رحلة شاقة وانتقال مأسوي تفرضه الظروف علي أولئك الذين يهجرون بلادهم ويقطعون أميالاً بحثاً عن سراب وغاية يتحقق بعضها أو ربما لا تتحقق أبداً ، ولكنه البؤس يدفع أصحابه إلي المغامرة بعد استنفاد كل الوسائل في محاولات يائسة لتحسين الأحوال داخل محيطات عشوائية يحفها الفقر من كل جانب ولا تدب فيها الروح إلا صدفة .. الهروب وحده هو الخلاص من جحيم العوز والاحتياج والفراغ الذى يستبد بالناس فيدفعهم إلي ارتكاب الحماقات والزج بأنفسهم في أتون الغيب . خلفية إجتماعية قاسية تبدو مفسرة لما يواجهه المصريون التعساء من أصحاب الحظ العاثر في بلاد النفط والغربة بين جنسيات مختلطة تسير كالقطيع في مسارات المكابدة وتعيش تحت رحمة أصحاب المال والأعمال صاغرة دون قدرة علي الإحتجاج والرفض فهي تمثل نماذج لمجتمعات طاردة لفظت أبنائها فباتوا عبيد إحسان لمن يملكون قوتهم ويتحكمون في مصائرهم . عبد الحميد محمد سعد فكه بطل رواية " مذكرات عبده ريال" للكاتب الصحفي محمد غزلان ، شاب في مقتبل العمر تخرج لتوه في كلية التجارة وعمل موظفاً في مكتب تموين الباجور ، لا يختلف فكه كثيراً عن غيرة من أهل قرية " تلوانه " التابعة لنفس المركز فهو مشبوب بحُلم السفر الذي يراود غالبية الشباب ممن تخرجوا ووقفوا طويلاً في طابور القوة العاملة دون جدوى . شيء وحيد تميز به البطل يتمثل في طبيعته السمحة ورقته المتناهية وحبه الشديد لأمه وولائه لأبيه المتوفى بمرض البلهارسيا ، ذلك المرض العضال الذي لم يستطع محمد سعد فكه الفلاح البسيط مقاومته فراح ضحيته كغيره من مئات البشر الذين استوطنت داخل أجسامهم البلهارسيا حتى تمكنت من أكبادهم فكان الموت مصيراً محتوماً بفعل الجهل والفقر . يعتبر الإبن البار والدة نموذجاً ومثلاً أعلي له ويري في أمه فيضاً من حنان ودموع تنساب كالشلالات كلما إستعادت موقفاً أو مرت علي خاطرها ذكرى كانت تجمعها بزوجها وأبو أولادها ، لم يُخلق عبد الحميد وحيداً ولم يعدم الأشقاء ، وإنما أشد ما يشعره بالغربة والوحشة هو سفر شقيقه الأكبر عطية إلي الكويت وانقطاع أخباره لفترة طويلة ، بيد أن ما يضاعف من حزنه وشجنه إحساسه المضطرب تجاه عمه وعماته الذين طمعوا في ميراث أبيه وأخذوه عنوه حارمين بذلك أمه وشقيقته وأخته هناء من نعمة الشعور بالأمان . وبرغم ان الميراث لا يتعد بضع قراريط من الأرض الزراعية إلا أن وجعاً أصاب العائلة الصغيرة الفقيرة من فرط جحود العم وقسوة العمات . " تلوانه " ، القرية الصغيرة التي ولد ويعيش فيها عبد الحميد لا تهدأ أبداً فأهلها يقضون ليلهم ونهارهم في ثرثرة لا تنقطع حول من تزوج ومن أنجب ومن اشتري أرضاً ومن طلق وأستغني عن زوجته بعد عشرة دامت لسنوات ، فالحديث متواصل ومستمر في دكان صلاح عجورة ، " خباص" القرية ومركز معلوماتها الرئيسي وموزع أخبارها بالمجان لمن يقتلهم الفضول لمعرفة أسرار الناس والإطلاع علي عوراتهم . ليس عجورة وحده الشخصية الأشهر في رواية غزلان الممتعة والمؤلمة في آن ، هناك أيضاً الشيخ علي ماضي رجل يحفظ القرآن ويعمل علي تحفيظه للأطفال والصبية مقابل أجر ، خفيف الظل كأي فقي وإن لم يكن كذلك بالضبط فهو ليس كفيف ولا ذو عاهة .. يحبه عبد الحميد سعد فكه ويقربه منه كثيراً فهو أول من أرسل إليه ساعة رادو بعد سفره إلي العاصمة القطرية " الدوحة " .. شخصيات عديدة حيه شكلت أحداث الرواية ونسج منها الكاتب تفاصيل الترجيديا الإنسانية سواء قبل النزوح من " تلوانة " إلي الدولة الخليجية أو بعدها فلم ينفصل تماماً عن واقعة المحلي برغم المسافة اللانهائية التي تفصل وتباعد بينه وبين أهلة وذويه . كان السفر هو الإختيار الآمن للشاب المؤرق فقد