feb 2012.

([xxiv]) Abdullah Bozkurt, "Is Turkey Itching For War With Syria?", Today's Zaman, 25 June 2012



** باحث في الشؤون العربية والإقليمية – مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.