خرج "الميكروباص" من القاهرة المكتظة بناسها والمزدحمة بشوارعها الخانقة بفضل مهارة السائق الذى يبدو أنه تعلم قيادة السيارات فى السيرك القومى.. وبمجرد خروج السيارة وعبورها آخر نقطة مرورية فى العاصمة، هممت أمد يدى لفتح النافذة بعد استئذان السيدة الجالسة بجوارى، لم ترفض ولم توافق لكنها أمعنت النظر فى ملامحى.. وعلى شفتها نصف ابتسامة مما ظننته موافقة ضمنية.. يشق الميكروباص طريقه إلى قريتى.. الزراعات تغطى جانبى الطريق باستثناء بعض المبانى العشوائية المتناثرة فى الحقول مثل البثور.. أبنية لم تكتمل وأعمدة خرسانية يختلف أطوالها.. نمت بين أعواد الذرة لتشوه أفق الخضرة التى كانت مترامية، هجوم تتار القاهرة إلى القرى القريبة منها وضمها عنوة إلى مدينتهم الخانقة المخيفة أضاع سكينة الريف وهدوءه .. لم تسلم قرية من الغزو، القاهرة لم تمارس وحدها هذا النوع من الزحف اللا إنسانى بل سارت على حذوها بقية المدن، تقطم كل يوم وليلة جزءا من قرية مجاورة تضمها إليها فى البداية بحنان وبعد فترة تلتهمها، تبتلعها، تهضمها وتذوب القرية الوادعة فى جوف المتوحشة. الطريق يضيق ويتسع طبقا لعشوائية البناء، إلا أنك لا تستطيع أن تشم رائحة بحرى إلا بعد عبور مدينة القناطر.. الجو بالفعل مختلف والتلوث الذى كنا لا نعرف حتى اسمه يصبح أقل والسماء صحو وتشعر أن الشمس أعلى ارتفاعا عن شمس القاهرة التى تصر على الالتصاق برؤوس الناس وأكتافهم، الهواء يدخل رئتى مباشرة، أشعر أن صدرى يتسع لاستقباله بعد حرمان أربع ساعات أو يزيد قليلا قضيتها فى هواء القاهرة المحمل بالغبار وروائح عوادم السيارات، لم يستمر استمتاعى بهواء الريف طويلا.. بسبب المرأة التى بجانبى، طلبت أو قل أمرت بإغلاق النافذة كلية أو إغلاقها جزئيا وأن نتبادل المقاعد وأجلس أنا بجوار النافذة مباشرة، فهى لا تستطيع تحمل هذا الهواء الذى وصفته بالبارد! امتثلت للأمر، أغلقت النافذة جزئيا وجلست بجوار النافذة، الناس فى الريف غير ناس القاهرة خاصة فى المواصلات، الكل يحنو على الكل، الركاب جميعهم أقرب إلى الأهل من قرى مجاورة، يعرف أغلبهم البعض من السحنة، إلا أننى تعجبت من جارتى تلك وتملكتنى الدهشة عندما ذكرت قريتى واسم أمى وترحمت على والدى.. ولا أعرف كيف وصلتها قصة أخى الأكبر عطية، تحركت للاستعداد للنزول فى قرية سمان وحملتنى السلام إلى أمى وإلى نبوية الداية أم فاطمة.. ولم تنس أن تذكر اسمها مقرونا بوظيفتها "أم شاهين الداية" وألقت السلام على ركاب الميكروباص، وقبل أن يتوقف السائق وبخته على رعونته وسرعته، ونصحته بالمحافظة على أرواح من معه من البشر إذا كان لا يهمه المحافظة على السيارة. ريَّاح شبين على يمين الطريق، يحف ضفتيه أشجار الكافور الضخمة ويلامس ماءه أوراق شجر "شعر البنت"، يحمل النسيم أطرافه ليغسلها فى مياه الرياح ليزيد اخضرار أوراقه خضرة تتلألأ فى ضوء الشمس.. النهار لم ينتصف بعد وآذان الظهر أمامه ساعة على الأقل، مما جعلنى أفكر أن أعرج على صديق لى فى منتصف الطريق أبلغه أننى أنجزت المهمة التى خرجت من أجلها بعد صلاة الفجر مباشرة وها أنا قد عدت.. تركت كفر الخضرة، وفضلت النزول فى " بير شمس".. لم يستغرق الأمر وقتا، بمجرد رؤيته لى وفى يدى الحقيبة الصغيرة، علم أننى وفقت فى رحلتى، أخبرته على عجل أننى حصلت على تأشيرة الحج لأمى وأحضرت تذكرة السفر وقمت بتغيير مبلغ من المال إلى ريالات سعودية، وكل ما أخشاه إذا دخلت على أمى وحدى أن تنفجر فى البكاء.. كانت تحلم بأن تحج إلى بيت الله فى صحبة أبى إلا أنه تركنا.. حضوره معى ورؤية أمى له قد يؤجل بكائها أو ينسيها موضوع البكاء، فهى تعرفه منذ زمن، عندما كان يأتى لمنزلنا لاستذكار الدروس أو أذهب أنا إليه. من "بير شمس" إلى قريتى أقل من نصف ساعة سيرا على الأقدام، قد تطول المدة قليلا فى الصيف.. إلا أنها تقصر عادة فى الشتاء كما كان يقول أبى.. قبل دخول القرية لا أعلم لماذا توقفت أمام اليافطة "الصاج" التى كانت تحمل اسم قريتى.. لا يظهر من اسم القرية حرف واحد، والسبب لا يعلمه إلا أنا وصديقى وبعض أهالى