الطيران بلا أجنحة، والسباحة على اليابسة، والسير على الجارية، هي ثلاثية تلتصق بالذين يعيشون في أحضان الخيال، ينسجون من الأوهام أثواباً، ويبنون من الرمال قصورا، متشرنقين على أنفسهم، متقوقعين على ذاتهم، لا يرون الحياة على حقيقتها، بل يتخيلونها، ولا يعيشون الواقع كما هو، إنما يهربون من مواجهته وينزوون طوعاً أو كرهاً في أبراجهم العاجية، منتظرين أن تُسقط السماء عليهم ذهباً وفضة، وأنى لهم؟!. وليس بخافٍ على كل متأمل أن النفس حين تُربى على الترف المُفرط، وعلى الرفاهية المُبالغ فيها، بحيث لا تجد أدنى مشقة في تحقيق ما تشتهى والوصول إلى ما تُحب، فإنها تُؤسَّسُ حينئذٍ على فهم خاطئ لطبيعة الحياة ومتغيراتها القاسية، ومن ثم تدور تلك النفس في دائرة مغلقة من نرجسية خادعة تعكس مآرب من جعلته سبَّاحاً في فلكها، وبذا يظن من هكذا حاله أن الحياة قد خُلقت له وحده، حتى يأتي يوماً فارقاً تتحطم فيه أوهامه ويفيق على حقائق يعلمها للمرة الأولى!.
فيما مضى كان للأبوين فلسفة تربوية تستمد أصولها من الفطرة البسيطة السليمة، تقوم تلك الفلسفة على فكرة: أن بعض الحرمان يغرس في النفس معنى أن تكافح وتعرق لتصل إلى ما تريد، ولم تكن القسوة هي المحرك لتلك الفلسفة، ولكن هي الحكمة في أسلوب التنشئة، بحيث ينشأ الولد صلب العود، قوى الإرادة، لديه مقدرة على التكيف مع الحياة، ورغم أننا كنا نمتعض من تلك الطريقة في التربية، لكن بعد حين تكشَّفت لنا مبرراتها ودواعيها.
إن من يعتزل الحياة تحت أي مبرر، ويُوهم نفسه بأنه أنقى من أن يمشى في دروبها ويخالط أهلها عليه أن يعلم أنه الغثاء الذي طرده موج الحياة العارم، ولو كان ذا قيمة لتمسكت به في لجتها كي يؤثر فيها وتؤثر فيه، لتنشأ عن ذلك حركة حياتية تفصح عن أفراد فاعلين جادين قادرين على ترك بصمة ظاهرة على وجه الحياة، فكم من الناس قد عاش ثم مات وليس له بين الأحياء من سيرة، وكم منهم من رحل بجسده ثم بقيت سيرته عطراً فواحاً، لا ينقطع لها مداد!.
إن الخوف من رؤية الحقيقة، ومن مواجهة ضوء النهار، مثلما تفعل كائنات الظلام، التي تهوى العيش في السراديب والكهوف، ثم تنسج عالماً من خيوط الليل، ثم تتشرنق فيه، ثم تتوهم أنها قد خلقت عالماً جديداً، ثم تسرع إلى اختلاق الحجج ودفع البراهين كي يكون الوهم حقيقة وكي يكون السراب ماء، مخادعة للنفس حتى تعيش في كنف الوهم وهى تظن أنها تملك ناصية الحقيقة، بيد أن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أن هؤلاء ومن وازاهم فكراً وسلوكاً قد اصطنعوا حقيقتهم هم، تلك الحقيقة التي تفضح خوفهم وجبنهم وهم في مواجهة معطيات الحاضر.
أو إنه التلصص على المستقبل دون امتلاك الوسيلة التي تؤدى إليه، متمثلاً في تدنى مستوى الطموح، وتراجع عزيمة الكفاح، وتوقف السعي الدءوب لإثبات الذات، ومن ثم الإصابة بحالة من الجمود والتقوقع، تلك الحالة التي تتيح الوقت الكافي للسياحة الطويلة في عالم الوهم، الذي يتخيل صاحبه أنه يطير في الفضاء، أو يمشى على صفحة الماء، أو يحقق من الخوارق ما شاء..!