اعتماد 12 مدرسة بشمال سيناء من قِبل الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد    جامعة العريش تتألق في قمية الكشافة البحرية للجامعات بشمال سيناء ورئيس الجامعة يكرم الطلاب المشاركين    محافظ المنوفية يتفقد المركز التكنولوجي والوحدات الصحية بطليا    محافظ الإسكندرية يزور صومعة كينج مريوط لمتابعة توريد الأقماح المحلية    عاجل - الرئيس عبدالفتاح السيسي يصل موسكو للمشاركة في احتفالات عيد النصر    وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات يلتقى محافظ طوكيو لبحث التعاون فى مجالات بناء القدرات الرقمية ودعم ريادة الأعمال    محافظ مطروح يتفقد أعمال النظافة والتطوير بشارع الريفية    فى أزمة الإيجارات القديمة    رئيس الهيئة العامة للاستثمار: 4 مناطق حرة عامة تحت الإنشاء تبدأ عملها منتصف العام المقبل    غرفة المنشآت السياحية: الاستثمار في الإنسان هو الأذكى.. وتأهيل الطلاب للضيافة ضرورة لتطوير السياحة    وزير الخارجية الهندي يطلق تحذير «الرد الحازم» لباكستان    تركيا: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات الإنسانية وتحاول تهجير الفلسطينيين وتثبيت وجودها في غزة بشكل دائم عبر توسيع هجماتها    «نلعب في دوري الفلاحين».. رد ساخر من إنريكي بعد تغلبه على كبار الدوري الإنجليزي    «أشعل المجلس ووعود زائفة».. قصة ظهور ميدو في الزمالك    خالد بيبو: كولر ظلم لاعبين في الأهلي وكان يحلم بالمونديال    عاجل.. حسام حسن خارج قيادة منتخب مصر في كأس العرب 2025 وطاقم جديد يتولى المهمة    شقيق سولاري يزيد الغموض بشأن خليفة أنشيلوتي    غياب هنداوي وعودة الطيار وقداح.. قائمة منتخب اليد لمواجهة البرازيل وديًا    سقوط عصابة النصب على المواطنين والاستيلاء على أموالهم بآثار مضروبة    الأرصاد الجوية تكشف عن حالة الطقس المتوقعة ليومي الخميس والجمعة: استمرار الارتفاع في درجات الحرارة    موعد إجازة عيد الأضحى 2025 وكم يفصلنا عن وقفة عرفات؟    لازم تعرفي| نصائح للأمهات لتوعية أولادهن ضد التحرش    تكثيف جهود البحث عن فتاة متغيبة منذ يومين في القليوبية    افتتاح معرض "على ورق 2" لعلى حسان بمركز محمود مختار الثقافى.. الليلة    مفيدة شيحة تشهد بالحق في أزمة بوسي شلبي مع ورثة محمود عبد العزيز    الصفا الثانوية بنات يتفوق على كل أفلام علي ربيع في السينما (بالأرقام)    زواج وعلاقات.. 3 أبراج تشعر ب«الاشمئزاز» من الشريك بسهولة    القومي للترجمة وكلية اللغات بجامعة مصر يوقعان اتفاق لتعزيز التبادل الثقافي    وفد هيئة الاعتماد يتفقد مستشفى نخل بشمال سيناء    أسقف المنيا للخارجية الأمريكية: الرئيس السيسي يرعى حرية العبادة (صور)    قصور الثقافة تحتفل بختام مشروع الحكي الشعبي غدا على مسرح السامر    اختناق 4 أشخاص في حريق بمكبس كراتين خردة بسوهاج    وزير الصحة يستقبل نقيب التمريض لبحث تطوير التدريب المهني وتعميم الأدلة الاسترشادية    الدخان الأسود يتصاعد مجددًا من الفاتيكان مع عدم إتمام عملية انتخاب البابا الجديد    جامعة المنيا الأهلية تُنشئ منظومة اختبارات إلكترونية وتُجهز 4 معامل لكلية الذكاء الاصطناعي    وزير خارجية إيران: زيارتي للهند تهدف لإنشاء لجنة اقتصادية مشتركة    وزير الري: كاميرات لقياس التصرف على ترعة الإسماعيلية    بعد جدل الساعات المعتمدة، رئيس جامعة القاهرة يكشف ل فيتو نظام الدراسة ب«الجامعة الأهلية»    الإسماعيلي ضد إنبي.. الدراويش على حافة الهاوية بعد السقوط في مراكز الهبوط    ميدو يفجّرها: شخص داخل الزمالك يحارب لجنة الخطيط.. وإمام عاشور الأهم وصفقة زيزو للأهلي لم تكن مفاجأة    بوتين: التبادل التجارى مع الصين بلغ أكثر من 244 مليار دولار    أمين الفتوى يكشف عن 3 حالات لا يجوز فيها الزواج: ظلم وحرام شرعًا    الجريدة الرسمية تنشر قرارات رد الجنسية المصرية ل42 شخصا    جثة ال17 طعنة.. المؤبد للمتهمين في جريمة «السلاكين» بنجع حمادي    "الصحة": تخريج الدفعة الثالثة من برنامج "مرشدى تعافى الإدمان"    الصحة العالمية تكشف أهداف حملة اليوم العالمى للامتناع عن التبغ لعام 2025    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 8-5-2025 في محافظة قنا    موعد إجازة المولد النبوي الشريف لعام 2025 في مصر    قسم الأمراض العصبية والنفسية بجامعة أسيوط ينظم يوما علميا حول مرض الصرع    الجيش الباكستاني يعلن إسقاط 12 طائرة تجسس هندية    الكرملين: محادثات بوتين وشي جين بينج في موسكو ستكون مطولة ومتعددة الصيغ    البرلمان الألماني يحيي ذكرى مرور 80 عامًا على انتهاء الحرب العالمية الثانية    هجوم بطائرات درون على مستودعات نفطية في ولاية النيل الأبيض بالسودان    سعر جرام الذهب اليوم فى مصر الخميس 8 مايو 2025.. تراجع عيار 21    بروشتة نبوية.. كيف نتخلص من العصبية؟.. أمين الفتوى يوضح    تعرف على ملخص احداث مسلسل «آسر» الحلقة 28    سبب إلزام النساء بارتداء الحجاب دون الرجال.. أمين الفتوى يوضح    اليوم.. «محامين المنيا» تعلن الإضراب عن محاكم الاستئناف رفضًا لرسوم التقاضي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراسة في التنظيمات المسلحة في الحركة الإسلامية .. جدلية النشأة والتأثيرمصر نموذجاً(2 3)
نشر في محيط يوم 18 - 07 - 2012


