الإسلاميون الذين انخرطوا في العمل السياسي، عبر المؤسسات الدستورية القائمة، هم الإخوان المسلمون، والأحزاب المنبثقة عنهم، وكذلك بعض اتجاهات السلفيين، وحزب النور المنبثق عن سلفية الإسكندرية، وبقية الأحزاب السلفية الأخرى في مصر التي تشكلت بعد ثورة 25 يناير، فتجربة تلك الأحزاب والجماعات وعلى وجه الخصوص جماعة الإخوان المسلمين وما تولد عنها هي موضع النظر والتحليل والمتابعة في هذا المقال، إذ تقوم رؤيتهم على المشاركة في العمل السياسي، وفق ما تتيحه قواعد اللعبة الديمقراطية التي قبلوا بها وبشروطها وآلياتها.
يكاد أن يكون دور الحركات الإسلامية السياسية القابلة بالخيار الديمقراطي ، في البلاد العربية التي تبنت النظام الديمقراطي، خلال العقود السابقة متمثلا بدور المعارضة السياسية، التي كانت تمارس نقد السياسات الحكومية ومعارضتها في غالب الأحيان، وهو العمل الذي ألفته واعتادت عليه، وواظبت على ممارسته خلال السنوات الفائتة، إلا أن مرحلة ما بعد الثورات العربية قلبت المعادلة رأسا على عقب، بعد الإطاحة برؤوس الأنظمة السابقة، لتدفع بأحزاب وشخصيات إسلامية إلى ولوج عالم السلطة، والتربع على كراسي الحكم، كما في مصر وتونس والمغرب، ما يعني أن تلك الأحزاب والجماعات انتقلت من مواقع المعارضة، إلى موقع تولي زمام السلطة، بعد انتخابات شعبية حرة ونزيهة، لم تشهد المنطقة لها مثيلا من قبل.
يحسن بين يدي محاولة استكشاف آفاق الإجابة على سؤال عنوان المقال، تحديد المرتكزات والأسس الفكرية التي شكلت البناء الفكري لتلك الجماعات والأحزاب، حيث أن رؤيتها تقوم (جماعة الإخوان وما تولد عنها) في مجال فهمها للإسلام، على تبني منهج الوسطية، والذي يعتبر الدكتور يوسف القرضاوي من أكبر منظريه الداعين إليه، يقول في بيانه لمفهوم الوسطية: "ونعني بها التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين، بحث لا ينفرد أحدهما بالتأثير، ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه، ويطغى على مقابله ويحيف عليه..".
ويستطرد في بيان ذلك من خلال التمثيل فيقول : "مثال الأطراف المتقابلة أو المتضادة: الربانية والإنسانية، الروحية والمادية، الأخروية والدنيوية، الوحي والعقل، الماضوية والمستقبلية، الفردية والجماعية، الواقعية والمثالية، الثبات والتغير وما شابهها. ومعنى التوازن بينها: أن يُفسح لكل طرف منها مجاله، ويُعطى حقه (بالقسط) أو (بالقسطاس المستقيم)، بلا وكس ولا شطط، ولا غلو ولا تقصير، ولا طغيان ولا إخسار، كما أشار إلى ذلك كتاب الله بقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ* أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ* وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ*}[الرحمن:7-9]، فالوسطية هي التي تقيم الوزن بالقسط، بلا طغيان ولا إخسار
كما أن جماعة الإخوان المسلمين والأحزاب المنبثقة عنها، ارتضت بالديمقراطية وقبلت بها، ففي دراسته الموسومة ب "الوسطية السياسية في فكر القرضاوي" لمؤسس حزب النهضة التونسي راشد الغنوشي، يشير إلى أن الدكتور القرضاوي يؤكد "أن جوهر الديمقراطية يتفق مع صميم الإسلام"، وينقل عن القرضاوي في معرض مناقشته لأسباب قبوله بالديمقراطية قوله :"هل الديمقراطية التي تنادي بها شعوب العالم والتي تكافح من أجلها جماهير غفيرة في الشرق والغرب والتي وصلت إليها بعض الشعوب بعد صراعات مريرة مع الطغاة أريقت فيها دماء وسقطت فيه ضحايا بالألوف بل بالملايين كما في أوروبا الشرقية وغيرها والتي يرى فيها كثير من الإسلاميين الوسيلة المقبولة لكبح جماح الحكم الفردي، وتقليم أظافر التسلط السياسي الذي ابتليت به شعوبنا العربية والمسلمة، هل هذه الديمقراطية منكر أو كفر كما يردد بعض السطحيين المتعجلين
