نحن في حاجة ماسة لأن نتفاهم, لا طلبا للاتفاق, فالاتفاق ليس مطلوبا دائما. ولكن ليعرف كل منا مكانه من الآخر, ويعرف مكان الآخر منه ضمن منظومة العمل المشترك الذي ينمو ويتقدم بالاتفاق, كما ينمو ويتقدم بالاختلاف. الاتفاق يبلور الأفكار, ويكتل القوي ويدفعها إلي الأمام, والاختلاف ينوع الرؤي, ويوضح الفروق ويشجع علي مراجعة المسلمات وامتحان المواقف وتصحيح المسارات. ومن منطلق الحاجة الي الفهم والتفاهم أبدأ حوارا من بعيد مع الأستاذ الفاضل يوسف القرضاوي الذي قرأت له في صحيفة المصري اليوم حديثا طويلا مفصلا يتناول فيه جملة من الأفكار والمبادئ والمسائل التي تشغلنا في أيامنا هذه التي خرجنا فيها من نظام بوليسي فاسد متخلف ثرنا عليه ونجحنا في إسقاطه لنجد أنفسنا في مفترق طرق تتجاذبنا بما ترفع من شعارات يجب أن نقف أمامها ونتبين مقاصدها قبل أن نقول نعم, وقبل أن نقول لا. وإلا فالتعجل مغامرة واندفاع في المجهول ومقامرة بالمستقبل الذي نريد أن يكون نهضة جديدة ن اضجة, وعصرا مضيئا خصبا نغتسل فيه من أدران الماضي البغيض, ونبرأ مما عانيناه من القهر والذل والجوع والخوف والجهل قرونا بعد قرون. ومن الواضح أن البحث عن هذا الزمن المنشود مسألة تشغل الشيخ القرضاوي كما تشغلنا, وتثير حماسته وتغريه بالمشاركة, لا كعالم من علماء الدين فحسب, بل أيضا كمناضل سياسي قادر علي الحركة والتأثير والتحريض, فهو يتابع ما يحدث في مصر وتونس, وفي ليبيا واليمن, وسوريا والبحرين, ويحرص علي ان يكون له مكان فيه أو في مقدمته, وهذا ما نستطيع أن نفهمه من إمامته للمتظاهرين المصريين في ميدان التحرير في صلاة الجمعة التي تلت رحيل الرئيس المخلوع وهذا ما نفهمه أيضا من فتواه التي أذاعها في قناة الجزيرة وأحل فيها لأي ليبي أن يقتل القذافي, ولا شك في أن القذافي طاغية قاتل, لكن القصاص منه علي هذا النحو اغتيال لا يقره قانون أو دين. كأن الشيخ القرضاوي قد أراد بهذه الإمامة الدينية أن يجعلها رمزا أو ايحاء بالإمامة السياسية التي يقترحها علي مصر, وعلي غيرها من البلاد العربية في المرحلة القادمة. والشيخ القرضاوي لا يكتفي بأن يرمز أو يلمح, بل هو ينتقل من التلميح الي التصريح فيقول لمندوب الصحيفة التي أجرت معه الحديث أنا تبنيت كل الثورات التي قامت في الوطن العربي وما يستجد بعدها, واعتبرت نفسي مسئولا عنها! وهذا كلام صريح واضح كما نري, لكن المقصود به غير واضح, كيف تبني الشيخ القرضاوي الثورة؟ وإلي أي طريق يريد أن يأخذنا؟ إننا نقرأ حديثه فنجد بعدا عن التشدد والتطرف, ونجد ايثارا للوسطية وحسن ظن بالناس, وتسليما بحقهم في الاختيار, وانحيازا للنظام الديمقراطي والدولة المدنية, ورفضا للدولة الدينية وإنكارا لوجودها في الإسلام, ونجد ترحيبا بالتعدد والاختلاف في السياسة والدين, واستنكارا للتمييز الطائفي, ففي الحديث إذن مساحة كافية لأن نقف عليها لندير حوارا مع الاستاذ نكشف فيه الطرق ونمتحن الأفكار ونحدد المواقف. ولنبدأ بحديثه عن الوسطية التي يشير إليها كثيرا في حواره, فيقول: لقد تبينت أو تبنيت من قديم ما عرف باسم منهج الوسطية. وهو منهج له أسسه وأهدافه ومعالمه وضوابطه.. وهو