مركز "محيط" للدراسات السياسية والإستراتيجية
إعداد سمير العركي

ثانياً : المُمارسات السُلطوية الجامحة :

لعبت المُمارسات السُلطوية الجامحة دوراً لا يُستهان بهِ في تفكير الحركة الإسلامية في إنشاء التنظيمات المُسلحة إذ رأت فيها الحركة أداة الردع التي ستتمكن من خلالها ردع هذه الحكومات وكف آذاها أو تستخدم بالتعبير الفقهي في "دفع الصائل".

ففي تبريرهُ لإنشاء النظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين يقول "محمود عبد الحليم":( )

"... وأدرك الأستاذ المُرشد بحاسة القيادة التي وهبه الله إياها، أن أعداء الدعوة التقليديين وهُم المُستعمرون وعلى رأسهِم الإنجليز ثم أذنابهِم من الحُكام المصريين الذين هُم اليد التي يبطش بها هذا المُستعمر، أدرك أن هؤلاء الأعداء هم للدعوة بالمرصاد وأن الدعوة يجب ألا تكون فريسة باردة لهُم بل أن تكون ذات شوكة لا يسهُل التهامها، ومن هُنا نبتت فكرة النظام الخاص "للدفاع عن الدعوة .." وعن كيفية التأسيس يكمل "محمود عبد الحليم" حكايته قائلاً:( )

"كان ذلك في عام 1940 حين دعا خمسة منا هُم "صالح عشماوى" و"حسين كمال الدين" و"حامد شريت" و"عبد العزيز أحمد" و"محمود عبد الحليم" وعرض علينا الدواعي التي رآها تقتضي الإستعداد وإنشاء نظام خاص تُواجه الدعوة بهِ مسئولياتها في المُستقبل .... واقتنعنا برأيهِ فكون منا نحن الخمسة قيادة هذا التنظيم وعهد إلينا بإنشائه وتنظيمه وتدريبه على أساس من العسكرية الإسلامية القوية النظيفة، وعلى أن يُحاط بالسرية المُطلقة بحيثُ لا يعرف عنه أحد شيئاً إلا أعضاؤه ....".

ولكن هذه الفكرة التي نبتت في ذهن الأستاذ "البنا" – رحمه الله – لم تأت من فراغ، ففي عهد "حسين سري" باشا وبطلب من السُلطات البريطانية تمت مُصادرة مجلتى "التعارُف" و"الشُعاع" الأسبوعيتين، وأُلغى ترخيص مجلة "المنار" الشهرية التي أعاد الإخوان المُسلمون إصدارها بالتعاون مع ورثة الشيخ "رشيد رضا". ومنع طبع أى رسالة من رسائلهم أو إعادة طبعها وأغلقت مطبعتهم ومنعت اجتماعاتهم وحظر على الصُحف نشر أخبارهم. وفي 19 أكتوبر 1941 اعتقلت الحكومة "حسن البنا" و"أحمد السكري" و"عبد الحكيم عابدين" وأودعوا معتقل الزيتون( ).

هذه المحنة المُبكرة لدعوة الإخوان المُسلمين تركت أثراً لدى "البنا" بأهمية تشكيل التنظيم الخاص ومن هُنا يتضح أن نشأة "النظام الخاص" لدى الإخوان كانت سابقة على حرب فلسطين 1948 وأن التنظيم السري لم يكُن رد فعل على إعلان الدولة الصهيونية كما يُشاع ويُقال.

ولا نستطيع أن نُنكِر على شباب الإخوان المُسلمين حماسهِم وإخلاصهِم لقضية فلسطين ولكن لا نستطيع في الوقت نفسهُ إنكار أن التدريب على السلاح وإعداد شباب "النظام الخاص" كان سابقاً على ظهور مشكلة فلسطين. أما بالنسبة للحكومة فمن المُحقق أنها اتخذت من قضية فلسطين شعاراً تُخفى تحتهُ تغاضيها عن استعدادات الإخوان لإستخدامهِم في مُحاربة الوفد. وقد كان في وسعها منع هذا النشاط ومُطالبة الإخوان بمُمارسة تدريباتهم في الأماكن الرسمية التي حددتها لهذا الغرض، وهذا ما عبر عنه "عبد الرحمن عمار بك" وكيل وزارة الداخلية في شهادته أمام المحكمة في قضية مقتل النُقراشي باشا فقد قال :

" إن جماعة الإخوان كانوا على إثر كُل حادث يتمسحون بقضية فلسطين وكنت موقناً أن هذا التمسُح باطل ولا أساس له، لأنهم إذا كانوا يقصدون حقاً خدمة فلسطين لتوجهوا إلى مكان التدريب الذي أعددته الحكومة في "هاكستيب" ظاهرين لا مُتخفين، لا أن يذهبوا إلى جبل المُقطم فلا نعرف شخصياتهم ولا نياتهِم"( ).

على أن فترة السبعينيات وما تلاها شهدت نموا بالغاً للتنظيمات المُسلحة المؤسسة على أساس الرد على المُمارسات القمعية للسُلطة ففي سبتمبر 1981 كانت قرارات التحفُظ الشهيرة التي أصدرها الرئيس الأسبق "أنور السادات" باعثاً حقيقياً على إنشاء واحد من أكبر التنظيمات المُسلحة وأشرسها والذي سيلعب دوراً بارزاً في جميع أعمال العُنف التي ستجتاح مصر طيلة عقدين من الزمان.

فقد شملت قرارت التحفظ أطياف العمل السياسي المصري من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وكانت الرموز الإسلامية على رأس قائمة التحفُظ، في الوقت الذي كان فيه تحالُف قد قام بالفعل بين مجموعة الصعيد برئاسة "كرم زُهدي" ومجموعة القاهرة برئاسة "محمد عبد السلام فرج" مما أدى إلى الخوف من انكشاف أمر التنظيم الجديد خاصة وأن عديدين من رؤوسه كان مطلوبين للتحفُظ منهُم "عبد السلام فرج" نفسه مما أدى إلى الإسراع بإتخاذ خطوات فعلية من أجل توجيه ضربة وقائية وكانت اللحظة المُناسبة مع بروز اسم المُلازم أول "خالد الإسلامبولي" كأحد المُشاركين في العرض العسكري وكان شقيقه الأكبر "محمد شوقي الإسلامبولي" قد شمله قرار التحفُظ وتم إلقاء القبض عليه مما أدى إلى تسريع وتيرة الأحداث وقيام التنظيم بإغتيال السادات والواقع أن الرد العنيف على قرارات التحفُظ كان أقوى من الفعل نفسهِ فقرارات التحفُظ وطبقاً لما ذكر بعد ذلك كانت لفترة محدودة قدرها الرئيس "السادات" إلى إبريل 82 وهو الموعد المُحدد لإستلام بقية سيناء وبعد ذلك كان في نيتهِ الإفراج عن كُل المُعتقلين السياسيين الذي شملهم قرار التحفُظ( ).

ومع مجىء الرئيس السابق "حسني مبارك" بعد حادث المنصة الشهير سادت حالة من الهدوء في مصر ربما مرجعها الرئيسي اتساع دائرة المُشتبه فيه عقب اغتيال "السادات" حتى شملت كُل من دل مظهره الخارجي على إطلاق لحيته.

ولكن الفترة التي تلت اغتيال "السادات" شهدت انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في السجون المصرية فقد شعرت أجهزة الأمن المصرية أنها تلقت ضربة قاصمة بهذا الإغتيال نظراً لفشلها في التنبؤ بهِ خاصة وأن أحد أعضاء التنظيم السري وهو "نبيل المغربي" كان في قبضتها قبل حادثة المنصة ولم تتمكن من حملهِ على الإعتراف بمؤامرة الإغتيال، ومن هُنا فقد أرادت هذه الأجهزة تعويض النقص لديها في المعلومات عن طريق التوسع في عمليات التعذيب وحلقات التحقيق الجهنمية التي تركت أثراُ نفسياُ سيئاً لدى المُعتقلين حينها وجعلتهم يُعيدون حساباتهِم في وجوب إنشاء تنظيمات يُسنَد إليها مُهمة حماية الدعوة والتمهيد لإقامة الدولة الإسلامية.

وكانت فترة تولي اللواء "زكي بدر" وزارة الداخلية فترة مفصلية في تأسيس التنظيمات المُسلحة فقد طبق "زكي بدر" سياسة شديدة القسوة في تعامُله مع الحركة الإسلامية على عكس سياسة سلفه اللواء "أحمد رشدي" فقد بدأ "زكي بدر" في التوسع في الإعتقالات واتجه إلى سياسة جديدة كان لها أسوأ الأثر لدى أعضاء الحركات الإسلامية والشعب المصري كله وهى سياسة اقتحام المساجد بقوات الأمن المركزي وإطلاق الرُصاص الحى في داخله مما أدى إلى سقوط قتلى على أبوابه مما أدى إلى هياج الشعور العام كما اتجه "زكي بدر" إلى تصفية أعضاء الحركة الإسلامية مُباشرة دون القبض عليهِم وتحويلهِم إلى جهات التحقيق المُختصة ( ) مما أدى إلى سقوط ما يقرُب من تسعة وعشرين قتيلاً في مُدة أربع سنوات تقريباً قضاها " بدر" في وزارة الداخلية.

ومن هُنا فقد كان التفكير في إنشاء تنظيم يتولى الرد على هذه المُمارسات القمعية وبدأت الجماعة الإسلامية المصرية خطواتها الأولى في إنشاء تنظيمها الخاص أواخر عام 88 بالتحديد مع بداية خروج المحكوم عليهم في قضية الجهاد الكبرى عام 81 والذين كانوا يقضون عقوبة السجن لمدة سبع سنوات وكان من بينهِم القيادي البارز "مصطفى حمزة" الذي أصبح فيما بعد قائد الجناح العسكري للجماعة الإسلامية.

وكانت باكورة أعمال التنظيم الوليد مُحاولة الإغتيال الفاشلة التي تعرض لها اللواء "زكي بدر" عام 1990 بواسطة سيارة مُفخخة كانت تُرابِض عند كوبري الفردوس ويقودها طالب الطب آنذاك "جمال رواش" والذي كان يدرس في كُلية الطب بجامعة أسيوط.

واللافت للنظر أن الحكومة المصرية لم تقُم بإحالة المُتهمين في هذه القضية إلى المُحاكمة وكأنها كانت تُريد إرسال رسالة مُفادها عدم رغبتها في التصعيد خاصة بعد قيامها بعزل اللواء "زكي بدر" من منصبهِ حتى إن هذه الحادثة لم تأخُذ حقها في التغطية الإعلامية رغبة في إغلاق الموضوع برمته( ).

ورغم أن الحكومة المصرية سارعت إلى استدعاء مُحافظ أسيوط اللواء "محمد عبد الحليم موسى" – والذي كان بلقب بشيخ العرب – لتولي حقيبة الداخلية رغبة في تهدئة الأمور إلا أن المُمارسات القمعية لم تتوقف لعدم وجود رغبة جدية في مُعالجة قضية الإنتهاكات المُستمرة لحقوق الإنسان واللافت للنظر أيضاً أن "موسى" لم يتمكن من ضبط أداء التعامُل مع الجماعات الإسلامية مما أدى إلى وقوع قتلى في الأشهر الأولى لتوليه الوزارة فاق ما شهدته سنوات "بدر" الأربع واتبع "موسى" سياسة الضرب في سويداء القلب والتي أُعلِن عنها صراحة في وسائل الإعلام.

كُل هذا أدى إلى تثبيت القناعات الخاصة لدى الجماعة الإسلامية بأهمية المُضى قُدماً في إكمال مُقومات التنظيم الخاص وساعدها على ذلك فتح مُعسكرات لها في أفغانستان التي كانت تخوض حرباً شرسة ضد الإتحاد السوفيتي والقوات الأفغانية الموالية لها والتي أدت إلى تدفُق آلاف المُجاهدين العرب لنصرة المُجاهدين الأفغان وكان للجماعة الإسلامية نصيب في التواجُد عبر مُعسكر "الخلافة" والذي تولى تدريب الكوادر للمُشاركة في الحرب الأفغانية ثُم الدفع بهِم إلى مصر بعد ذلك.

ولكن التغيُر الأبرز الذي حدث في بنية النظام الخاص للجماعة الإسلامية كان مع مقتل "د.علاء محيى الدين" المُتحدث الإعلامي للجماعة أواخر عام ،1990 والذي قتل فى وضح النهار فى إحدى شوارع منطقة الطالبية بمحافظة الجيزة والذى يعتقد أنه قتل على يد أجهزة الأمن المصرية.

هذا الحادث شكل تغيُراً في طبيعة الصراع بين الجماعة الإسلامية والدولة المصرية إذ لم يكُن "مُحيى الدين" معروفاُ عنه تشدُدهِ بل على العكس كان يُمثل حلقة الوصل بين الجماعة وبين النُخب الإعلامية والمُثقفة، لذا عمدت الجماعة إلى الرد عبر مُحاولة اغتيال وزير الداخلية "عبد الحليم موسى" ولكنهُ نجا في اللحظات الأخيرة ليسقُط بدلاً منه "د.رفعت المحجوب" رئيس مجلس الشعب المصري عن طريق الخطأ.

والمُلاحظ هُنا أن الجماعة الإسلامية بدأت تشهد تحوُل قطاعات كبيرة فيها إلى العمل العسكري السري فبدلاً من أسلوب الإختيار الذي كان شائعاً في بداية تكوين النظام الخاص للجماعة بدأت قطاعات كبيرة فيها تتحول إلى العمل السري تحت ضغط المُطاردات الأمنية الشديدة، والتي ألجأت كثيرين إلى الإختباء تحت الأرض.

وإذا كان عام 92 قد شهد أول قضية لتنظيم "العائدون من أفغانستان" الذين تركوا أفغانستان إثر انتهاء الحرب هُناك فإن الأعوام التالية شهدت العديد من القضايا المُهمة والتي شهدت تحوُلاً ضخماً لقطاعات كبيرة كانت تعمل في العمل الدعوي العلني واضطرت تحت ضغط المُمارسات السُلطوية إلى التحوُل للعمل العسكري السري خاصة مع التوسُع في سياسة الإعتقال المفتوح التي أدت إلى مكوث المُعتقلين في المُعتقلات مدداً وصلت إلى ستة عشر عاماً رهن الإعتقال بدون أى مُحاكمات.

ومن هُنا فإن المُمارسات السُلطوية الجامحة غالباً ما تؤدي إلى رد فعل مُماثل خاصة مع توفُر الإطار الفكري الذي يُدعِم العمل المُسلح ويوفِر الحماية الفكرية لهُ.

فبالرغم من كون جميع الأدبيات التي نظرت للعُنف بعد أحداث 81 قد نشأت في إطار تبريري يُحاول إسباغ حالة من الشرعية على اغتيال "السادات" وأحداث أسيوط التي شهدت مقتل العديد من رجال الأمن إلا أن هذه الأدبيات صارت الإطار الفكري لكُل أعمال العُنف التي شهدتها حُقبة الثمانينيات والتسعينيات. وخاصة فيما يتعلق بقضية قتال الطوائف المُمتنعة عن تطبيق شرائع الإسلام.

إن ما يُطلَق عليه اسم "العُنف الديني" يستتر وراءهِ – في مُعظم الأحيان – العُنف الذي تُمارسهُ النُظم التي تُفضِل أن تُقدِم خصومها الذين يتحدونها في صورة "الشيطان" وذلك لتتجنب مُواجهة نتائج الإنتخابات وعندما تُغلَق الأنظمة – بهذه الطريقة – أبواب الوصول إلى الساحة السياسية الشرعية أمام تيار الإسلام السياسي فهى تدفعهُ إلى مُمارسة هذا " العُنف" لكى تُبرِر لجوءها إلى القمع لحماية كيانها( ).

ثالثاً : السعى لإقامة الدولة الإسلامية :

ظل السعى لإقامة الدولة الإسلامية أملاً يُداعب خيال الجماعات الإسلامية خاصة بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 79 عبر ثورة شعبية جارفة ولكن المشروع التغييري للجماعات الإسلامية المصرية ربط ربطاً شرطياً بين السعى لإقامة الدولة الإسلامية وبين الصدام المُسلح والذي استدعى إنشاء تنظيمات مُسلحة للضلوع بهذه المُهمة.

وفي هذا الصدد لا يُمكننا تجاهُل ما كتبهُ "محمد عبد السلام فرج" مُنظر الفكر الجهادي في كتابهِ "الفريضة الغائبة" والذي شكل إلهاماً خصباً للتيارات الجهادية في السبعينيات والثمانينيات ف "محمد عبد السلام فرج" شن حملة عنيفة على أصحاب مشاريع التغيير السلمية.

فقد رأى أن العلم ليس هو السلاح الحاد والقاطع الذي سوف يقطع دابر الكافرين وهذا السلاح هو الذي ذكره لنا المولى عز وجل في قوله : "قاتلوهم يُعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصُركم عليهِم" وبالنسبة للذين يعتبرون المدخل السياسي وسيلة ناجحة في التغيير عبر الآليات السياسية المُتعددة من أحزاب وبرلمانات فإن "فرج" رد عليهِم بقوله : "لن يؤدي سعيهُم هذا إلا إلى زيادة الجمعيات الخيرية. ولن يستطيع حزبهم بلوغ الهدف الذي قام من أجله، وهو تحطيم دولة الكُفر". وفقاً لرأي "فرج" إنهُ على العكس، سوف يكون ذلك إسهاماً في بناء الكُفر، فهُم يُشاركونهم في الآراء ويُشاركونهم في عضوية المجالس التي تُشرِع دون الله.