القرية وصبيانها.. كنا ونحن صغار عند العودة من المدرسة نلقى على اليافطة بكور من الطين.. كور الطين الجافة غطت اليافطة وأخفت تحتها حروفها.. توقفت تحتها.. بحثت عن قطعة خشب أزيل بها كورات الطين الجافة.. تعجب صديقى مما أفعل وذكرنى بأننى كنت من أشد الصبية الصغار إدمانا لإلقاء كورات الطين على هذه اليافطة.. تركته يتحدث عن شقاوة الطفولة وأزلت كل بقع الطين.. وظهر اسم القرية واضحا بعض الشىء ليراها كل قادم إلى الطريق.. الاسم أصبح أكثر وضوحا.. "تلوانة".. لقد تحول الاسم إلى جزء من حياتى وجزء من لحمى عندما قرأته أول وآخر مرة فى بطن ساعد أبى عندما وضع الأطباء المحاليل فى أوردته قرأت اسمه.. واسم بلدتى.. مكتوباً على لحم بطن ساعده الذى ضمر وأوردته التى جفت.. "محمد سعد فكه" وتحتها "تلوانة الباجور منوفية".. عُرف أهل الريف قديما، كانوا "يدقون" الأسماء والقرى التى يتبعونها على بطون سواعدهم. القرية يلفها هدوء غريب.. لا تسمع إلا صوت طلمبات المياه.. تغرق من ماء الترعة، مازال الفلاحون فى حقولهم، والتلاميذ فى مدارسهم، والنساء يغسلن أوانى الطهى فى الترعة الصغيرة سبب البلاوى الكبيرة والأمراض غير القابلة للشفاء.. يعلمن ذلك ولا يبالين.. الحقول فى جانب والبيوت فى الجانب الآخر يفصل بينهما الترعة التى كرهها أبى فى أيامه الأخيرة كراهية التحريم.. حوارى القرية.. خمسة على شكل كف بأصابعه المختلفة، إلا أنها كلها مسدودة ومنفذ الخروج من حارة إلى أخرى.. ممرات بين بعض المنازل التى تطل على حارتين، فى الحارة الوسطى يقع محل صلاح عجوره، وهو ليس محلاً بالمعنى المعروف، لكنها غرفة من داره حولها إلى محل لمراقبة القرية كلها. بمجرد رؤيته لى بصحبة صديقى، خرج ليرحب بنا ويبارك لحجة أمى ويخبرنا أن هناك مشاجرة أمام دارنا مع "الواد المبيض" الذى جاء لدهان واجهة المنزل ونقش بعض الرسوم.. الواد المبيض يرفض كتابة اسم أمى على الحائط بكنيتها "أم عطية" ويصر على أنه لن يكتب اسم عطية أبدا وعلى أمى أن تختار أن تكتب "أم عبد الحميد" أو اسمها مسبوقاً بلقب الحاجة.. حاول صلاح عجوره أن يحكى ويحكى إلا أننى صحبت صديقى عبد الله إلى الدار فى الحارة المجاورة والتى كان يطلق عليها أبى اسم حارة "الإبهام". واجهة المنزل أصبحت فى بياض زهرة القطن، جير أبيض غطى قوالب الطوب اللبن.. وصورة لباخرة وطائرة وجمل عليه هودج بألوان مختلفة حمراء وخضراء وزرقاء وجملة تقليدية مكتوبة بحروف مائلة بلون أحمر قانى "حج مبرور وذنب مغفور" وجملة لم تكتمل مبروك يا حاجة... وهنا فيما يبدو اختلف الواد المبيض على كتابة اسم "أم عطية " لرفضه أن تخط ريشته الغالية اسم أخى الأكبر.. الواد المبيض له مبرراته لعدم كتابة الاسم والنساء اجتمعن حوله، يؤنبنه بأنه لا دخل له فى المشاكل الأسرية والعائلية، فهو مجرد مبيض، ضرب الحائط فرشة ورسم عدة نقوش وكتب جملة أو أكثر وفى النهاية سيتقاضى أجره وعليه أن يفعل ما يؤمر به.. قالوا له: اكتب أم عطية أم قرد لا دخل لك البتة، بل دفعته امرأة فى صدره وأضرب عن العمل منتظرا حضورى وها أنا قد جئت. عطية ترك البلد ولم يتزوج من بناتها، وأباه مات وهو غاضب منه.. هذه أمور تخصنا نحن.. نعم.. لقد ترك عطية تلوانة وتزوج من فلسطينية فى الكويت حيث يعمل ويقيم إلا أن أبى لم يمت وهو غاضب منه.. كما أطلق هذه الشائعة صلاح عجورة وجعل أهل القرية يصدقونها ويتناقلونها ويزيدون فيها ويعيدون.. عطية أخى الأكبر ليس ابنا عاقا، فهو حنون محب لأسرته، أوصانى أبى قبل وفاته بمداومة مراسلته وعدم الانقطاع عن زيارته عندما يأتى فى أجازته السنوية ويقيم فى شقته التى اشتراها فى مدينة نصر.. رفضت الانصياع لأوامر الواد المبيض وأعطيته أجرته وتركته يرحل وبقيت الجملة كما هى دون استكمال "مبروك يا حاجة".. خرجت أمى من الدار عندما سمعت صوتى وعندما رأتنى ورأت الحقيبة فى يدى، ارتمت على تحتضتنى.. أخبرتها أن جواز السفر والتذكرة معى ودعوت لها بحج مبرور وغفران الذنوب، لم تمنعها رؤية صديقى من الانفجار فى البكاء.. أخذتها أختى هناء والنساء إلى داخل الدار.