يمثل المنهج الوسط للأمة الوسط, وسط بين الغلو والتقصير, أو بين الإفراط والتفريط, ويقوم علي التوازن والتكامل بين نور العقل الانساني ودور الوحي الرباني وهو يعود فيتحدث عن الوسطية مرة أخري فيميزها عن غيرها, ويجعلها نوعا من الالهام أو الوحي, ويكسبها قداسة ترتفع بها فوق التفكير البشري, يقول: ان منهج الوسطية هو المنهج الذي يعبر بحق عن الإسلام المتوازن الذي يمثل الصراط المستقيم, فلا يميل يمينا ولا شمالا كما تميل مفاهيم الناس وفلسفات البشر, فهذا مادي يغفل الروحانية, وآخر روحاني يغفل المادة, وهذا فردي لا يهتم بالمجتمع وحقوقه, واخر جماعي لا يعني بالفرد وفطرته ودوافعه, وثالث ينظر الي السماء ولا يفكر في الأرض أو العكس., إلي آخر هذه المتقابلات. والحقيقة ان معظم ما ذكره الشيخ القرضاوي عن الوسطية معروف متداول, كما أن الانتساب للوسطية شائع عندنا, خاصة في أوساط علماء الأزهر, ونحن نعرف أو معظمنا قوله تعالي في سورة البقرة: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس. وكثيرا ما نقول ونحن نتحدث في أمورنا العادية خير الأمور الوسط. وشاعر النيل حافظ ابراهيم يدعونا في قصيدته عن تربية النساء للتوسط بين حجب المرأة واطلاق العنان لها فيقول: فتوسطوا في الحالتين وانصفوا فالشر في التقييد والإطلاق! غير اننا لسنا أول من تحدث في الوسطية التي تحدث عنها اليونانيون قبلنا بنحو ألف عام, وذلك فيما قاله أرسطو عن الفضيلة التي وجدها في الاعتدال والبعد عن الإفراط والتفريط, أو في الموقف الوسط بين موقفين كلاهما شطط أو رذيلة, فالشجاعة فضيلة, لأنها وسط بين رذيلتين هما الجبن والتهور, والحزم فضيلة لأنه وسط بين القسوة واطلاق الحبل علي الغارب. بل نحن نري أن الوسطية أقدم بكثير من المعلم الأول, فهي فكرة مصرية تمثلها ماعت إلهة الحق والتوازن والاستقامة والاعتدال عند أجدادنا القدماء, وهي ترمز لما تمثله بريشة متساوية الأهداب علي الجانبين تضعها علي رأسها. معني هذا أن الوسطية لا تخص المسلمين أو الأزهريين وحدهم, وإنما هي فكرة انسانية عرفتها كل الثقافات وطبقتها في نشاطها الفكري والاخلاقي والسياسي, ونحن نعرف أن الأحزاب في العالم كله توزع وتصنف يمينا ويسارا, ووسطا, لكننا تعودنا أن نعزل أنفسنا عن العالم ونزعم لأنفسنا السبق في كل شيء حتي نتهرب من المقارنة ومن الاعتراف بأننا تخلفنا. وبأننا لن نتقدم إلا إذا تحررنا من أغلال الماضي التي تقيد حركتنا, واتصلنا بمن سبقونا, وانتفعنا بما ثبت نفعه من خبراتهم وتجاربهم. ونحن نري بعد ذلك أن في تعريف الشيخ القرضاوي للوسطية معنيين مختلفين: الأول ان الوسطية موقف متوسط بين طرفين يجب أن نبتعد عن كليهما علي النحو الذي صوره أرسطو في كلامه عن الفضيلة, والمعني الآخر انها جمع بين طرفين لا يغني أحدهما عن الاخر كما نري في العقل الذي لا يغني عن الوحي والوحي الذي نحتاج معه للتفكير والاجتهاد علي نحو ما فعل الفيثاغوريون والغنوصيون وفلاسفة العصور الوسطي الذين حاولوا التوفيق بين الفلسفة والدين, كما نري بوضوح في مؤلفات ابن رشد فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال والكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة. غير أن الوسطية التي يحبذها الشيخ القرضاوي ونحبذها معه ليست دائما فضيلة سواء أخذناها بمعناها الأول أو بمعناها الآخر. إذا أخذنا الوسطية بمعني التوسط بين رذيلتين فنحن قد نجد أنفسنا بين موقفين ينتميان معا لرذيلة واحدة لن يخرجنا التوسط منها,بل سيفرض علينا البقاء فيها. مثلا حين نواجه طغيان الدولة البوليسية من ناحية وطغيان الدولة الدينية من ناحية أخري لا يكون التوسط بينهما فضيلة أبدا, وإنما يجب ان نتحرر منهما معا وإلا وقعنا فيما وقع فيه الإمام محمد عبده من قبل, حين نظرا وراءه في الماضي فلم يجد إلا أرتالا من الطغاة المستبدين, ثم نظر حوله في الحاضر فوجد كل شيء ينذر بمستبدين آخرين, لأن ثقافة الديمقراطية كانت غائبة في أوساط المواطنين العاديين, ولأن القوي القادرة علي الفعل تريد السلطة لنفسها, فلا مفر من الاختيار بين اثنين, مستبد ظالم ومستبد عادل. وقد اختار الأستاذ الإمام المستبد العادل الذي كان لابد ان يخلف ظنه ويخيب أمله, لأن المستبد لا يمكن ان يكون عادلا, ولأن العادل لا يمكن ان يكون مستبدا. وهذا أيضا ما فعله الماركسيون الذين رأوا أن السلطة هي في كل الأحوال سلطة دكتاتورية يمارسها من يملكون وسائل الانتاج ويخضع لها من لايملكون, وإذن فالنظام الذي يعتبره الغربيون نظاما ديمقراطيا هو في الحقيقة دكتاتورية البرجوازية التي يجب في نظر الماركسيين ان تحل محلها دكتاتورية الطبقة العاملة. والذي حدث ان الطبقة العاملة لم تحكم وإنما حكم باسمها ستالين وأمثاله من الطغاة الذين ساروا بالتجربة الاشتراكية الي ما انتهت إليه! هكذا نري أن التوسط بين الطغيان والطغيان طغيان ثالث, وهو ليس فضيلة إذن, وإنما هو رذيلة بكل تأكيد. فإذا نظرنا الي الوسطية بمعناها الآخر وهو الجمع بين طرفين نحتاج اليهما معا وجدنا ان الحاجة ربما دعتنا في بعض الأحيان الي الاكتفاء بأحد الطرفين أو تغليب أحدهما علي الآخر. هناك معارف لا نستطيع أن نحصلها إلا بالاعتماد الكامل علي النص, ومعارف أخري نعتمد فيها أكثر علي العقل أو نجمع بين الطرفين ونحن في الدين نعطي النص المقام الأول, أما في الدنيا فلابد من إعمال العقل, ولابد من الاجتهاد, ولابد من التفكير, وهكذا نري أن التوسط اذا كان فضيلة في بعض الأحيان فالتطرف ربما كان فضيلة في أحيان أخري, حين يكون الطغيان هو الواقع الذي نواجهه يكون علينا أن نذهب إلي الطرف الآخر وهو الحرية. ثم إن اختيارنا لمواقفنا بين المتقابلات المختلفة لا يتم في الفراغ الساكن, وإنما يتم في الحياة المتدفقة في الزمان الذي يتغير وتتغير معه الحاجات, وفي المكان الذي تختلف مطالب أهله عن مطالب أهل غيره, فلابد أن تختلف اجتهاداتنا, وتتراوح مواقفنا ازاء المتقابلات المختلفة, وفي هذا الضوء نحدد موقفنا من الوحي والعقل. الشيخ القرضاوي يدعو لما يسميه هو وجماعة الاخوان المسلمين دولة مدنية بمرجعية اسلامية وهذا هو الهدف من كلامه عن الوسطية وعن الجمع بين الوحي والعقل, أو عما نسميه نحن الخلط بين الدين والسياسة وسوف نواصل هذا الحوار. المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي