هذه حلقة من المقالات المتصلة المنفصلة، يمكنك قراءتها معا، ويمكنك قراءة أي منها بمعزل عن المقالات الأخرى
واليوم نتحدث عن "هل الشريعة هي كلام الله؟".
"يا أخي مش أنا اللي باقول، ده ربنا هو اللي بيقول"
تلك هي الجملة المفضلة لدى الإسلاميين بكافة أطيافهم، والتي تحاصر من يناقشهم في زاوية ضيقة، فهو لا يتحدث كإنسان له فهم خاص، وإنما بلسان الله، وذلك لأنه يستخدم الآيات القرآنية في تمرير أفكاره الخاصة.
هذه الجملة السحرية تضعك في موقف المدافع، وربما تتقهقر لحراسة المرمى، لأن أي تعليق منك، ستتبعه قائمة اتهامات شنيعة: هل تريد أن تقول إن القرآن محرف؟ هل تريد أن تقول إن القرآن ناقص؟ هل تريد أن تقول إن القرآن متناقض؟ ...... إلخ إلخ. وهكذا، يلغى نفسه تماما من الحوار، لتصبح المواجهة بينك وبين القرآن، فأي اعتراض عليه هو، يحمل اعتراضا على كلام الله.
لا يا سيدي، لن نستسلم لهذا الإرهاب الفكري، والابتزاز السياسي، فأنت لست القرآن، ومن حق كل إنسان، بل من واجبه، أن يقرأ ما يشاء كما يشاء، وفي النهاية نتناقش كبشر لبشر حول ما يمس مستقبلنا جميعا.
والسؤال هو: هل ما يسمونه "الشريعة" هو كلام الله فعلا؟
ولنبدأ من البحث عن إجابة للسؤال: أين هو كلام الله؟
كلام الله موجود في القرآن، هكذا يجب على المسلم أن يؤمن، وعليه فإن من يريد "الشريعة"، عليه أن يتحرى الأحكام المذكورة في القرآن، وهو ما يطرح السؤال: هل القرآن به كافة الأحكام التي يحتاجها الإنسان في حياته، ويمكن تحويلها إلى مواد قانونية تتسم بالعمومية والتجريد والتحديد القاطع بشكل لا يختلف عليه اثنان؟
إذا قلت للإسلاميين: الإجابة لا، والقرآن بحاجة إلى تأويل وتفسير وتفصيل، فأنت كافر تتهم القرآن بالنقصان، والعياذ بالله، وسيخرج لك آية: "وما فرطنا في الكتاب من شيء".
وإذا قلت للإسلاميين: الإجابة نعم، القرآن به كل شيء، وسنؤسس تشريعا مبنيا على القرآن فقط، أجابك بأن القرآن بحاجة إلى تأويل وتفسير وتفصيل، وكل هذا موجود في "السنة"، وسيخرج لك آية: "وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا".
ويتساءل الإنسان: إذا كانت السنة بهذه الأهمية، فلماذا كان الأمر بعدم تسجيلها منذ البداية؟ ولماذا لم يخطر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أن يجمعوها ويصنفوها؟ ولماذا انتظر المسلمون حتى القرن الثالث حتى يبدؤوا في جمعها وتصنيفها؟
لكننا سنترك جانبا هذه الملاحظات، ونحاول أن نقرأ عقل الإسلاميين، ونفهم من كلامهم أن "كلام الله" مفهوم عام ينطبق على القرآن الذي أحالنا إلى السنة، فانضمت بدورها إليه، أي أن كلام الله = القرآن + السنة.
حسنا، أين السنة إذًا؟
هناك ظن عام بأن السنة موجودة في كتب الأحاديث، وأنها من الوضوح والتحديد بحيث تكفي للاعتماد عليها في التشريع، لكن من يقرأ علوم الحديث، سيكتشف أن السنة ليست محددة كالقرآن، فالأحاديث متفاوتة في صحتها، والصحيح منها متفاوت في قوته، والقوي منها يحتاج تنظيما وتأويلا وتفسيرا وتفصيلا. فمن ينظم ومن يؤول ويفسر ويفصل؟
علماء الأمة، ورثة الأنبياء، ذوو اللحوم المسمومة، من غيرهم يقول إن هذا الحديث ظني الثبوت أو قطعي الثبوت، ظني الدلالة أو قطعي الدلالة، صحيح أم حسن أم ضعيف، آحاد أم متواتر؟ متواتر لفظا أو معنى؟ ومن غيرهم الذين يحددون هل نشرع بالآحاد أم بالمتواتر؟ و..... إلخ إلخ.
انتبه عزيزي فمفهوم "كلام الله" يتسع ليصبح (القرآن + السنة بحسب تنظيم العلماء لهما).
لاتشغل بالك بأن هناك شيعة، لهم روايتهم الخاصة للتاريخ وللسنة، فهم كما تعلم رافضة كفار يريدون هدم الإسلام، ولا تقلق من وجود القرآنيين الذين يطالبون بالاعتماد على القرآن وحده، ولهم اجتهادات ترى أن السنة غير ملزمة، فهم منكرون للسنة أحفاد المعتزلة الأشرار. ولا تأبه لوجود "علماء" مثل طه حسين ونصر أبو زيد وجمال البنا ومصطفى عبد الرازق وأحمد مستجير وإسلام البحيري، وغيرهم كثيرون فهؤلاء علمانيون ملحدون متخفون.
إذا، فإن مفهوم "كلام الله" أصبح يعني "القرآن والسنة بحسب تنظيم علماء يسيرون على نهج أهل السنة والجماعة حتى القرن الثالث الهجري".
لا أعرف إن كان هذا التعريف مناسبا لك، لكنني أتأمل هذا الموقف لأجد أن هذا الفهم لا ينتج إلا الدم عبر العصور. فكلما أطلت في التعريف، كلما زاد المعرف دقة، وما أضر بني إسرائيل بحسب القصة القرآنية إلا أنهم طالبوا بمزيد من التعريف للبقرة.
ما حدث عبر التاريخ الإسلامي الطويل، هو حلقات واسعة من الدم والقمع والتنكيل والاقتتال، لأن هذا النمط من التفكير يفترض أن هناك رأيا واحدا صحيحا، وبقية الآراء الأخرى ليست فقط خاطئة مخطئة، وإنما هي كذلك ضالة مضلة تريد أن تحارب الإسلام وتقضي عليه.
اقتتل المسلمون عبر تاريخهم على كل الأمور، حتى وصل بهم الأمر على الاقتتال حول إذا ما كان القرآن مخلوقا أم أزليا! واليوم تقسم هذه الرؤية مصر فتجعل الإخوان والسلفيين صفا واحدا في مواجهة العلمانيين، وإذا حدث لا قدر الله وانتصر الإسلاميون سيتفرقون، وسيقتتلون حول مدى طول اللحية وقصر الجلباب، ومساحة النقاب.
ستجد الأمور التي تشغل بال الشعب هي: أين نضع يدنا في الصلاة؟ هل القهوة والشاي حلال أم حرام؟ ما حكم أكل لحم الجن؟ هل الإنسان مسير أم مخير؟ وذلك لأننا هذا المبدأ الذي يجعل أي عابر سبيل بإمكانه إطلاق لحيته وتقصير ثوبه، وإطلاق أي كلام ثم يقول لك بكل ثقة: يا أخي، مش أنا اللي باقول، ده ربنا هو اللي بيقول.