الحكام اللاتينيون والآسيويون ينظرون بالشك لثورات الربيع بسطاء مصر كشفوا زيف من يحكمونهم باسم الدين .. ومعارضيهم الرجل الأبيض أباد نصف الهنود الحمر وعلى استعداد لإبادة مثلهم الإخوان يتخيلون أن مصر "ضيعة" ورثوها رجال مبارك تولوا زمام البلاد بعد الثورة .. والأخونة وهم أحيانا ننتظر "مستبد عادل" .. فرانكو إسبانيا نموذجا حاورته – شيماء عيسى
حالنا يتشابه مع حال أمريكا اللاتينية إلى حد بعيد، عشنا أزمنة متعاقبة مع حكم الاستبداد وتلتها الثورات، لكن التساؤل عن الحرية والكرامة لا يزال يتردد .. هكذا يرى الدكتور حامد أبوأحمد العميد السابق لكلية اللغات والترجمة بالأزهر وعضو مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر. يستدعي الرجل صورة البسطاء في مصر وهم لا يصدقون أن من أعطوهم أصواتهم من ممثلي تيار الإسلام السياسي أوصلوهم لحالهم الحالي الذي لا يختلف في شيء عن عصر فساد مبارك، وكأنه لا ثورة قامت ولا يحزنون، وهو مطابق تماما لما كتبه المفكر المكسيكي الراحل مؤخرا كارلوس فوينتس في أحدث كتبه المترجمة للعربية أخيرا باسم "المرآة الدفينة" حين تحدث عن أمريكا اللاتينية التي تعاني تعثر الديمقراطية واحتمالية العودة للنكسة وللوراء .. لما قبل ثورات الثمانينات ضد الديكتاتوريات التي سالت دماء آلاف الأبرياء من اجلها. في السطور التالية لقاء أجراه "محيط" مع الكاتب يشرح خلاله أبعاد الفساد في كلا العالمين، وكيف عبر عنه الأدباء والنخب .. - انتقد فوينتس بكتابه "المرآة" سياسة الرجل الغربي ضد العالم الثالث .. فهل تقتنع برأيه؟
أبوأحمد : بالتأكيد؛ لقد كان بأمريكا اللاتينية نحو 50 مليون من سكانها الأصليين والذين أباد المكتشفون الأوروبيون نصفهم على الأقل بدون أن يجفل رمشا لهم، وكأنهم لا يستحقون الحياة، وكان الباباوات يباركون أفعالهم، واليوم نرى نفس السياسات تدور في دول العالم الثالث، التي حين تنحاز لخيار الثورة والقضاء على المستبدين الذين ينهبون أقوات الشعوب تتدخل فورا القوى الغربية حتى تهيمن على البلاد بعد الثورة وتعيدها للتبعية إليها بكل الأساليب .. ولنتذكر ثورة 1952 حين خرجت شعارات ناصر التي انحازت للبسطاء مثل التأميم الزراعي ومجانية التعليم وثورة التصنيع وعدم التبعية للغرب، ماذا جرى ؟ شهدنا حربا عالمية ثالثة 1956 لتكسير عظام مصر بعد تأميم القناة، وشهدنا اعتداء إسرائيلي على سيناء 1967 بمباركة أمريكية، وشهدنا دعم آخر لإسرائيل في السبعينيات، وبعدها كان السادات خلف ناصر يدرك تماما أنه يدور في ركاب القوة المهيمنة العظمى أمريكا فانبرى في معاهدات السلام ونحوها .. وفي عصر مبارك ما يغنينا عن ذكره في هذا المجال من التبعية لأمريكا ، واليوم يحدث الشيء نفسه عبر إجبارنا على الاقتراض وأشياء من هذا القبيل لكسر كلمة أي حاكم يأتي بعد الثورة، وللأسف حكامنا ينصاعون لأنهم لا يملكون الإرادة والقدرة الحقيقية للنهوض بالبلاد ..
