فتح العرب المسلمون مصر في عام 20 هجريا ، فصارت أرض النيل ولاية في الخلافة الإسلامية الكبرى، يحكمها والي ترسله المدينة أو دمشق أو بغداد ، لكن القدر كان يخبئ لها موعدا مع التاريخ ، إذ سرعان ما انتقلت إليها قيادة العالم الإسلامي ، ونافست قاهرة الفاطميين بغداد العباسيين وقرطبة الأمويين ، وكان لها فضل إحياء الخلافة العباسية بعدما قضي عليها هولاكو التتري عام 656 هجريا.. وكان لذلك قصة مدهشة. خلف جامع السيدة نفسية في شارع الأشرف ، بحي الخليفة ، تنتصب قبة بديعة ، النظرة الأولي لها لا توحي بما تضمه ، فهناك تحت ثراها يرقد سبعة عشر خليفة عباسي.. ولهذا أطلق على المنطقة كلها "حي الخليفة".. تلك بقعة مباركة.. فيها عاش آل البيت ، وتحت ثراها دُفنوا.. ومنها كان يخرج المحمل المصري ، حاملا الكسوة الشريفة للكعبة ، وهو الشرف الذي استأثرت به مصر قرونا طويلة حتى توقف أوائل الستينات بعدما وقع الخلاف بين عبد الناصر والسعودية.
ضريح العباسيين يعاني من إهمال مختلف ، فالمياه الجوفية لا تأكل جدرانه ، ولا أكوام القمامة تخنق أنفاسه ، وإنما هو يقاسي إهمال الدعاية ، فقليل هم من يعرفون مكانه أو حتى بوجوده ، حتى بعض سكان المنطقة استغربوا السؤال: كيف أذهب لضريح الخلفاء العباسيين؟!. حارس المقبرة أكد ذلك ، شاكيا قلة الزوار ، واقتصارهم على طلبة الآثار وبقايا العباسيون الذين يزورن الضريح من آن لأخر ، فيما لا تمتد يدا بالترميم إلى المدخل الذي يؤدي للقبة.
وبجوار الخلفاء، يرقد زعيم وطني حمل راية الجهاد ضد الإنجليز في بداية القرن العشرين من أجل إجلائهم عن وادي النيل، مستلما الراية من رفيقه مصطفي كامل، ولوطنيته ضيقت الخناق عليه وعزمت على سجنه فسافر إلى أوروبا لعرض القضية المصرية، وفي 15 نوفمبر 1919 وبالعاصمة الألمانية برلين توفي محمد فريد وحيدا فقيرا، ولم يجد أهله في جيوبهم مالا ينقلون به جثمانه إلى القاهرة، فتولي أحد تجار مدينة الزقازيق ذلك.. ليرقد بسلام بجوار خلفاء بني العباس.
أما قصة دخول خلفاء بني العباس إلى القاهرة، فتبدأ سطورها بسقوط بغداد على يد المغول، وكان لتدميرها دوي هائل في العالم الإسلامي، حتى أن المؤرخ ابن الأثير كتب يقول: "فلو قال قائل منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن: لم يبتلَّ العالم بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقابلها ولا ما يدانيها". فسقوط الخلافة أوجد موقفا غريبا، فمنذ وفاة النبي عاش المسلمون في ظلالها، واليوم يحيون بلا خليفة.
وبعد شهور من تدمير بغداد كتب الله للسلطان قطز أن يقتص من التتار في موقعتي عين جالوت وبيسان.. وبينما كانت القاهرة تتزين لاستقبال البطل الذي أنقذ العالم الإسلامي من الاجتياح التتري الرهيب، إذ صدمهم منادي يسير في الشوارع "ترحموا على الملك المظفر،" وادعوا لسلطانكم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس"..
كان على السلطان الجديد أن يواجه الثورات الرافضة لحكمه، فمبدأ "الحكم لمن غلب" هو القانون السائد لدولة المماليك. كان أول الثائرين الأمير علم الدين سنجر الحلبي، نائب قطز على دمشق، إذ أعلن نفسه ملكا ، وضرب العملة باسمه ، واستعد للحرب. استخدام بيبرس سلاح المال للقضاء على هذه الثورة التي هددت سلطانه في الشام ، ونجح الدينار في فض أنصار سنجر ، ثم أرسل بيبرس جيشا جاء بالأمير المتمرد مكبلا في الحديد.
وفي القاهرة ، استيقظ السلطان يوما على صرخات مدوية تشق عنان السماء ، رجل شيعي اسمه الكوراني جمع حوله الجنود الموالين للشيعة والحالمين بإعادة الخلافة الفاطمية ، وارتفعت صيحات الثوار في الشوارع "يا آل علي" ، واستولوا على بعض الأسلحة وعدد من الخيول.. بيد أن نداءاتهم ذهبت سدي ، فالمصريون لم يبكوا على زوال الخلافة الفاطمية زمن صلاح الدين فهل يسعوا لإحيائها الآن؟!. وقبض بيبرس على المتمردين، وتدلت أجسادهم مصلوبة على باب زويلة.
أقلقت تلك الثورات بيبرس ، وجعلته يشعر بأنه يحتاج إلى دعامة قوية يستند إليها سلطانه ، فهو في نظر المصريين قاتل السلطان قطز ، وهو والمماليك قد اغتصبوا عرش مصر من سادتهم بني أيوب ، وأضف إلى ذلك تجريح المصريين للمماليك بسبب أصلهم غير الحر ، فهم عبيد بُيعوا كرقيق في أسواق النخاسة.. فأخذ بيبرس يبحث وينقب عن رداء يضفي الشرعية على حكمه ، فكان طوق الإنقاذ إحياء الخلافة العباسية في القاهرة.
