وسط الضجيج و الاحباط و حالات الانفصام التي اصابت كثيرين ممن كنا نأمل فيهم خيرا , يلوح شعاع أمل يدعو للتفاؤل , و يؤكد ان مصر بخير ما دامت الضمائر الحية لم يمسها العطب بعد , فلم يك من السهل أن تنسى أجيال من الكهول و الشيوخ قرأت لعميد
الأدب العربي ما تركه من أثر في نفوسهم بعمله العظيم "الشيخان", والذين دّرسوها و الذين درسوها يدركون جيدا أن هذا الرجل لم يكن كافرا و لا ملحدا و لا مشركا , مهما اختلفت معه أو تصادمت مع أفكاره , غير أن هناك محطات في حياة حياة طه حسين تجعلنا نتأكد تماما من صدق هذا الأديب العبقري بعد حفظه للقرآن و تعمقه في دراسة الأدب العربي بكل مراحله , و تصديه لقضايا جوهرية في الآداب العالمية و اختياره لمنهج الشك "الديكارتى"ليصل الى الحقيقة , بل ان ارادته الصلبة , و معاناته الطويلة التي لازمته سنوات عمره حتى رحيله لتبعث في النفس معنى قوي الأثر لأي متطلع لمجد نقدي يضاهي أعظم مناهج الحرية في العالم , و قد ضمنها الاسلام لغير أبنائه ناهيك عن أبنائه . و لعلى و أنا أشهد هذا الغضب في عيون الناس البسطاء الذين لم يقرأوا "الشيخان"و لا "الفتنة الكبرى" "عثمان و علي",ولا "أديب"و لا "دعاء الكروان"و لا "الأيام ولم يسمعوا الأحاديث الأدبية التي كانت تذاع بالاذاعة المصرية في عصرها الذهبي , و من بينها كان طه حسين بصوته الشجي يتلو أدبا رائعا يحسه حتى الأمى الذي لا يقرأ و لا يكتب , لعلي ألمح أملا آخرا في نهاية النفق المظلم , قد يثور من أجله المهمشون الذين جاهد من أجلهم طه حسين ليكون التعليم كالماء و الهواء , و أن الذين وقفوا يهتفون ضده : ,, يسقط الوزير الأعمى يشبهون كثيرا الذين حطموا تمثاله بالمنيا.
احاول تجنب الخروج من محيط ضيق رسمته لنفسي حتى لا أغوص في وحل الزحام , و تسقط من روحي بقايا الانسان المعرضة للتلف و الزوال , ولكني أجبرت على مغادرة هذا السياج الآمن فاتخذت طريق محور المعادي الذي بدا و أنا أصعد اليه من مطلع المريوطية أنه خال تماما فوثب قلبي فرحا , حتى اذا قطعت عشرات من الأمتار قليلة فجأني توقف السيارات المحشورة حشرا و لم يعد أمامي مفر ولا مخرج من أن أقف حزينا أتألم و من حولي الوجوه الحزينة واجمة مستسلمة لقدرها , تتحرك السيارات ببطئ شديد و كأن هناك على البعد حادثا مروعا سد علينا الطريق , أخذت أفتش عن أحد يغيثا من رجال المرور , لقد اختفى المرور و ليس هناك الحلم الذي نسميه الدورية الراكبة , فتحت زجاج سيارتي و سألت قائد السيارة المجاورة , ماذا هناك .. فرد : لا شئ , كل يوم على هذا الحال .. رحت أتداخل في نفسي و ألومها , لماذا خرجت , فان المريض الذي ينتظر مجيئي الآن لن يغفر لي ما قد يسببه تأخري عليه من مضاعفات لا يعلمها الا الله , و ان هذه الوقفة و السجن قد يطول لعدة ساعات لا أدري متى أنفذ منه , و أصبح حرا طليقا مهيئا لكي أمارس مهنتي الانسانية و بعد ساعة و نصف , يرن هاتفي ليخبرني نائبي بالمستشفى أن المريض رحل الى حيث لا يعود المرتحلون , و أن أعود أدراجي ان شئت و هنا أدركت أن معظم أحساسيسي تتلاشى و أنني أقف وسط نيران تأكل روحي قبل جسدي , و ظلت الحركة بطيئة حتى أيقظني آذان الظهر , و أنا مازلت أبحث عن مخرج أعود منه الى بيتي .. و كان ذلك بعد ساعتين من الويل و الثبور تجتاحني و تؤنب ضميري و لا أعرف من يتحمل هذا الذنب.
أخر الأسبوع : أنا حيران يا الله
أصيح بها من آخر الدنيا * من الوتر الذي يبكي من بحنجرتي * و من دمعك السيال في روحي * و من شجني * أبوح بهمي المخزون في قلبي * سنون العمر قد ضاعت * و ما عادت لك الأيام صافية * و قد ضلت بينا الخطوات من درب الى درب * فلا ندري متى نلقاك ثانية * و هذا الوجهه ينكرنا و يبعدنا و يقذفنا بكل شتائم الصبيان * لماذا الآن .. لماذا الآن يا وطني تفجر حزنك الطاغي على شفتي * و ترميني بعصياني * بأني صرت مغتربا و ممقوتا * و ليس لديك ما يكفي من الأحزان كي أبكي * أنا العطشان يا أيامنا السوداء * أنا الحيران يا أرضي * فاي بقاع سوف تمنحني ضمير الشاعر الانسان * و أي سماء سوف تمطرني و تغمرني بعطر الفل و الريحان * أنا تائه ..أنا قد صرت أشلاء من الأفكار و الكلمات * تنثرني رياح الغدر و البهتان * أنا حيران يا الله فانقذني من التيه * و أخرجني من الكابوس الذي فوقي * أنا مشتاق لأولادي * و أحفادي و كل تراث الفكر في وطني ..الى النيل الذي يجري ليلثم جرحنا المفتوح * و يشفي قلبنا المقروح * فآه ..آه يا وطني.
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أالقائمين عليه