وفي أمريكا اللاتينية على سبيل المثال التي تحدث عنها فوينتس في كتابه فقد استطاعت الجبهة السندنية من الإطاحة بحكم أسرة ساموسا الاستبدادي الذي دام منذ 1937 وحتى 1974 بالوراثة بنيكاراجوا ، لكن أتباع ساموسا ظهروا بعد ذلك من جديد بدعم غربي. - ذكرت لنا من قبل أن النخبة في أمريكا اللاتينية تختلف عن بلادنا .. كيف ؟ أبو أحمد : النخبة في العالم الثالث يهمها مصلحتها فقط، فقد كانت مع العدالة الاجتماعية في زمن عبدالناصر، ولما جاء السادات اتجهت للانفتاح والاتجاه لأمريكا، وفي عصر مبارك استنفذت أقوات المصريين بمشروعات بيع القطاع العام التي عرفت بالخصخصة في كل شيء، واليوم بتنا نستورد كل شيء، حتى أن مصانع الغزل الشهيرة لا تكد ترى منتجها بالأسواق، وحتى في الجانب السياسي نرى أن النخب تركز على مصالحها ويتبدى ذلك في جبهة الإنقاذ وغيرها من الحركات، وليست هناك معارضة رشيدة للحاكم تستهدف صالح الوطن بحق. أما الإخوان فهم ينظرون لمصر وكأنها "ضيعة" قد ورثوها ! في أمريكا اللاتينية يوجد أيضا طبقة واسعة من المنتفعين، لكن تجاورهم طبقة أخرى من النخبة الوطنية في كافة المجالات، رجال الصناعة والثقافة والسياسة، وقد استطاعوا أن يوفروا مناخا صحيا بعد الثورة لبلدانهم، ومنهم جاء هوجو تشافيز الذي قاد بلاده للتحرر من الغرب، ومنهم ظهرت ديلما روسيف رئيسة البرازيل تلك البلد التي صارت القوة الاقتصادية الثامنة في العالم، وانضمت لدول البريكس ( روسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا) وهي الدول ذات الاقتصاديات الصاعدة، وأصبحت لهم كلمة سياسية كبيرة، كل ذلك جرى رغم أن البرازيل كانت منهكة تماما قبل حكم لولا داسيلفا الذي استطاع إحداث نهضتها في ثماني سنوات فقط وجاءت تلميذته لحكم البلاد . - انتشر بين أدباء أمريكا اللاتينية تصوير الديكتاتور لتقريبه لأذهان الناس ، ما هي أهم الأعمال برأيك ؟ أبو أحمد : في نهاية الستينيات دعا كارلوس فوينتس أدباء أمريكا اللاتينية للاشتراك برواية واحدة باسم "أبناء الوطن" بحيث يكتب كل منهم عن ديكتاتور بلده، والحقيقة أنهم فعلوها لكن كل في رواية مستقلة، فكتب رينيه فابيلا روايته "المعزول الكبير في القصر" من المكسيك، وكتب أليخر كاربنتير روايته "حق اللجوء" من كوبا، وكتب ديمتريو أجيليرا من الاكوادور روايته "اختطاف الجنرال" وكتب أوجستو رواباستوتس من باراجواي روايته "أنا الأعلى" ، أما ماركيز فكان بالفعل قد شرع منذ سنوات بعيدة في روايته الشهيرة "خريف البطريرك" .. كما أنني لا أنسى الرواية الهامة لميجيل استورياس "السيد الرئيس" التي كتبها قبل هؤلاء في مطلع الخمسينات. - ألم يكن "بطريرك" ماركيز شبيها بكثير من حكام العالم الثالث ؟ أبو أحمد : هو كذلك ، سخر ماركيز من الديكتاتور على طريقته الخاصة، فرسم شخصية حاكم ذلك الذي يربو من العمر 182 عاما ومصاب بكل الأمراض العضال، ويستمتع تماما بشعبه حين ينافقه ويهتف "عاش الفحل" ! لقد اكتشف رجال القصر فجأة رحيل البطريرك ولم يكونوا مصدقين أن ذلك يمكن أن يحدث بعد أن عاشت وماتت أجيال في عصره، كانت الحاشية سعيدة بنهب أقوات الفقراء لأن الحاكم كان يهتم بنزواته الخاصة وقدراته العجيبة، كانوا يديرون حروبا وهمية ويعقدون صفقات يكتشف البطريرك أنها اضاعت امتيازات بلاده مع الإنجليز والأمريكان بسببها، وكان شبيه الحاكم هو من يدير شئون البلاد لمزيد من الفوضى ، في الوقت الذي كان البطريرك يبارك صورة أمه كقديسة ! - في "حفلة التيس" لروائي نوبل بارجاس يوسا نلمح وجها آخر للديكتاتور. أبو أحمد : بالفعل ، كتب يوسا العديد من الروايات الهامة عن الديكتاتورية فهناك "محادثة في الكاتدرائية" و"المدينة والكلاب" باكورة أعماله، و"حفلة التيس" التي سخرت من ديكتاتور هايتي، والذي وظف المحيطين به لخدمته، حتى أنهم كانوا يأتون إليه بالمحظيات لنشوته الجنسية ، ونحن في غنى عن أن نذكر أحداثا مشابهة في مصر والعالم العربي، فالكل مسخر في خدمة الفرعون وهناك كتبة الصحف الذي يسبحون بحمده ليل نهار . - نعود للسياسة، لماذا ينظر حكام أمريكا اللاتينية بالريبة للربيع العربي، ويعادونه تارة أو يقفون صامتين أمامه ؟ أبو أحمد : هم يعتبرون أن أمريكا ربما تدفع لمثل تلك الثورات لنشر الفوضى وإحكام هيمنتها على العالم العربي، وبالفعل وقف هوجو تشافيز مع بشار الأسد ضد شعبه السوري للأسف، ربما للصورة المهيمنة عن سوريا أن نظامها ضلع أساسي في مثلث الممانعة العربية للتدخلات الغربية، وهناك علاقات هامة بين نظام الأسد وإيران وفنزويلا، ولهذا لا نجد دول كتلك أو الصين أو روسيا ترحب بثورة سوريا.
وربما هذا يجعلنا نقترب من فكرة أردت أن أشرحها، أحيانا الشعوب تميل للمستبد العادل، ففرانكو حكم إسبانيا حكما استبداديا لكنه قادها لنهضة جعلتهم لا يشعرون بقسوة الأوضاع السياسية في مقابل الطفرة الاقتصادية التي انتشلتهم من نتائج الحروب الأهلية المدمرة، وكتبت عن ذلك حين ترجمت رائعة ثيلا "عائلة بوسكوال دوارتي" ، وهي أوضاع تشابه إيران مثلا التي ترزح تحت حكم الفقهاء الديكتاتوري بامتياز ولكن الشعب يرى أن حاكمه يعمل لصالح الوطن ولا يختلس ولا يدعم شوكة الأعداء مثلا، وربما نتجه لهذا المنحى لو فشلنا في إيجاد حاكم ديمقراطي يتجه بنا للنهضة بعد الثورات العربية . بلدان أمريكا اللاتينية كما عبر فوينتس ديمقراطيتها هشة وتداول السلطة فيها أمر عسير أن تتحقق من نزاهته، باستثناءات قليلة ومنها البرازيل التي اتجهت نحو الديمقراطية . - وماذا عن الروايات التي جسدت الديكتاتور عربيا ؟ أبو احمد : أتذكر أعمال نجيب محفوظ مثل "ثرثرة فوق النيل" أو "الشحاذ" وأعمال صنع الله ابراهيم جميعها تقريبا ، وإدريس علي "تحت خط الفقر" وسعيد سالم "الشيء الآخر" - لم تذكر الأسماء الشهيرة اليوم كالأسواني مثلا !