كان الملك قطز – رحمه الله – قد فكر في إحياء الخلافة العباسية سنة 658 هجريا بعد انتصاره في عين جالوت ، فأرسل يستدعي واحدا من سلالة العباسيين وهو أبو العباس أحمد. وجاء الأمير العباسي بالفعل إلى دمشق ، وبايعه قطز بالخلافة ، لكن مصرع قطز حال دون إعلان الخلافة العباسية من القاهرة.
ورقص قلب بيبرس فرحا حينما أخبرته الرسل بأن أميرا عباسيا قد طرق دمشق يريد الحماية ، فأرسل يستدعيه فورا. وعلى مشارف القاهرة خرج السلطان للقاء أبي القاسم أحمد في شهر رجب 659 هجريا مصطحبا معه وزيره وقاضي القضاة والعلماء والشهود والأعيان والمؤذنون ، كما خرج اليهود بتوراتهم والنصارى بأناجيلهم.
وبعد عدة أيام عقد بيبرس اجتماعا في القلعة ، دعا إليه القضاة والعلماء والأمراء ليشهدوا على صحة نسب الأمير العباسي.. ثم بايعوه خليفة واتخذ لقب المستنصر بالله.. وعندما تمت بيعة الخليفة قام بدوره بتفويض السلطان الظاهر بيبرس حكم البلاد الإسلامية " وما سيفتحه الله عليه من بلاد الكفار".. وحصل بيبرس أيضا على لقب جديد يضاف إلى لقب السلطان الظاهر وهو "قسيم أمير الدين" والذي لم يحصل عليه أحد قبله. وبذلك التفويض صار بيبرس يتولي منصبه بتفويض من السلطة الشرعية العليا في العالم الإسلامي وهي الخلافة العباسية. لكن الأمور بين الخليفة والسلطان لم تسر على ما يرام.
كانت نوايا بيبرس طيبة تجاه الخليفة أول الأمر، وكان جادا في إحياء الخلافة ، وعزم على إرسال جيش عدته عشرة آلاف فارس يستخلص به بغداد من المغول. لكن حدث شيئا غريبا.. يقول المقريزي عمدة مؤرخي مصر المملوكية "خلا أحدهم بالسلطان ، وأشار عليه إلا يفعل ، فإن الخليفة إذا استقر ببغداد نازعك وأخرجك من مصر، فرجع إليه الوسواس"... لقد أدرك بيبرس في اللحظة الأخيرة خطورة إحياء الخلافة العباسية في بغداد ، ورأي أن تظل تحت عينيه في القاهرة.. فدبر أن يرسل الخليفة في مهمة بلا عودة .. ويلقي به بين أنياب التتار.
المؤرخ سعيد عاشور في كتابه "الأيوبيون والمماليك في مصر والشام" يفسر لنا سبب تغير بيبرس على الخليفة فيقول: يبدو أن السلطان عاد وأحس بأنه أوجد لنفسه شريكا في الملك. ذلك أن السكة – النقود – صارت تضرب باسم السلطان والخليفة ، كما صار يدعي للخليفة على منابر الجوامع يوم الجمعة قبل الدعاء للسلطان . ولعله لم يغب عن بيبرس أنه إذا حدث صدام في المستقبل بينه وبين الخليفة ، فإن الرأي العام في العالم الإسلامي سيقف إلى جانب الخلافة بوصفها السلطة الشرعية الأولي في حكم المسلمين منذ وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام.
لقد كان بيبرس يريد الخلافة اسما وواجهة لا كيانا ينازعه السلطان ، لذلك أخذ يفكر في كيفية التخلص من الخليفة. فأدعي أن يريد تحرير بغداد من المغول ، وخرج مع الخليفة حتى دمشق ، وهناك تركه يمضي وحده مع عدد من الفرسان ، أخذوا ينسلون واحدا وراء الأخر ، حتى تبقي مع الخليفة ثلاثمائة فارس فقط ، كانوا جميعا فريسة سهلة للتتار.
وحينما ظهر أمير عباسي أخر أسرع بيبرس باستدعائه إلى القاهرة ليحل محل الخليفة القتيل. وكان هذا الأمير الجديد هو أبو العباس أحمد الذي لقب بالحاكم بأمر الله ، وبايعه السلطان بالخلافة ، وحصل منه بيبرس على تقليد بالسلطنة. وفي تلك المرة لم يرسله بيبرس إلى بغداد ليلق حتفه، وإنما أبقاه في القاهرة تحت مراقبته، ومنعه من الاتصال برجال الدولة فصار كالمحبوس.
ولم تكسب الخلافة العباسية من إحيائها في القاهرة شيئا ، يقول الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه "من تاريخ الأيوبيين والمماليك": "هانت مكانة الخلفاء الذين تعين عليهم أن يسعوا إلى حفلات تنصيب السلاطين وولاية العهد ، كما كان عليهم أن يزينوا مجالس السلطان حين يستقبل وفود الدول المعاصرة وسفراءها"... لكن القاهرة استفادت من الخلافة العباسية ، إذ صارت قبلة العالم الإسلامي التي يفد إليها العلماء والفقهاء والفنانون ، ونشطت فيها حركة التجارة والصناعة ، وزينت المآذن سمائها ، وخرجت منها الجيوش لتحرر الشام من السرطان الصليبي وتدحر الزحف المغولي.. ليكتب عنها ابن خلدون بعد سنوات " ومن لم ير القاهرة لا يعرف عز الإسلام..فهي حاضرة الدنيا ، وبستان العالم ، ومحشر الأمم ، وإيوان الإسلام ، وكرسي الملك".