ثلاث أيقونات من علامات الفن المصري الحديث حضرن بأعمالهن التشكيلية في معرض واحد بقاعة "بيكاسو".. أنجي أفلاطون، تحية حليم، وجاذبية سري، تلك الفنانات التي عاصرن بعضهن البعض، وشكلت لوحاتهن مكانة كبيرة في الحركة التشكيية المصرية في النصف الثاني من القرن العشرين. قدم هذا المعرض مجموعة نادرة من أعمال الفنانات الثلاثة، التي ألقت الضوء على إحدى المراحل الفنية لكل منهن، بأساليبهن المتنوعة والمختلفة في استخدام اللون، وتصوير المناظر الطبيعية، والتعبير عن البيئة المصرية بشتى أشكالها. تحية حليم (1924 – 1989) فنانة اهتمت بالتعبير عن البيئة المصرية برؤيتها الخاص. وفي هذا المعرض قدمت القاعة مجموعة من اللوحات التي مثلت إحدى مراحل تحية الفنية، والتي تناولت خلالها "النوبة"؛ حيث رصدت الفنانة مشاهد من الحياة اليومية لأهالي النوبة، ورسمت الطبيعة بأسلوبها الفريد، الذي يتميز ببراعتها في بنائية اللوحة، والاهتمام باللون الثري الذي يحمل مذاقا خاصا شديد المصرية، يشع موسيقى لونية نتجت من تمازج مجموعاتها اللونية مع الخطوط المتناثرة التي تخرج من ثنايا العمل لتؤكد على إبراز المشهد، وكأننا نرى لوحة فرعونية قديمة مرسومة على الجدران، تحمل ألونا طبيعية للبيئة المصرية مأخوذة من طمي النيل، مهتمة بتعبير تلك الوجوه النوبية السمراء التي رسمتها بحرفية شديد، وبصدق يتغلغل في وجدان المشاهد فور تقع عينه على سطح اللوحة. وبرقة وبحس مرهف تناولت حليم المرأة النوبية، فتارة نجدها تعمل وتحمل جرتها وسط حيوانات البيوت الريفية الأليفة التي ترعاها وتربيها في بيتها، وتارة أخرى نجدها في السوق تحمل أغراضها وأقفاصها عازمة الرحيل. نجدها أيضا تعمل في الحقل، وفي الساحات المحيطة بالبيوت، التي اهتمت بتسجيل رسوماتها وزخارفها الشعبية الجميلة ذات الألوان المبهجة على البيوت البيضاء. وفي أغلب الأحيان تمسك بفروع النباتات والخوص. كما تناولت حليم أطفال النوبة، وصورتهم في لوحات منفصلة، ففي إحدى اللوحات نجد صبي يضع يده على كتف فتاه، وهما يجلسا في هدوء شديد، بوجوههما السمراء التي حملت لون الطينة الأسوانية. وبتلقائية وعفوية رسمت أيضا حليم مناظر طبيعية من النوبة، مهتمة بالنيل الذي ظهر في عدد من لوحاتها، والنخيل، والمراكب، والجبل. بالإضافة إلى تناولها الصيادين والرعاه، واحتفالات أهالي النوبة الشعبية، فهي لم تتناول مشاهد من النوبة وحسب، بل أرادت تسجيل ووصف عاداتهم وتقاليدهم وأساليبهم في الحياة، مما جعلها اشتهرت بأسم "عاشقة النوبة"، تلك البلدة الجميلة التي غمرتها مياة الفيضان بعد بناء السد العالي، وطمست معالمها وبيوتها الجميلة البيضاء التي كان أهالي النوبة يرسمون زخارفهم الشعبية على جدرانها. جاذبية سري المرأة عندها هي الريشة عندما ترسم.. جاذبية سري (1925). قدمت في هذا المعرض مجموعة من اللوحات عن البيوت، محتفية بالأشخاص الذي تناولتهم في مجموعة أخرى من اللوحات؛ حيث خرجوا من البيوت ليتنسموا عبير الحرية وأجواء التغيير بعد الثورة؛ فاستطالت الأجساد وتوهجت الوجوه باللون الأحمر والأزرق والأصفر بدرجاتها المتعددة والمفعمة بالحرية، مستخدمة عجائن اللون السميكة مع الخطوط والخدوش التي تحدد ملامح الأبنية سواء التي احدثتها ضربات فرشاها أو سكينة اللون لتعطي ملمس جمالي في إيقاع هندسي أحكمت بناءه. والفنانة لم تظهر التفاصيل الدقيقة لتلك البيوت، أو ترسمها بشكلها الواقعي، بل اهتمت بالتعبير عنها وكأنها في عالم سحري وخيالي؛ فالبيوت تبدو كأنها تسبح مع الخلفية في فضاء جديد من عجائن اللون، وبالرغم من ذلك لم ينصهر الشكل مع الخلفية، بل عملت تلك الخطوط الثائرة والتي تحدد الأبنية بشكل غير منتظم على فصل تلك المساكن عن الخلفية مع ارتباطها الشديد بها. وفي بعض اللوحات نجد تكرارا للون الخلفية في أجزاء من واجهة البيت يجعلنا نشعر بنوع من الخداع البصري، فيبدو شكل البيوت متماسكا له كيان واضح في اللوحة من خلال خطوطه وألوانه في جزء كبير منه، بينما يظهر شفافا في أجزاء قليله من البيت ليبدو وكأنه مختبئ وراء الخلفية التي يبرز لونها وتظهر متخلله كيانه وكأنها دخان يأتي من الوراء ليعبر إلى واجهة المبنى، أحدثته شفافية اللون التي برعت جاذبية سري في تناولها في أعمالها. أنجي أفلاطون أما الفنانة أنجي أفلاطون (1924 – 1989) فصورت في لوحات هذا المعرض مشاهد من القرى، الحقل، النحيل، جامعات البرتقال، وجامعات البلح، كما تناولت مشاهد السفن الشراعية والنيل في لوحاتها التي تتمتع بمذاق خاص؛ حيث أسلوبها الفريد الذي يعتمد على الخطوط اللونية التي تختلف اتجاهاتها بحسب الشكل الذي تريده؛ حيث تتمازج تلك الخطوط في جميع أجزاء اللوحة بألوانها المبهجة والزاهية، التي تشبة نسيج السجاد والزجاج؛ لتجد نفسك أمام عالم افتراضي شكلته تلك الخطوط التي تهتز وتتمايل وتختلف ألوانها لتميز عناصر العمل. ففي لوحة جامعة البلح صورت أفلاطون فتاه تصعد إلى نخله لتجمع بلحها وسط أكمام النخيل، وتباعدت الخطوط وازدادت سمكا كلما صعدنا إلى أعلى اللوحة لتحقيق المنظور الذي يقوي الحس التعبيري في العمل. وفي لوحة أخرى تتباعد تلك الخطوط وتزيد من شفافيتها لتعطي تأثير لوني مختلف للعمل، بتكنيك أكثر بساطة في استخدام تلك الخطوط اللونية المتزاحمة، لتتباعد وتهدأ وتظهر في صورة معبرة عن المنظر الطبيعي بأسلوب أكثر بساطة. ولأنها عبرت عن المجتمع المصري والبيئة المصرية في لوحاتها، وكانت ضمن جماعة "الفن والحرية" مع محمود سعيد وفؤاد كامل، وقدمت لوحات عن هيمنة الرجل على مقدرات المرأة، الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني، وشهداء الفدائيين في معارك قناة السويس؛ قال عنها النقاد أنها تضفي قدراً هائلا من الحيوية على تفسيرها للطبيعة، وأنها تدرك قيمة العمل كجزء لا يتجزأ من المنظر الطبيعي. كما قالوا عنها في روما أنها خرجت من قلب الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة التي ترتبط بالواقع؛ حيث تصور العظمة القاسية للطبيعة المصرية في لحظات من الحياة اليومية، تكمن قوتها في قدرتها على القبض على شعور ما. ومن هنا نجد أن هذا المعرض الذي جمع بين ثلاثة من أهم فنانات الجيل الثاني اللاتي تصدرن الحركة التشكيلية النسائية في مصر، ويعدن من روادها، قد سلط الضوء على إحدى المراحل الفنية الهامة لتلك الفنانات، والتي لم يتم عرض أغلبها من قبل، لعلها تكون درسا ومعلما للفنانين الشباب ودارسي كليات الفنون، تذكرنا بتلك الفترة الجميلة التي عاشتها مصر واهتمت فيها بالفنون، وبالأخص الفنون التشكيلية التي اخرجت جيلا من الفنانين أخلص ودأب ممارسة إبداعه، واستلهام بيئته، والتعبير عنها بصدق في إطار معاصر أبهر العالم، فكل منهم له بصمته الخاصة التي كانت بمثابة علامة في الحركة التشكيلية المصرية، بل والعالمية؛ حيث زينت أعمالهم جدران أغلب المتاحف العالمية، وجاذبية سري وأنجي أفلاطون وتحية حليم ضمن هؤلاء الفنانين الذين أهتم العالم بإبداعهن، فنجد لوحة للفنان جاذبية سري في متحف "المتروبوليتان" بنيويورك، وأعمال لأنجي أفلاطون في متحف "الفن الحديث" في "درسدن" ومتحف "بوشكين" بموسكو، ولوحة لتحية حليم في متحف "الفن الحديث" في "باستكهولم". تلك الفنانت الثلاثة التي اجتمعت أعمالهن للمرة الأولى في معرض واحد، يشهد إبداعهن في تلك الفترة الفنية الجميلة من عمر مصر.