المشهد السياسي الراهن يضع مثقفى وفقهاء تيارات "الدين السياسي" أمام معضلة مركزية؛ لها بعد ديني وأخلاقي وسياسي. تعود الجذور المعاصرة لتيارات "الدين السياسي" لمرحلة تفكك الدولة العثمانية التى ارتبطت بالخلافة وفكرة "الدين السياسي" فى الإسلام، حيث ظهرت تيارات تنادى بعودة ربط الحكم بشعار الدين وتعضيد الأحكام السياسية بالسند الفقهي (وذلك أبسط تعريفات مصطلح: الدين السياسي)، فى مقابل أن ظهرت تيارات سياسية فى البلدان العربية والإسلامية تطرح أفكارا سياسية مجردة تأثرت بمدارس أوربية. هنا ظهر الصراع التاريخى بين دعاة "الدين السياسي" وبين التيارات السياسية المعاصرة. ولكن إذا عدنا بالتاريخ للوراء لوجدنا أن أقرب تماثل نظرى بين تيارات "الدين السياسي" فى تاريخ الإسلام، كان الفرق الدينية القديمة ومدارسها خاصة التى حاولت الوصول للسلطة منها، والتى ربطت بين: فكرة امتلاك التفسير والطرح الديني الصحيح –من وجهة نظرها- ، وبين: قوامة أهل هذه الفرقة على جميع المسلمين وضرورة امتلاكها السلطة السياسية عليهم. فالحقيقة أن مصطلح "الإسلام السياسي" أو "الإسلاميون" هو مفهوم غير شرعي ومبتدع، هو مصطلح دنيوي لا علاقة له بالإسلام وشريعته! هو مصطلح يخص فرق دينية تنفصل عن جماعة المسلمين (ويكون لهذا الانفصال تأويلات كثيرة تبدأ من التأثيم وتنتهي بالتكفير)، تقدم تفسيرا وتأويلا دينيا لرغبتها الدنيوية فى حكم المسلمين والتسلط عليهم (باسم الله وتنفيذ إرادته وأحكامه بأيديهم هم فقط).
والمعضلة التى تقابل علماء وفقهاء "الدين السياسي" ومثقفيهم( والثقافة هنا تعريفها يربط العلم والمعرفة بالتجربة والخبرة الواقعية)، هى كيفية تبرير موقفهم وسكوتهم عن بعض المواقف السياسية! تكون المعضلة قول الحق مباشرة أم تأويله! هل يتم التعامل مع الأشياء بالنية التى ورائها! هل يَجُبُ رفع الشعار الديني الأخطاء التى تحدث باسمه! النية مفترض أنها للخالق عز وجل، والوحي انقطع بموت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فكيف يتم تأويل الأخطاء السياسية بأنها فى سبيل خير أكبر وكلى للدين! يقتضى الحق الذى أمرنا به الله سبحانه وتعالى، أن نشير للخطأ باسمه وللصواب باسمه، أما تأويل الموقف السياسي الخاطئ وتصويبه استنادا للنية؛ فهو تأويل يضع صاحبه أمام معضلة مركزية، لا يمكن تبرير مساندة الباطل بأنه سيحمل الخير والحق فى المستقبل! (ولا يجوز القول بأن "الحرب خدعة" فالتنافس بين المسلمين وأحزابهم، لا ينطبق على قتال المعتدى أو الجهاد بغرض التمكين من دعوة الناس). الغيب وارتباط الفعل الدنيوي بالمطلق الديني الصحيح، كان فى عهد الوحي و ووجود الرسول (ص) الذى مثل إرادة الله مالك الملك فى الدنيا، أما بعده فليس من فعل دنيوي -من قبل فرقة دينية ما- يدعى ارتباطه بالمشيئة الإلهية خلافا لباقي المسلمين.
وإذا جنبنا البعد التاريخى للمشهد السياسي وتحدثنا عن أثره الواقعي، لقلنا أن مشروع ل"الدين السياسي" يربط الوجود الإنساني والدنيوي للمسلمين بالفقه، يريد أن يقدم تفسيرا وحكما فقهيا لكل أفعال وحياة المسلمين العامة، ولا يريد الاكتفاء بالأسس العامة والقيم والأخلاق التى وردت فى كتاب الله الكريم وسنة نبيه (ص)، وهو ما أنتج تاريخيا "فقهاء السلطان": الذين كانوا ينطقون عن الهوى وفق ما يريده الحاكم! وهو أصل المعضلة الحالية! أن يطلب من الفقيه أو العالم الدفاع عن موقف سياسي هو يراه خاطئ؛ بسبب الزعم بأن الفرقة الدينية صاحبة هذا الموقف لديها "نية" لنصرة شعار الدين بين المسلمين! أو حجة التطبيق الكامل لشريعة الله التى لا يعارضها أبدا واحد من المسلمين (وإن اختزلوها فى فكرة السلطة أو سلطة تطبيق الحدود والدعوة، فى مفهوم خاطئ وتشويهي لشريعة الله الكاملة، يتمحور حول السلطة السياسية).
المعضلة لها شقان، الأول: أن السياسية تقوم على الفردية لا الجماعية، بمعنى أن فرقة واحدة هى التى ستصل للحكم دوما، وهذه الفرقة أو الحزب لابد وستكون فى صراع وتنافس مع غيرها، فالأصل فى السياسية هو الصراع والتنافس والاحتراب. أما الدين فهو يقوم على الجماعية والقواعد العامة التى تحكم الناس فى معاملاتهم وفق شريعة الله العادلة. الشق الثاني: الانتصار لفكرة "الدين السياسي" فى الإسلام: أعتقد أنها فى حاجة لمراجعة، لماذا لا نقدم نموذجا حضاريا جديدا يكون القاطرة للمستقبل، التنافس بين الأمم يكون بما تصنعه من حضارة وما تقدمه من جديد، التمترس التاريخى حول لحظة تفكك دولة "الدين السياسي" المرتبطة بالدولة العثمانية، سوف يجعلنا نتخلى عن لحظة مهمة فى تاريخ الدول العربية التى هى قلب المشروع الإسلامي؛ ألا وهى اللحظة الثورية الحالية.
إما أن نتحرك للمستقبل بنخبة ثورية جديدة تتعامل بمفهوم "الإسلام الشامل" لا "الإسلام السياسي"؛ تتعامل مع الدين بقواعده ومبادئه الأخلاقية القويمة والفضلى، التى تكون أساسا لتقديم الاجتهاد والمفكرين والمبدعين وأصحاب الحلول للمشاكل الواقعية. أو سنتعامل مع الدين بمفهوم التوظيف السياسي الذى يخدم فرقة تتسلط على باقي المسلمين، وتنتقى ممن يدعى العلم بالفقه من يرضى بكونه مؤلا لها، وظيفته (الدينية) تقتصر على تأويل وإعادة تفسير الوقائع والمواقف السياسية وفق الهوى الذى ترتضيه فرقته الدينية.
سنضع البلاد فى آتون التأويل والتأويل المضاد؛ وسنهمش أهل المعرفة والصدق وقول الحق، وسيتقاتل الناس البسطاء باسم الدين، وسترفع المصاحف مجددا على أسنة الرماح. لم أشترك فى أيا من فرق الدين السياسي وصادقت طوال حياتي الكثيرين منهم وعرفتهم جيدا؛ منهم من يرى الحق وتعجزه مسيرته وارتباطه التاريخى عن الجهر به. لعل الأصوب أن تكون هناك ثورة داخلية فى هذه الفرق، تعلى من شأن مفهوم "الإسلام الشامل" والاجتهاد والفكر والأخلاق الكريمة، والتوقف عن المزايدة على المسلمين وأحزابهم (التى قد لا تكون مثالية وقويمة بدورها) باسم الدين فى التنافس السياسي؛ أن تخرج نخبة تجد مساحة مشتركة مع أحزاب المسلمين السياسية، تتمركز حول استكمال الثورة وبناء مشروع حضاري أخلاقي وقيمي جديد؛ لا أن يظل تمركز فرق الدين السياسي حول الصراع التاريخى القديم؛ وتقتل الثورة وتضيع لحظتها التاريخية؛ من أجل انتصار سياسي مفرغ من مضمون وقيم الدين الحقيقية، التى أعلى مراتبها جهادا قول الحق عند سلطان جائر! فمن سيقول الحق جهادا، ومن سيصمت عنه ويأول الحق وفق الهوى، وما يظن أنه نية فى سبيل الأفضل.
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أو القائمين عليه