من المؤكد أن الحرية هي المطلب الأول للثوار, كذلك فإن إرادة الفنان الحرة هى سر إبداعه, وسر حيوية تعبيره الفني وجرأته. والفنان الحر بفرشاته أو أزميله يمنح الأشياء العادية جمالها وجاذبيتها, ويضمنها المعاني الإنسانية, فتدهش من يشاهدها. لأن المعنى الحقيقى للثورة يدركه كل فنان استطاع أن يحرر ذاته من أي قمع, ومن أى قيد يحد من قدرته على النفوذ عبر عالم الإبداع بانطلاق وعفوية. ذلك ما فهمه "عبد الهادى الجزار" (1925-1966) صاحب الإرادة الفنية الحرة, التي تشهد عليها اختياراته لموضوعات لوحاته ,عندما تعكس تناقضات الحياة الشعبية في حواري القاهرة فيضمنها أفكاره ورؤيته الشخصية , بدلاً من الوقوع في أسر هيمنة التعاليم الشائعة بين معظم الفنانين في زمنه ممن روجوا لنوع من الفن يعجب مجتمع الصالونات والنخبة الأرستقراطية, أو يمثل سلعة تذكارية يقتنيها السياح لما تتضمنه من تسجيلات لمعالم أثرية. أما "الجزار"فإنه استغرق في الأجواء الروحانية المصاحبة للحياة الشعبية, بعوالمها العجيبة والغامضة, فرسمها بتلقائية, ودمجها مع مشاعرة وعواطفه الذاتية, وخاض في عوالم خيالية ولاشعورية, فمنحها قيمة إنسانية تحدى بها الذوق التقليدي, رغبة فى أن يتوصل إلى جوهر الحقيقة المختبئة وراء المظاهر؛ لأن ممارسة الحرية بأوسع معانيها وبدون قيود تتحقق أكثر في رأيه بالغوص في عالم اللاشعور؛ لأن هناك تزاح العوائق بين التصورات المتناقضة والمتضادة في الواقع, مما يسمح للفنان بممارسة عمله الفنى دون الخضوع لرقابة من الخارج. والفنان في هذه الحالة يتناول مختلف المكونات الثقافية في المجتمع المصري بشفافية وتسامح يفتح الباب لقبول الآخر. و"الجزار" الفنان بعد أن تحرر خياله من المعتقدات البالية ومن فكرة التقليد أو الوصف كوظيفة زائفة للعمل الفني, يعيد تشكيل وجدانه وحدسه مع تعظيم دور الإرادة الإبداعية في التعبير عن معنى تكامل الإنسان المادي والروحي. وكانت لوحات "الجزار" تشبه مسرحاً يعرض مشاهد من الحياة على نحو ساخر, فينتقد مظاهر التخلف والجهل والبؤس, كاشفاً عن المعتقدات السحرية التي تقف وراء غموض حياة المجاذيب والمسحوقين والمغيبين من الطبقات الشعبية, الذين يستسلمن للخرافة والطلاسم السحرية, كنوع من الهروب من غموض الواقع المخيف والأليم. كل ذلك يفسر المعالجات اللونية والخطوطية الخشنة التى تتناسب مع التعبيرعن معنى الاستسلام وخيبة الأمل, بما يناقض ذوق المترفين, وإنما يعثر فية العامة على ما يعمق وعيهم بالحياة الحقيقية وبذاتهم. إن هذا الفنان يتعمق بفنه في قضايا الحياة والإنسانية, ولا يعنيه الموضوعات الفنية الشائعة التي ترضى السائح الذي ينبهر بصورالمناظر الشرقية التي تذكره بالحكايات الغريبة في " ألف ليلة وليلة " ومرسومة بحرفية أكاديمية, على أساس أنها تمثل نوعاً من الجمال الغامض وغيرالمالوف. وقد عرض"عبد الهادى الجزار" (1925-1966) في لوحاته صورة الحياة الحقيقة وأبعادها النفسية الغامضة بتلقائية, ودون زخرف, مهما أثارت قلقاً وإرباكاً للمشاهد؛ لأن قوة التعبير بحرية وبتلقائية ذاتية هي سر جمال هذا النمط الفني. ولم يكن " الجزار" يعنيه وهو يرسم لوحة "المجنون الأخضر"(1951) تصوير وجه لمجذوب من المنتشرين على أرصفة الشوارع وبالقرب من أبواب أضرحة أولياء الله الصالحين وفى الموالد, مثل مجاذيب ضريح "الحسين" أو "السيدة زينب " بملابسهم الممزقة منفلتين عن عالم الواقع, هائمين على وجوههم