يحتم الاحتفال بالذكرى الثانية لثورة 25 يناير القراءة مجدداً في الأطروحات الأدبية لصاحب نوبل الذي أحاطت كتاباته بتفاصيل الحياة عبر مراحل مختلفة من عمر مصر تشكلت خلالها لوحات الصراع وتكشفت جوانب اجتماعية مهمة فيما يشبه النبؤه . لقد احتلت السياسة موقعاً رئيسياً في كتابات نجيب محفوظ الروائية فلم يكن يغفل إشكالية خلطها بالدين عند من يريدون غطاءاً لتمرير أفكارهم الوصولية – الأصولية ، ولهذا انتبه وحذر كثيراً من خطورة اللعب بالنار ، فنجده في رواية زقاق المدق يكشف لنا نموذج الرجل الملتحي المنتسب مجازاً للتيار الديني ، فيما تعكس الحقيقة أن مجموع محصلته الفقهية لا يتجاوز بضع كلمات ينطقها بالفصحى ويفرض بها وصايته الثقافية علي أهل الحارة لدرجة أن تكرار الوعظ والتصحيح بات مثيراً للسخرية فلم يعد أحداً يتعامل بجدية مع ما يقوله الشيخ المسن الوقور ، ولكي يتذكر القارئ العزيز هذه الشخصية أحيله إلي الفيلم الذي جسد الرواية بنفس العنوان ولعب فيه الفنان القدير حسين رياض الدور ذاته بمنتهي المهارة .
وليست هذه الرواية وحسب هي ما رصد من خلالها الأديب الكبير ألاعيب تجار الدين فهناك أمثلة كثيرة من بينها النموذج السلبي في رواية الحرافيش ، الشقيق الأصغر لعاشور الناجي الذي بدأ حياته عربجياً علي عربة يجرها حصان ثم انقلب في غضون سنوات قليلة إلي صاحب وكالة أقمشة برأس مال ضخم جمعه من لعب القمار والدعارة ، والغريب أنه في نفس السياق وبين الانغماس في كل الموبقات يعود إلي أهله في الحارة وقد ارتدي ثياب العفة والطهارة وأتشح بوشاح التقوى وأمسك بمسبحة طويلة في إشارة لصلته الوطيدة بالذكر والتسبيح .. الإكسسوارات الدينية توافرت كلها في الشخصية المخادعة ولكن لم ينس نجيب محفوظ أن يميط اللثام عنها في نهاية الرواية التي حولتها السينما إلي فيلم بعنوان " التوت والنبوت " فتبدو عارية تماماً ويئول مصير ابن الناجي المتدثر بعباءة الإسلام إلي الهلاك وتسقط عنه الهيبة ويموت منتحراً لأنه عجز عن مواجهة أهل الحارة .
في رواية "الشحاذ" يهيم البطل عمر الحمزاوى علي وجهه بعد تضاد الأفكار والمعاني في رأسه وعدم القدرة علي التيقن من الحقيقة نتيجة عدم الثقة في من يطرحون الدين حلاً لكل المشاكل وينصبون أنفسهم حكاماً بأمر الله ، فيما يمارسون هم عكس ما يزعمون ولا يتمسكون بحرفية الشريعة ونصوصها إلا حين تتلاقي مصالحهم مع النص القرآني .. يصطدم بطل الرواية بالواقع الجوهري لحماة الدين ورافعي شعاره فيولي وجهه عنهم ويسلك طريق العقل للبحث عن الحقيقة بمنطق الأشياء ذاتها وليس بمنطق الخطاب الذي تتلون فيه الأصوات وفق ما تقتضيه الحاجة .
هذه الرواية وغيرها مثلت عذابات الأديب نفسه فهو من طرح العديد من الأسئلة الكونية وأفني وقتاً في البحث عن إجابات لما يشغله ، ففي رواية السمان والخريف وقف البطل أيضاً في ذات الحيرة وإن بدا الأمر مختلفاً بعض الشيء ، حيث الأسئلة المحيرة كانت سياسية بالدرجة الأولي ، ولكن هذا لا ينفي التشابه فلا فرق عند من لا يجد الإجابة ففي الحالتين الأزمة قائمة .
الصراع الذي تبلور بوضوح عند نجيب محفوظ في روايته الشهيرة " أولاد حارتنا " ظل موجوداً حتى آخر أعماله " أصداء السيرة الذاتية " فلم يكن قد استراح بعد من عناء الأسئلة المعضلة ، وربما هذا التشكك في هوية من يتصورون أنهم علي حق وإصراره علي تجريد المعني الديني هو ما أدي به إلي الوقوع في فخ التكفير وتعرضه للاغتيال علي يد طبال أمي لم يقرأ حرفاً واحداً مما كتب!
هذا المنحنى كان الأخطر علي الإطلاق في حياة الرجل إذ تم ضرب الحائط بكل الأفكار والصياغات والفلسفات وبقى المفهوم الوحيد الراسخ في الأذهان لدي أرباب الجهل أنه كافر يحل دمه ، ومن دلائل اليقين عند صاحب البصيرة الأدبية أنه لم يكترث بما حدث ولم ينقطع عن الكتابة برغم العاهة التي سببتها له الضربة الغادرة .. فقط انخفض منسوب الإبداع إلي الحد الأدنى مع استمرار الكاتب الكبير في رصد ظاهرة العنف وربطها بالمعتقد الديني فكثير من جلساته الأدبية الخاصة دارت حول العلاقة القسرية بين المكونين الثقافيين المتضادين .
ولو أن محفوظ وهو الذي استشرف الواقع السياسي مبكراً قد عاش هذه الأيام لكان كتب جزءاً ثانياً من رواية ثرثرة فوق النيل عن حالة التوهان والتخبط الذي تعانيه البلاد جراء غياب الرؤية وأضاف إلي الفلاحة القتيلة وهي الرمز المشير إلي مصر عشرات الفلاحات القتيلات مع التغيير في ملامح القتلة وانتماءاتهم الفكرية والسياسية .
وليس مستبعداً كذلك أن يكتب جزءاً آخر لرواية " أولاد حارتنا " يدلل به علي ما قادنا إليه الجهل بالدين والسياسة والثقافة فذاك أبلغ في التعبير عن الحال الراهن الذي غابت عنه كل المفردات وبقي التعصب مفرداً واحداً يحدد عنوانه الحوار الدائر بين الأطراف المتنافرة ويؤكد أنه حوار طرشان لا يُفضي لشيء ولا يُفهم منه شيئاً برغم الصراخ والعويل والصوت العالي .
أمام غلبة السياسة والدوائر المنغلقة عليها تراجعت أدوات الإقناع الأخرى ولم يعد في الإمكان غير اجترار ما هو كائن في الكتب والروايات والأعمال الفنية نسوقه كأمثلة وأدلة علي أن ما يحدث لم يكن غائباً عن وعي أصحاب الرؤية الإبداعية وعلي رأسهم نجيب محفوظ احد الذين دفعوا ضريبة استقلال العقل .
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أو القائمين عليه