أبو أحمد : الأسواني لا أشعر بموهبته الحقيقية في الأدب لأنه يميل للمبالغات، فليس كل المصريين بهذه الصورة الشاذة التي يرسمها، حتى إنني لم أستطع إكمال روايته "عمارة يعقوبيان" ، لكنه يجيد أحيانا بالمقالات السياسية التي يكتبها . - أين الخلل بالتحديد ، هل في فساد النخب أم الحكام في عالمنا ؟ أبوأحمد : حكامنا اليوم بعد الثورة حتى لو توفرت فيهم الإرادة للتغيير والنهضة، فهم لا يمتلكون الوعي الكافي لذلك، انظري لحكومة هشام قنديل، ما هي خبرات الرجل لحكم مصر وما هي خبرات وزير ماليته وغيره من الذين كانوا مغمورين تماما ولا يمتلكون رؤية حقيقية للتغيير، وقد أدى ذلك بنا لأن الأزمات تنهال فوق رؤوسنا كل يوم وليست هناك حلول حقيقية .
أقولها بصراحة الآن .. الإخوان كانوا دعاية سيئة للغاية لتجربة الإسلام السياسي في الحكم، وقد فشلت تجارب الإسلاميين السياسيين بليبيا وتونس أيضا، وفي مصر مرت ثمانية أشهر لم نرى فيها تغييرا لأوضاع البائسين، ولابد أن يبتعد هؤلاء عن المشهد ويتركوا الحكم لمن هو أجدر منهم به، ولا أعني معارضيهم المشهورين، لكن من يمتلك الأدوات المؤهلة لهذه المسئولية من ذوي الوطنية .
وبخصوص السلفيين فأقول لهم أن تصريحاتكم وأفعالكم ليست على مستوى الفعل السياسي، فما كل هذا الانفعال من إعادة العلاقات مع إيران، ألم تضرب أمريكا اليابان بالقنبلة النووية ثم هي اليوم تشيد معها علاقات اقتصادية متينة ! لابد أن نتعلم لغة المصالح إذا .
وأتساءل هل لو كان النظام الحالي ينسب حقا للثورة كان سيبقى على شيخ الأزهر المعروف بأنه أحد أعمدة نظام مبارك بعضويته لجنة السياسات بالحزب الوطني، أو أن يجيء بالدكتور صابر عرب وزيرا للثقافة وكان مقربا من وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني، أو محمد سلماوي الذي أشاد بمبارك قبل سقوطه وصار اليوم رئيسا لاتحاد كتاب مصر مجددا بالانتخابات وكأن الأدباء هم أيضا يعيشون زمن فائت ! نحن لا نعيش أخونة كما يشيع الإعلام .. نحن نعيش هيمنة نظام مبارك من جديد .. - وكيف تنظر للمخرج ، هل تغير القيادة ببلادنا يحل الأزمة مثلا ؟ أبو أحمد : لا . فقد جاء مرسي بانتخابات حقيقية نزيهة، ولابد من احترام فترته الدستورية الأربع سنوات، لكني صراحة أتوقع حدوث تغيير انفجاري بعد عجز رجل الشارع عن الحياة الكريمة له ولأسرته، لابد أن ننتظر ثورة جياع فعلا إذا ما استمرت أحوالنا في هذا التدهور، وهذه الثورة لا نتمناها لأنها عادة يصاحبها عنف ولا تذر أخضرا ولا يابس - ماذا عن قلمك أنت ؟ أبو أحمد : كتبت من قبل عن أهم الكتابات السياسية قبل الثورة، وأصدرت سيرتي الروائية التي تفضح المتلونين في عصر مبارك ، واليوم أعكف على رواية عن الفقراء في مصر منذ الخمسينيات وحتى اليوم ..