شد الرحال إلي الدوحة بمساعدة شقيقة الأكبر عطيه الذي أوجد له عقد العمل وأنهي له الإجراءات .. تحقق حُلمه الذي طالما رآه بعيد المنال ، ركب عبد الحميد الطائرة لأول مرة في حياته ووطأت أقدامه أرضاً عربية غير الأراضي المصرية ، وحينئذ تولدت حيثيات التجربة الجديدة الفارقة في كل شيء ، فالقسوة متوافرة والجهامة عنوان الناس والبيئة الصحراوية التي لا تراحم . فكما يقول البطل الذي استخدم طوال الأحداث ضمير المتكلم قضيت ليلتي الأولي في الغربة كما الذي أُلقي به في الجُب .. لا أحد يري إلا نفسه ، وليس من محفز علي البقاء إلا أمل ضعيف يداعب الخيال وخيط رفيع من الضوء يتبين به صاحب الحاجة النور الشحيح للصبح الوليد . صبر وجلد وعزيمة لا تلين ثلاثة مفردات إمتلكها الشاب الذي صار كهلاً في غضون سنوات قليلة بفعل التجربة المريرة ليصبح بعد الضنى والعذاب واحداً من المصريين الميسورين في الدولة الشقيقة فقد تعرف علي كومار خيرة الشباب الهندى المكافح وصار الإثنان صديقان حميمان ، كما تعرف علي شانتى ، فتاة هندية أيضاً نموذج في الإنضباط وحسن الإدارة والجمال والإثارة ، كم إشتهاها وتمناها ولكنه تعفف عن الدنايا وقصر علاقته بها علي الصداقة البريئة . إستطاع عبد الحميد الذي كانت الخطابات في سبعينيات القرن الماضي تمثل له الحبل السُري الذي يربطه بأهل قريته ومسقط رأسه أن يكتسب ثقة صاحب العمل فينفتح علي عالم التجارة ويعرف لغة البنكنوت ويلمس بيديه الدولار الأمريكي الأخضر ، وبفضل هذه الثقة صار واحداً من الأعيان ، بني عمارة وتزوج فاطمة الحلوة وأنجب طفلين ذكرين وحقق جزءاً من وصية أبيه الفلاح المثقف محمد سعد فكه ، إلا أن شيئاً باعد بينه وبين شقيقه عطيه ، لعله الطمع الذي وسوس به الشيطان للشقيق الأكبر فاستأثر بميراث العائلة ، القراريط القليلة التي اشتراها من عمه بثمن بخس بعد مراوغة ومهارة في البيع والشراء والتظاهر بالإستغناء !! إحتكر عطيه الأرض وأعطي لنفسه الحق في إتخاذ القرار العائلي منفرداً ليؤمن مستقبل زوجته الفلسطينية وولدية ، ومن هنا بدأ الشك يداخل قلب عبد الحميد فلم يعد يطمئن لمكر ودهاء أخيه . الرواية التي صاغها غزلان بعناية فائقة وضفر خيوطها لتعطي ملمحاً فوتغرافياً واضحاً عن محنة الغربة والسفر بوصفه ممارساً لهواية التصوير وبارعاً فيها غلب عليها الطابع الإنساني وتميزت بواقعيه شديدة برزت خلالها التجربة الذاتية ، فلم يستطع صاحب الرواية ان يكون خارجها ويتجاهل ما تعرض له بشكل شخصي من مواقف كان لها بالقطع ظلالاً قوية داخل الرواية . وقد تكون ساهمت في تحديد مسار الشخصيات والأحداث التي بدأت بتراجيديا الحياة وأنتهت بتراجيديا الموت ، حيث غادر عبد الحميد محمد سعد فكه الشهير بعبده ريال الدوحة ملقياً نظرة أخيرة علي جثمان الشيخ يوسف الحرمى ، كفيلة الطيب الذي مات إكلينيكياً بمستشفي " حمد " متوجهاً إلي القاهرة بعد أن وصلته أنباء عن وفاة أم زوجته التي ماتت مقتولة لينقطع الخط الدرامي للأحداث عند مفترق الطرق دون إستبيان مصائر بقية الأبطال ومعرفة القاتل المجهول الذي ذبح نبويه الداية طمعاً في سرقة مصاغها . إنطباع تركته الرواية بداخلي بعد أن فرغت من قراءتها ينطوي علي يقين بأنه إذا كان في السفر سبع فوائد ، فإن فيه أيضاً سبعين ألف مضره ، خاصة إذا أرغم الإنسان عليه كما أرغم عبده ريال ومن معه علي أكل السمبوسة الحارة والنوم في غرفة تحوي ثلاثين شخصاً يفترشون الأسى ويلتحفون العرق .. إنها مأساة تتفوق علي مأساة صاحب البيجاما الكستور الذي ذكر الراوي أنه قضي ثلاثة أرباع عمره في غربة لا يكلم فيها أحداً وأنتهي به المطاف مشحوناً إلي بلادة في صندوق !.