يعيشون في عالم الوهم, وإنما أراد أن يصور بخياله المبدع رمزاً ذا دلالة عن معنى الاستسلام للخرافة والشعوذة فى الواقع العبثى, الذي مصيره المعاناة من حالات التشويش النفسى. وحالة الشعب المغيب فى كسله وعزلته, مرتديا قناعاً يخفى فظاعة قبحه الداخلى المظلم ومتحولاً إلى مسخ وهويسلك سلوك المجاذيب. ويساهم رسم الفنان لرموز شعبية مثل العين والكف في تدعيم المعنى المجازى للوحة, وفي تعميق الجانب المتعلق بعالم اللاشعور من الفن, الذي يهدف إلى إدهاش المشاهد برؤيته الجمالية, وبالتلوين الثوري الذي ينتزع المعالجات من التقليد الواقعى, فيسود الأخضر الوجه والرأس التي استشرت به الخرافة, كمقاومة سلبية في مجابهة القهرالاجتماعى. إن هذه اللوحة بمثابة رؤية فنية ذات أسلوب مجازى متفرد, بل هي فكرة ذات دلالة إنسانية, مضمونها تحكم القوى الغيبية في مصائر البشر. والزهرة خلف أذن "المجنون" والخرزة الزرقاء والقرط و الكف, هى من مكونات المخزون الإشارى المترسب فى ذاكرة الثقافة الشعبية. إذ ان الزهرة الحمراء تشير إلى عاشق ولهان غير أن الرأس الحليق بلونه الأخضر يشع جنوناً. كما أن الذراعين المرفوعين بهستيرية بأكف تتوسطها عين الحسود, مثل هالة تتوج الوجه الأخضر الشاحب, مع الخرزة الزرقاء التى هى كذلك من رموز منع الحسد مع مشهد الضريح أسفل يسار اللوحة, كل ذلك يصور شخصية المجذوب كجالب للبركة ,يلجأ إليه البسطاء فى المصائب يتباركون به وكأنه ولى صالح يكشف الغيب رغم أنه يحيا شارداً مسلوب الإرادة مستسلماً لمصيره ولا يقدر على إنقاذ نفسه, لأن عقله غائب خارج الكون. لقد بدا مرتدياً قناعا ًأثناء تصارعه مع مخاوفه, ومع ما يخبئه الواقع الأليم , قناع الروح الطاهرة والفرح الطفولى بلقاء اللاشئ. إن هذه اللوحة بمثابة رمز للفن عندما يحلق بين السماء والأرض فيبقى شارداً فى عالم الوهم وفكرة ذات دلالة إنسانية, مضمونها تحكم الخرافة فى مصائر البشر, بل هى رؤية فنية ذات أسلوب مجازى متفرد, يرتقى إلى مستوى الرموز الكبرى الأبدية التى تشهد على حرية التعبير الفنى, كجزء لا يتجزأ من وجود الإنسان الحر الذى لا يزعن إلا لنداء الإبداع الفنى, المتمرد على أساليب الهيمنة والتسييس والدعائية. ان الواقع حقيقى و فى نفس الوقت رمزى .ولذلك أراد "الجزار" برسم "المجذوب" أن يسجل رمزاً ينفذ إلى عمق النفس البشرية,عندما تنتشى وهى تتحرر من ذاتها , بل تنكرها للدرجة التى تصل إلى حد التضحية بها, من أجل سعادة وهمية لا تبالى للبؤس فى الواقع وتعطل آلة الثورة على الخوف والإظلام والقهروالشعوذة, حتى حد الجنون, داخل نفس قلقة عاجزة فى مقابل سلام وهمى.وحينما عرضت لوحة "المجنون الأخضر" لأول مرة, لم تحقق نجاحات مميزة فى سوق الفن المصرى الحديث, رغم أن هذة اللوحة رسمت بطريقة فنية مدهشة و تضمنت قيمة جمالية عالية, واستطاع الفنان أن يبعث برسائل تعكس أفكاره ومشاعره الذاتية,ويعبر عن حقائق باطنة وعن مسائل إنسانية ومعانى كونية من خلال رموز و تعاويذ وتمائم سحرية, استعارها من مكونات ثقافية. وفى كل الأحوال فإن العمل الفنى الذى ارتاد ينابيع الحياة الشعبية ليستخرج منها رموزه المشحونة بالمعانى الازدواجية, لا يمكن النظر إلية على أساس أنه مجرد سلعة تخضع لتقلبات السوق, وإنما هو منتج فنى- ثقافى له دوره فى التأثير الجماهيرى غير المباشر, وفى تغييرالمعتقدات السلبية السائدة بين الناس, مثلما يعدل من المفاهيم التى تدعمها.