على صدر صفحتها بشبكة التواصل الاجتماعي "فيس بوك" نقلت دار دون عن العالمي " بهاء طاهر " حين كتب عن " خيري شلبي ... الصديق " في كتاب أيام الأمل والحيرة والصادر عن الدار مؤخرا ,, "عينان صغيرتان تشعَّان ذكاء وفطنة وطاقة جبارة على العمل.. آخر لقاء ضمَّنا كان في ندوة تليفزيونية لرثاء صديقنا المشترك الراحل الصحفي مصطفى نبيل، وأدهشني كالعادة تذكره لتفاصيل عن الراحل العزيز كنت شاهدا على بعضها، لكنها سقطت من ذاكرتي مثل أشياء كثيرة، ولكن لم تدهشني عاطفته الحارة حين راح يتدفَّق في الحديث عن مصطفى نبيل بمحبَّة جارفة. فهذا هو خيري حين يحبُّ إنسانا أو مكانا أو كتابا أو ماضيا يحنُّ اليه، عندها يصوغ من التفاصيل سردا مبدعا جرَّارا يأسرك إلى كلماته سواء كان يتحدَّث أو يكتب. أما عن لقائنا الأول فكان في وقت ما في منتصف الستينيات، سرعان ما أصبح لقاء يوميا تقريبا على امتداد سنين في مكتب البرنامج الثاني في الإذاعة، وقتها كان هو كاتبا إذاعيا من نوع فريد، إذ كان مغرما بالتنقيب عن الكتب القديمة في مظانِّها عند سور الأزبكية وفي الأزهر والدرب الأحمر، وفي أي مكان يتجمَّع أو يوجد فيه باعة للكتب القديمة، واعتاد أن يستخرج من هذه الكتب كنوزا لا تقع عيون غيره من هواة الكتب عليها. ينقِّب ويكتشف ثم يأتي بفخر إلى البرنامج الثاني وقد كتب دراسة عن واحد من هذه الكتب التي أحبَّها، وهكذا كنا أول من قدَّم في هذا البرنامج ما كتبه خيري شلبي عن تحقيق وكيل النيابة المستنير محمد نور مع الدكتور طه حسين، مشفوعا بدراسة كتبها خيري مكتشف النصِّ عن التحقيق الذي وقف فيه وكيل النيابة ضدَّ أصحاب الأصوات العالية حينها، وبرَّأ العميد وكتابه من تهمة الكفر، منتصرا للحقيقة أولا ولحرية الرأي ثانيا. وكانت هذه الدراسة نواة لأول كتب خيري في مجال الدراسات: محاكمة طه حسين. ومن خلال البرنامج الثاني قدَّم خيري أيضا دراسات عن عدد كبير من المسرحيات المجهولة التي اكتشفها؛ أبرزها مسرحية فتح الأندلس للزعيم الوطني الكبير مصطفى كامل. ولم يكن الحديث عن هذه الأعمال يستغرق كل الوقت في لقاءاتنا شبه اليومية، حيث اعتدنا الخروج بعد ساعات العمل لنجلس في مقهى صغير مقابل كوبري أبو العلا الذي لم يعد له وجود، فنقضي الوقت في شرب القهوة والحديث عن الأدب والشعر وبعض النميمة عن الحياة الثقافية، وكان خيري ساحرا عند الحديث عن كل هذه الأمور وغيرها، فتنتني منه بالذات حافظته الجبارة للشعر، قديمه وحديثه، الفصيح منه والعامي، المنشور والمجهول، كان مثلا يحفظ ديوان عبد الحميد الديب الشاعر البائس أو شاعر البؤس كما كان يسمَّى من قبل نشر الديوان مجتزءا، وكان يحفظ عشرات القصص عن نوادر هذا الشاعر وغيره من الشعراء المجهولين الذين أحبهم؛ ربما لأن الزمن قد ظلمهم. وأظن أن خيري شلبي هو أعظم راوٍ للشعر في هذا الجيل. وقد سمعت ولا يدهشني أن يكون هذا صحيحا أنهم عندما كانوا يريدون التثبُّت من صحَّة بعض أبيات شاعرنا الكبير فؤاد حدَّاد كانوا يرجعون إلى خيري شلبي، فيفتيهم بالصواب. لهذا لم يكن من الغريب أن يرأس هذا الناثر العظيم تحرير مجلة الشعر في فترة من عمرها وعمره. ما كانوا ليجدوا أصلح منه. وفي تلك الفترة التي توثَّقت فيها علاقتنا كنا -كلانا- نكتب القصة القصيرة، ولم يكن أحدنا قد وجد بعد صوته الخاصَّ ولا حتى المكان الذي ننشر فيه قصصنا المخطوطة، ولكننا كنا بالطبع نتبادل المديح لإبداعاتنا الفذَّة، أقول له إنه بقصصه الواقعية خليفة ليوسف إدريس، فيجعلني بدوري خليفة لكاتب عالمي، ولم يكن هو ولا أنا جديرين بهذه الألقاب ولا بهذا المديح، ولا كنا خليفتين لأحد إلا لأحلامنا في مطلع الشباب. غير أن ذلك لم يكن كله مجاملة أو نفاقا، فقد ربطت بيننا من أيامها محبَّة عميقة استمرَّت عشرات السنين لم تزعزعها حالات الخلاف المألوفة بين أبناء المهنة الواحدة. فحين أنجب ابنه الأكبر (زين) قال إنه سميِّي؛ لأنه يناديه في البيت باسمي. وظلَّ حتى آخر عمره يكرِّر ذلك ويؤكِّده لي هو وأفراد أسرته العزيزة ومنهم زين نفسه حفظه الله هو وإخوته وأمهم الفاضلة؛ ليحملوا أمانة تراث خيري. وكنت أفرح وأفخر بهذا التكريم الفريد من صديق فريد. فأما ما زعزع علاقتي بخيري وزعزعني شخصيا فهو اضطراري للسفر خارج مصر منذ منتصف السبعينيات، فبالإضافة إلى كل سوءات الغربة وآلامها انقطعت صلتي بأصدقاء العمر في مصر سنين طويلة، وكنت ألاحظ في كل زيارة لي للوطن أني أصبح بالتدريج شخصا غريبا عنهم وبعيدا عن وجدانهم، وكم كان ذلك يحزُّ في نفسي كأني أدفع ثمن الغربة مرتين، مرة في منفاي والأخري في وطني. لا يدرك قسوة ذلك من لم يكابده ويلاحظ رسوخه. كانت بشاشة خيري الطبيعية وودَّه الصادق مما يخفِّف عني وطأة ذلك الشعور حين ألقاه في أثناء تلك الزيارات المتقطعة. وفي أول زيارة لي أهداني بفرح روايته (السنيورة) وقال بإلحاح اقرأ هذه الرواية وقل لي رأيك. قرأتها في الليلة نفسها، وفي الصباح كنت أهنِّئه وأهنِّئ نفسي لأن صديقي وجد بالفعل طريقه وصوته الأصيل الذي لا يشبه صوت كاتب آخر. ففي هذه الرواية المبكِّرة من إنتاجه الغزير التالي نجد ملامح ريف مصري، لم نقرأ عن مثله من قبل، حتى عند من اعتقدنا أنهم يقدِّمون صورة واقعية للقرية المصرية. ويقول هو إنه استفاد من تجربته كعامل تراحيل في صباه في كتابة هذه الرواية، فمَن مِن كتابنا عاش تجربة عامل التراحيل أو أيا من تجارب خيري الصعبة (كجامع قطن وخياط بلدي وسمسار ريفي... الخ) بحيث يقدِّم لنا الريف المصري بمثل هذا الصدق والعمق؟ غير أن هذه الرواية وأنا أكتب عنها الآن من الذاكرة أغنت التجربة الواقعية بأسطورة خيالية كأنها خارجة من ألف ليلة عن البغلة (السنيورة)، وسيصبح هذا المزج بين الواقع الممعن في واقعيته والخيال المحلِّق بعيدا عن عالم الحقيقة وعن منطق الواقع- سيصبح علامة مميزة لإنتاج خيري ولعالمه الخاص الذي شاده وفرض به وجوده الأدبي في سرعة فائقة. ففي خلال سنوات قلائل حقق ما يقضي غيره من الكتاب عمرا كاملا للوصول إليه أو حتى إلى ما يقاربه. وكنت أتابع من مكاني البعيد أعماله وأحدِّثه عنها في لقاءاتنا المتباعدة أيضا. حدثته عن (فاطمة تعلبة) الشخصية الآسرة في رواية الوتد البديعة، التي رسمت صورة جديدة للأم في الرواية المصرية، بعيدة عن صورة الأم الخاضعة المستكينة، وأبديت له إعجابي الكبير برواية وكالة عطية التي حوَّلت الواقع الخشن الحافل بالقسوة والألم إلى عالم سحري (فانتازيا) كأنه يلخِّص تجربة الحياة في المعاناة المتصلة بحثا عن خلاص قد يأتي أو لا يأتي. وأوجعتني التجربة المريرة في (موال البيات والنوم)، وأوجعني أكثر أن عرفت أنها مستمدة من تجربة حقيقية، وأثنيت صادقا على الرواية كعمل بالغ التأثير مع قسوته أو بسبب قسوته، واعتاد خيري أيضا أن يحدِّثني بمودة وتقدير عما كنت أنشره في سنوات الغربة. كانت كل الأمور بيننا تسير على ما يرام كصديقين قديمين حميمين افترقا على ود، غير أني فوجئت وأنا في جنيف بمقال في صحيفة عربية يهاجمني فيه ويهاجم رواية خالتي صفية والدير؛ تعليقا على ندوة حضرها عن الرواية ولم تعجبه. فوجئت تماما ومرَّت شهور قبل أن أقابل خيري في زيارتي التالية للقاهرة. كان غاضبا مازال وكنت أنا أيضا غاضبا وعاجزا عن الفهم. وحين تصارحنا تأكَّدت عندي عقيدة كتبت عنها أكثر من مرة وهي أن الطفل داخل كل منا يبقى حيا مهما بلغ الإنسان من الوعي والحكمة في نضجه وحتى في شيخوخته. وكان هذا يصدُق على كلينا، فقد قال خيري بصراحة وبراءة إنه غاضب مني لأنني كتبت مقدمة لرواية خالتي صفية تحدَّثت فيها عن كتاب الستينيات دون أن أذكر اسمه. لم أكن أقصد هذا الإغفال بالطبع ولكني سألته عما يعنيه له ذكر اسمه وسط أسماء أخرى، في حين أنه أمَّة وحده وكيان قائم بذاته؟ وهذا بالفعل هو رأيي حتى الآن، فأنا لا أنسب خيري إلى مدرسة أو إلى تيار أدبي، ولا أحسب أن هذا يزيده قدرا على أي نحو، ولكني أنسبه فقط إلى خيري شلبي المكتفي بذاته، وكفى بهذا فخرا لأي كاتب. المهم أن تلك كانت بالفعل سحابة عبرت سماء صداقتنا الطويلة ثم رحلت. وعندما رجعت إلى مصر وصرنا نلتقي بانتظام في المجلس الأعلى للثقافة وفي الندوة الأدبية الشهرية التي يعقدها المحامي الكبير رجائي عطية وفي مقاهي وسط البلد، عاد الودُّ القديم أصفى ما يكون، وظللت أهنِّئه على كل رواية جديدة تصدر له وأناقشه فيها، وأسعده ذات مرة أن قلت له إنني نصحت ابنتي بأن تقرأ رواية نعناع الجناين، فأصبحت من بعدها تدمن قراءة أعماله. أما هو فقدَّم لي أثمن هدية حين اختصَّني بواحدة من صوره القلمية أو بورتريه أعطاه عنوان فحل الرمان، ولم أكن أطمع بعد ذلك في مزيد.. بل إني كنت أطمع بالفعل كمثل طمع شوقي من حافظ. ومنذ انقضَّ عليَّ نبأ رحيله الصاعق الذي لم أفق منه حتى الآن، وأنا أكرر قول شاعرنا العظيم: قد كنت أوثر أن تقول رثائي يا منصف الموتى من الأحياءِ أنا لم أهيِّئ نفسي أبدا لأن ترحل قبلي، فوداعا وإلى لقاء، ورحمة الله عليك وعلينا