نجد في داخل المعسكر الاسلامي تيارين أو طريقتين في منهج التفكير فيما يتعلق بالطرف الآخر. فهناك طريقة في التفكير عند بعض الاسلاميين الذين يستدلون على متبناهم بنصوص من القرآن والسنة بطريقة تجزيئية، أو من خلال فهم تجزيئي للسيرة والتاريخ الاسلامي في التعامل مع الآخرين على اساس الغاء كل ما هو غير مسلم أو غير اسلامي من الساحة عند توفر امكانات الالغاء، باعتبار انهم يفكرون ان الآخرين لايمثلون حالة شرعية يسمح بتواجدها الإسلام، ولعل هذا الفهم يأتي من خلال الخلط بين الاعتراف بالآخرين كواقع والاعتراف بشرعية ما يمثلونه من فكر ومرتكزات حضارية، ومن خلال عدم التمييز ما بين صلابة المبادىء من حيث ما تمليه العقيدة، ومرونة الاساليب من حيث ما تمليه الحكمة، التي هي ضالة المؤمن، والتي تمثل مرتكزاً اساسياً في ساحة الممارسة والتطبيق والدعوة في الإسلام كما ان اصحاب هذا الفهم قد لا يخلو البعض منهم من ان يقع في الخلط ما بين حرمة «القاء المودة» ومصلحة التعايش على اساس «القسط والبر» و«الجنوح إلى السلم» والالتزام بالعهود والعقود. كما نجد بدرجة لا تقل تطرفاً وابتعاداً عن العقلانية بل قد تزيد مثل هذا المنهج الالغائي في اوساط المعسكر الغربي. فهناك من لا يفكر الا بطريقة الالغاء وما يترتب عليها من خطط القمع والابادة، وهو في ذلك ما زال لم يتحرر بعد من التفكير بعقلية الحروب الصليبية وعقلية عقود الاستعمار والاحتلال، ولا يحاول ان يفتح عينيه امام واقع، وواقع كبير ومؤثر ومتنام في العالم، وهو واقع الحالة الإسلامية واضطرادها في النمو. حتى وصل الامر بهؤلاء إلى سحق متبنياتهم كالديمقراطية وحق تقرير المصير للشعوب ومبادىء حقوق الإنسان عندما تكون هذه المتبنيات والمرتكزات الاساسية في حالة يمكن ان يستفيد منها الخصم المتمثل بالاسلام، وتجربة الجزائر دليل شاخص على مسرح احداث العقد الاخير. وكما نجد حالتي التصلب الآنفتين، نجد كذلك في كلا المعسكرين من ينظر إلى المشكلة بعين الاعتراف بالامر الواقع، الذي لا يجب ان يفهم منه بالضرورة ضعفاً أو تنازلاً عن الثوابت من قيم ومبادىء ومصالح اساسية قد لا يمكن لها ان تلتقي في كل الاحوال على ارضية واحدة مع القيم والمبادىء والمصالح الاساسية للطرف الآخر، وانما يعبر هذا المنهج من التفكير عن حكمة ووعي واقعية وعقلانية ونظرة موضوعية، لا تتعارض بالضرورة مع المبادىء.
واصحاب هذا المنهج العقلاني في كلا المعسكرين ينطلقون من حقيقة ان الطرف الآخر حتى وان لم يحملوا تجاهه اياً من مشاعر الود يمثل واقعاً كبيراً في العالم ومؤثراً في واقعهم هم، مما يتطلب البحث عن مساحة مشتركة وقاعدة للمصالحة وتجميداً للصراع أو لنقل عن «الكلمة السواء» فيما بينهما. وهنا تطرح الديمقراطة كعقد للمصالحة أو قاعدة للتعايش يمكن ان يتوافق عليه الطرفان. فلماذا يا ترى «الديمقراطية» بالذات؟ لماذا يجب ان يكون اللقاء على اساس غربي وليس على اساس اسلامي أو اساس مشترك؟.
إذا كان اعتقاد البعض منا بوجود اشكال شرعي على الديمقراطية، كنظام للحكم، لما يستنبطه هذا النظام من مفهوم يكون الحكم فيه للشعب، بدل ان يكون لله سبحانه وتعالى، كما تنص الشريعة الإسلامية، فيجاب على ذلك ان تكليف الاسلاميين يكون في دعوة الاُمّة إلى الإسلام وتوعيتها لتختار الاسلاميين ليطبقوا برنامجهم الاسلامي في الحكم، فاذا ما اختار الشعب غيرهم، فلا تخلو القضية من احد ثلاثة امور، اما فشل الاسلاميين في مهمتهم، فعليهم اعادة النظر في الاساليب وفي مواطن الخطأ فيها، أو ان الاُمّة لم تمنحهم الثقة، لانهم فعلاً غير مؤهلين لقيادتها، فيكون ذلك قراراً واعياً من قبل الاُمّة، التي لا يعني رفضها لهم بالضرورة رفضاً للاسلام، أو تكون الاُمّة أو الغالبية منها لم تستجب لدعوة الحق جهلاً أو مكابرة، فيكون الاسلاميون قد ادوا تكليفهم الشرعي، بينما تتحمل غالبية المنتخبين من الاُمّة وزر الخيار اللااسلامي الذي لا يتحمل مسؤوليته الاسلاميون، كما ان الانبياء لم يحمّلهم الله وزر الامم التي لم تستجب لداعية الحق. هذا اضافة إلى المفسدة الكبيرة في حالة اكراه الاُمّة على الخيار الاسلامي، لما يمكن ان يسبب ذلك إلى استعداء الاُمّة ضد الإسلام بدل سلوك منهج النفس الطويل في دعوة الاُمّة وتغييرها، بعد اعادة النظر في التجربة. وعلى اقل تقدير فان الديمقراطية يمكن ان تصبح بالعنوان الثاني جائزة أو لعلها واجبة، لما فيها من جلب منافع جمة للدعوة الإسلامية وما فيها من درء لمفاسد جمة عنها، وهذا امر متروك بحثه من غير شك لاهل الخبرة والاختصاص من الفقهاء المجتهدين الواعين والمنفتحين بوعيهم واهتمامهم على قضايا الاُمّة ومن المفكرين الاسلاميين المتفقهين المقتدرين لاسيما المتصدين منهم للعمل في الحقل السياسي.