أما الذين يضعفون عن الجهاد، ويزعُمون أنهم في مرحلة الإستضعاف ويدعون إلى اعتزال المُجتمع والهجرة منهُ على أمل الحصول على القوة ثم العودة إلى المُجتمع غازين ومُقيمين لدولة الإسلام … آراؤهم هذه يراها "فرج" شطحات أناس تنكبوا الطريق لإقامة دولة الإسلام.

والذين يقولون : إن الطريق لإقامة دولة الإسلام هو الهجرة إلى بلد آخر وإقامة دولة الإسلام ببلدهِم، ثم يخرجون منها فاتحين، والذين يقفون بالإسلام عند حدود الصلاح والتقوى والعبادة والنسك. ويقولون : إن السياسة توُرِث القلوب قسوة تلهيها عن ذكر الله، فإن (جماعة الجهاد) تسخر من كُل هذا. وفي رأي "فرج" أن الجهاد - وهو عمل سياسي - هو قمة العبادة في الإسلام. إن هؤلاء إنما يتجاهلون قول النبي : أفضل الجهاد كلمة حق عند سُلطان جائر. أما الذين يقعدون عن الجهاد، ولا يسعون في إقامة الدولة الإسلامية - خوفاً من الفصل فإنهم يقعون في خطأين من وجهة نظر "عبد السلام فرج" : النكوص عن تنفيذ أمر الله بإقامة الدولة الإسلامية - علماً بأن المُسلم مُطالِب بذلك - بصرف النظر عن النتائج.

وقد اعتبر "فرج" أن إقامة الدولة الإسلامية هو تنفيذ لأمر الله ولسنا مُطالبين بالنتائج، أما الذين يدعون إلى توجيه الطاقات الإسلامية نحو تحرير مُقدسات المُسلمين وأوطانهِم المُحتلة من الصهيونية والإستعمار؛ فإن جماعة الجهاد تقول لهُم ليست هذه هي المعركة المُباشرة، وليس هذا هو الطريق الصحيح لتحرير هذه المُقدسات بل إن "عبد السلام" يرى أن الطريق لتحرير القُدس يمُر عبر تحرير بلدنا من الحُكم الكافر لأن هؤلاء الحُكام هم أساس وجود الإستعمار في بلاد الإسلام. فلابُد من إزالة هؤلاء أولاً، ثُم الإنطلاق تحت قيادة إسلامية لتحرير المُقدسات. فالإستعمار هو العدو البعيد، وإن الحُكام الكفرة هُم العدو القريب. وإن قتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد وإن أساس وجود الإستعمار في بلادنا هُم هؤلاء الحُكام.

والسعى لإقامة دولة الإسلام ظل مُسيطراً على تفكير النُخب المُسيطرة داخل الحركة الإسلامية "الجهادية" دون الإلتفات إلى دراسة ما هو مُتحقق منهُ فعلياً على أرض الواقع والبحث في إيجاد المفقود عن طريق توافُق مُجتمعي نابع من حوار جاد حول الرؤية الحضارية للمشروع الإسلامي للتغيير والإصلاح.

ولكن هذا المشروع السلمي يحتاج إلى جُهد جهيد ووقت طويل لم تستطع المجموعات الجهادية تحمُله ولا تحمل تبعاتهِ الشاقة فلجأت رأساً إلى مشاريع التغيير "الفوقية" والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحالة صدامية تستوجب بناء التنظيمات اللازمة للإضطلاع بهذه المُهمة ومن هُنا كان اللجوء المُتكرر إلى تكوين التنظيمات المُسلحة وعدم اليأس من جراء فشل التنظيم وراء الآخر وانكشاف أمرهِ.

فبعد هزيمة يونيو 1967م ثُم مُحاكمة قادة سلاح الطيران المصري الذين اعتبروا مسئولين عن الهزيمة عام 1968م ومجئ الأحكام مُخففة، خرجت مُظاهرات حاشدة من الطلبة والعُمال في القاهرة والإسكندرية ضد نظام الرئيس "جمال عبد الناصر" مُحتجة على الأحكام والهزيمة معاً واستمرت هذه المُظاهرات لفترة. وانتهز "يحيى هاشم" وهو وكيل نيابة، وأصبح أحد أعضاء تنظيم الجهاد البارزين" الفُرصة وحاول أن يُنفِذ أمراً كثيراً ما طاقت إليه نفسهِ، ألا وهو الإلتحام بالجماهير وقيادتها للإطاحة ب "عبد الناصر" لأنه كان قد شعر في وقت سابق أن طريق الإنقلاب العسكري بالطريقة التي تبناها تنظيم الجهاد بقيادة "إسماعيل طنطاوي" هو طريق طويل سيستغرق عشرات السنوات إن لم يكُن مُستحيلاً أصلاً.

ولقد خطب "يحيى هاشم" في الجماهير المُحتشدة الذين حملوه على الأعناق وطافوا به قليلاً بالشوارع قبل أن يلقي القبض عليه، حيثُ سُرعان ما أطلقوا سراحه عندما تبين لهُم أنهُ وكيل النيابة العامة.

وحينئذ بدأت المشاكل والخلافات ليس بين "يحيى" والسلطات و لكن بين "يحيى هاشم" ومعه مجموعة كان أبرزها "رفاعى سرور" من جهة ويقابلهم في الجهة الأخرى "إسماعيل طنطاوي" و"علوي مصطفى" وبقية التنظيم.

كان رأى "إسماعيل طنطاوي" ومن معهُ أن "يحيى" مُخطئ وأن عمله هذا هدد التنظيم بالإنكشاف. وكان رأى "يحيى هاشم" ومن معهِ أن خطة التنظيم مُستحيلة التحقيق وأن الوقت مُناسب لكشف حقيقة "عبد الناصر" ونظامه للناس بعد الهزيمة وتأليبهم عليه والقيام بمشروع تغييري ذي طابع جماهيري إما ثورة شعبية وإما حرب عصابات وفي المُناقشات ظهرت خلافات عديدة أُخرى أبرزها أن "إسماعيل طنطاوي" وفريقه يرون حتمية الإلتزام بالشكل الظاهري (من لحية للرجال ونقاب للنساء)، بينما يرى "يحيى" وفريقه عدم حتمية ذلك في ظروف عدم قيام الحُكم الإسلامي في البلاد كى تتيسر حركة التنظيم السرية.

ولم تفلح كُل مُحاولات الوفاق وانشق "يحيى" وفريقه وأسسوا جماعة أُخرى.

وفي عام 1975م اشتبكت مجموعة "يحيي هاشم" مع الأمن في الجبل وتم تصفية "يحيى هاشم" ومجموعة من القادة وسُجن آخرون وبذلك انتهت جماعة "يحيى هاشم". إثر حرب أكتوبر1973م تفجر خلاف أخر بين أعضاء التنظيم بشأن مدى إسلام ضباط الجيش من أعضاء التنظيم الذين شاركوا في الحرب خاصة من مات منهم فيها، وكان من ضمن الذين ماتوا شقيق "علوي مصطفى"، وتزعم "علوي" القول بأنهم شُهداء بينما أصر أخرون على أنهم غير شهداء لأنهم قاتلوا تحت راية الطاغوت (السادات ولتحقيق أهدافه.

وحاول إسماعيل طنطاوي التوفيق بين الطرفين دون جدوى، وانشق "علوي" عن التنظيم كما فارق أخرون التنظيم دون أن يعملوا في إطار تنظيمي آخر، واستمر التنظيم بقيادة "إسماعيل طنطاوي" وظل معه كثيرون أشهرهم "نبيل البرعي" و"عصام القمري" و"أيمن الظواهري" وكان معهم في ذلك الوقت أو بعده بقليل سيد "إمام الشريف". وإثر تعدد الخلافات هذا اقترح "حسن الهلاوي" من قادة مجموعة الجيزة على "مصطفى يُسري" القائد الأرفع منه أن تستقل المجموعة عن "إسماعيل طنطاوي" إلى أن تنتهى الخلافات عنده، وبذا استقلت المجموعة إلى حين، وهى التي كانت تُشكل كمجموعة مُستقلة أصلاً من قبل أن تنضم لتنظيم "إسماعيل طنطاوى"( ) .

تلك الإنشقاقات والإخفاقات لم تجعل قادة هذه التنظيمات الإلتفات إلى عُقم الفكرة واستحالة تطبيقها بالصورة التي رسموها لأنفُسهِم حتى وصلنا إلى المشهد الدرامي بإغتيال الرئيس "السادات" والذي مثل ذروة عمل التنظيمات المُسلحة آنذاك وكان باكورة التحالُف بين الجماعة الإسلامية "فرع الصعيد" و"تنظيم الجهاد القاهرة وبحري" .

رابعاً : الإنفصال بين الفكر والحركة :

إن بناء الخطوات التنفيذية على أرض الواقع مُرتبط بالأهداف العامة والكُلية التي يسعى أى تجمُع لتحقيقها، إذ إن انفصال الخطوات التنفيذية عن الهدف العام يُحيلها إلى مجموعة من الخطوات الإرتجالية التي تخبط خبط عشواء وتقع في أخطاء قد تنسف مسيرتها العامة.

والحركة الإسلامية التي نشأت كحركة إصلاحية تربوية لم تستطع الحفاظ على هذه الرؤية الجامعة والإطار العام الذي يحكُمها ويُحدد خطواتها. نظراً لإنفصال الفكر عن الحركة.

فجدلية العلاقة بين الفكر والحركة تُنبأنا بأن الفكرة ترسم الإطار الصحيح للحركة ، ثم تُساهم " الحركة " في تطوير "الفكرة" ومُعالجة أوجه القصور فيها.

وكما يقول الأستاذ "محمد فريد عبد الخالق"، أحد قياديي الإخوان المُسلمين التاريخيين، فإن محنة العمل الإسلامي في هذه الآونة بصفة خاصة، هي محنة فكر قبل أن تكون محنة سلوك وحركة وابتلاء عملي. وفي نظر الأستاذ "جاسم مُهلهل الياسين"، أحد قيادات الحركة الدستورية في الكويت، فإن من الأزمات التي تعترض الحركات الإسلامية، أزمة الفكر الحركي حيثُ أصابها شيء من الجمود والتوقُف، وأصبح فكرها غير قادر على إخراجها من أزمتها.

ليست الأزمة المُشار إليها آنفاً بالبسيطة، فهي أزمة هيكلية قائمة في عُمق الحركة الإسلامية التي لم تستطع عبر مسار تطورها التاريخي الحافل بالأحداث، أن تجعل من الفكر قاطرة للتغيير المنشود وكاشفاً لمساراته وتحوُلاتهِ، وصمام أمان لهُ ولها للتغيير وللحركة من مجاهل غير محسوبة، أو من كيد مُتربص يفقه قوانين الحركة. ولا أدل على ذلك من نشوء كثير من المُفكرين الإسلاميين خارج الأُطر الهيكلية للحركة، من أمثال الشيخ "محمد الغزالي" و"مالك بن نبي" و"محمد إقبال" وغيرهم كثير. وبهذا المعنى أنهُ لو قُدر للحركة الإسلامية... أن تتفاعل مع المُبرزين في التجديد الفقهي والفكري لإستفادت عُمقاً يُعينها على الإستمرار ومُواكبة المُتغيرات الكبيرة والكثيرة بعد غياب مؤسسيها، وفتور الموجة الحركية نتيجة الأحداث والظروف من جهة ونتيجة اضطرارها للإجترار والتكرار للعموميات والخطابيات بسبب افتقاد العُمق. لكن حدث من الإنفصام ما يحدُث عادة بين الحركيين الذين يتهمون أهل الفكر والعلم بأنهم نظريون سلبيون armchair thinkers وأهل الفكر والعلم الذين يتهمون الحركيين بالسطحية والديماغوجية( ) .

هذا الإنفصام بين الفكر والحركة أدى إلى انحراف الحركة في كثير من الأحيان عن أهدافها العُليا التي تسعى لتحقيقها وهى هداية الخلائق وإصلاح المُجتمع لصالح مُمارسات أُخرى لم تكُن في صُلب ومتن المشروع الإسلامى المُشار إليه.

هذه المُمارسات الجانبية قادت الحركة إلى حالة صدامية بالغة الخطورة وأثرت على تفكيرها ورؤيتها للمُستقبل واستغرقتها وقادتها إلى متاهات حركية وفكرية.

ويُمكن اعتبار حالات تغيير المُنكر بالقوة النواة الحقيقية لمثل هذه المُمارسات، إذ رأت فيها الدولة خروجاً صريحاً على شرعيتها ونظامها العام، كما اعتبرتها بداية لتكوين دويلات داخل الدولة المصرية لذا سعت إلى مُواجهتها بكُل صرامة وشدة مما أدى إلى تنامي ظاهرة الصراع بين الطرفين والتي أدت بدورها إلى تكوين الخلايا والتنظيمات المُسلحة.

وأنا هُنا لا أتحدث عن القضية من منظورها الشرعي حول جواز تغيير المُنكَر باليد لآحاد الرعية، ولكني أتحدث عن الأثر الذي تركتهُ هذه المُمارسة الجانبية على المشروع الكُلي للحركة والهدف الأعظم الذي تسعى لتحقيقهِ.

إذ كان بناء الرؤية الصحيحة الراشدة يستلزم من الحركة أن تسعى لتعزيز وجودها السلمي في المُجتمع عبر مُمارسات صحية لا تخرُج عن الإطار العام للدولة ولا عن قانونها الرسمي حتى يتم الإعتراف بها كحركة إصلاحية تربوية فاعلة داخل بنية المجتمع المدني.

تقول الجماعة الإسلامية في إطار مُراجعتها الفكرية خاصة فيما يتصل بمسألة تغيير المُنكر باليد( ) :

".. ولذلك أخطأ الكثير في حق أنفسهم أولاً، وفي حق مُجتمعهم ثانياً، عندما حولوا مسألة تغيير المُنكر إلى وسيلة للإيذاء فتجاوزوا هذه المراحل الشرعية واجبة التنفيذ وانطلقوا بدعوى التصدي للمُنكرات في مُمارسة أشكال من المُخالفات عانى منها الجميع أضرت بهم وأساءت لفرض شرعي في مفهوم الناس والمُجتمع، وبدلاً من أن يكون عملهم وسيلة لجذب القلوب إلى الحق وتشجيعاً للمُجتمع على أن يكون إيجابياً تجاه الخلل مُشاركاً بصدق في تصحيحهِ تحولت الحسبة إلى عمليات ثأرية وفتن وتجاوُزات وصدامات أفسدت في كثير من الأحيان أكثر مما أصلحت".

لقد أدى جمود الفكر وتكلسه إلى خلق حالة من المأزومية في الواقع الحركي عجز عن ابتكار الحلول المُمكنة للتعامُل مع بطش السُلطة وتغولها فلجأ إلى الحل الأسهل والأنجز وهو الإلتجاء للسلاح وإنشاء التنظيمات المُسلحة ثم اللجوء إلى التنظير لها ولكُل الأعمال التي لجأت إليها.

والأخطر من كُل ذلك توقف حركة التجديد والمُراجعة إلى فترة زمنية قريبة خوفاً ووجلاً من الإقتراب من مفاهيم مُرتبطة بزمانها فيما يختص بطُرق التغيير ووسائله والتي ارتبطت ارتباطاً كبيراً بين التغيير والخروج على الحُكام وخلعهِم بالقوة واستخدام السلاح وهى ذات المفاهيم التي ظلت مُتداولة حتى بعد إنشاء الدولة الحديثة وخلق الطُرق والوسائل الدستورية والقانونية لخلع الحُكام( ).

وهو ما أسماه البعض جدلية النص والتاريخ( ) فمن ناحية ثمة نوعان من المرويات الخاصة بهذا الشأن تقف كُل واحدة منها على طرف النقيض من الأُخرى، ففيما تؤيد بعضها شرعية الخروج على الحاكم الجائر، تنزع الأُخرى نحو النهي عن الخروج خوفاً من وقوع الفتنة والمُطالبة بالصبر والطاعة ولزوم الجماعة.

ومن الأحاديث الناهية عن الخروج الآمرة بالطاعة قوله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع الإمام فقد أطاعني". وما روي عن "حُذيفة" أنهُ قال: "ليس من السُنة أن تُشهِر السلاح على إمامك"، وأيضاً ما روي عن "أنس بن مالك" أنهُ قال: "أمرنا كُبراؤنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن لا نسبّ أمراءنا ولا نغشهم، وأن نتقي الله ونصبر"، وكذلك ما روي عن "الحسن البصري" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الوُلاة فإنهم إن أحسنوا كان لهم الأجر وعليكُم الشُكر، وإن أساءوا فعليهِم الوزر وعليكُم الصبر، وإنما هُم نعمة ينتقم الله بهِم ممن يشاء؛ فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية والغضب، واستقبلوها بالإستكانة والتضرع".

وعلى الجانب الآخر نجد أحاديث مؤيدة للخروج على الحاكم، كقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سُلطان جائر"، و"من رأى منكم منكراً فليُغيره بيدهِ فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبهِ وذلك أضعف الإيمان"، و"أفضل الشُهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله على ذلك"... إلخ.

تعكس أحاديث المجموعتين موقفين مُختلفين من السُلطة، وتبعاً لذلك كان الفُقهاء والعُلماء يَنحازون إلى هذا الجانب أو ذاك، حيثُ انتظم في خط المُقاومة فصائل المُعارضة من الشيعة والخوارج و"أبو حنيفة" و"الثوري" و"سعيد بن جُبير". فيما كان أغلب الفُقهاء، وبخاصة ما بعد العصر الأموي، يميلون إلى عدم تأييد الخروج على الحاكم. وأوضح مثال على ذلك "الحسن البصري" والذي رغم إدانته المُعلنة لمُمارسات الحُجاج ووصفهِ إياه بأفسق الفاسقين، إلا أنهُ عندما سُئِل عن حُكم الخروج على الحاكم قال لسائليه: اتقوا الله وتوبوا إليهِ يكفكم جوره، وأعلموا أن عند الله حجاجين كثيراً !!

ومع أن الأحاديث السابقة، بجانبيها، لا تؤسس حكما فقهيا بالدرجة الأولى بقدر ما توضح أمرا عاما، فإن بعض الفقهاء أحالوا تأويلاتهم لها إلى حكم فقهي قطعي الثبوت والدلالة، فحين سئل أحمد بن حنبل، على سبيل المثال، عن حكم الخلافة بالغلبة أجاب: "ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه، برا كان أو فاجرا". ويبدو واضحا أن قوله "لا يحل" يحيل إلى حكم شرعي بتحريم وتأثيم، ليس فقط الخروج على الحاكم، وإنما أن يبيت المرء ليله دون أن يرى فيمن وصل إلى الحكم بغلبة السيف "أميرا للمؤمنين"!!، أي حرمة أن ينفي المرء عن الحكومة المغتصِبة صفة الشرعية ناهيك عن أن يدعو للخروج عليها. هنا يخرج الفقيه عن إطار التأريخ لحادثة ما أو تقديم فتوى غير ملزمة لغيره نحو تأطير مبدأ عام وتنظير نظرية وتأصيل حكم شرعي يتسم بالتأبيد والدوام.

وفي السياق ذاته، نقرأ في أحد الأحاديث الواردة بالبُخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه " إنكم سترون أثرة وأموراً تنكرونها، قالوا: فما تأمُرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم" !! مما يعني أن حق الأُمراء مُعجل ولابُد من أدائهِ في الدنيا، فيما حق المحكومين المقهورين مؤجل إلى الآخرة، ومما حدا "ابن حجر العسقلاني" لأن يُفسر الجُملة الأخيرة "وسلوا الله حقكم" بقولهِ: أي سلوا الله أن يلهمهم إنصافكم أو يُبدلكم خيراً منهم !! الأمر الذي يمتنع معهُ المُشاركة في التغيير وحق تقرير المصير. ويبقى ذلك مُعلقاً إما بيد القُدرة الإلهية أو بورع الخليفة وحصول الهداية لهُ، أما الرعية فتبقى دائماً وأبداً خارج المُعادلة السياسية برُمتِها !!

يعكس المثالان السابقان مأسسة "الفتنة" وتوظيفها سياسياُ، والواقع أن توظيف "الفتنة" سياسياً يتجاوز الفقه إلى الأحكام السُلطانية التي كانت تنتهج نهجاً تبريرياً وخطاباً مُجسداً في واقعين: واقع التاريخ وواقع الكلمات؛ وهو ما جعل مفهوم الطاعة يُشكل المبدأ السياسي المُلازم للسُلطة. وعلى جانب الفقه يبدو أن كثرة مُراعاة الفقيه للظروف المُحكمة وهلعهِ من الفتنة أدى بهِ، في النهاية، إلى الخروج عن منطقهِ الأصولي وأفضى إلى جر المقاصد العامة في السياسة الشرعية للإنقلاب إلى عكس مقصودها الأساسي.

والواقع أن محض النظرة المُنتبهة للحجج التي يسوقها الفُقهاء في سياق النهي عن الخروج على الحاكم، تكشف عن مُفارقة قارة فيها لم ينتبه لها الكثيرون. ذلك أن المُحصلة النهائية لهذه الحجج تؤدي إلى أبدية القناعة التامة بأن الخروج منهي عنهُ ليس فقط بسبب ما يئول إليه، أي الفتنة أو الحرب الأهلية، ولكنهُ منهي عنهِ لأنهُ فتنة بحد ذاته !! ولا أدل على ذلك من أن الجنيد "البُغدادي" كان يرى أن الخروج على الأئمة من فعل الجهلة الفاسقين. فلماذا يرتبط الخروج على الحاكم بالحديث عن الفتنة ؟ وهل المُشكلة تتعلق بالميل إلى أحد الجانبين من الإستدلالات النقلية وتأويل الأُخرى، أم تتعلق بإصدار الحُكم مُراعاة للظرف التاريخي الذي قيلت فيه ؟ ولماذا، حتى على المُستوى التدويني، يتم الربط بين الخروج والفتنة كما فعل البُخاري في إدراجهِ الأحاديث الواردة بهذا الشأن ضمن كتاب الفتن ؟!

وأيضاً: ما المقصود بالكُفر البواح، هل هو إعلان الكُفر والخروج عن الشريعة الإسلامية فقط ؟ وهل يُعد خروج الحاكم حالياً عن الدستور وحُكم القانون كُفراً بواحاً هو الآخر؟! وما معنى قول "ابن تيمية" في كتابهِ منهاج السُنة: "إن الخروج على أئمة الجور كان مذهباً قديماً لأهل السُنة، ثُم استقر الإجماع على المنع منهِ" ؟!! ألم يكُن المذهب القديم إجماعاً في المُقابل لا يجوز الخروج عنه ؟! وهل المُراجعات الحالية، يُمكن توصيفها بأنها مُراجعات جهاد رغم وصفها لحوادث العُنف التي ارتكبتها بالجهاد، مع أنها كانت محض افتئات على السُلطة وعدواناً على المجتمع، ومن ثم هل يجب مُناقشتها بإعتبارها "فتنة" ؟!

تؤكد الوثيقة الحالية أنه لا يجوز الخروج على الحاكم إلا في حالة واحدة وهي كُفر السُلطان، مُدللة على ذلك بالحديث المرفوع إلى النبي عن عبادة بن الصامت وفيه (وأن لا نُنازع الأمر أهله... إلا أن تروا كُفراً بواحاً عندكم من الله فيه بُرهان( أغلب الظن أن الآثار الكثيرة الواردة في سياق استفظاع العُنف الداخلي ومُحاولة وضع الفتنة في مُقابل الطاعة ووسم الخروج على الحاكم الجائر بأنه فتنة تعكس مدى فعل السُلطة في التاريخ. وسواء أخذت هذه المُراجعات انتفاء القُدرة والكفاءة حالياً في حُسبانها، أو قرأت النص حسب تركيبتها الأولى لمّا كانت تتبنى العُنف عقيدة وشريعة ومنهاجاً للتغيير، فإن كلتا القراءتين منقوصة وبحاجة إلى مُراجعة ثالثة، أو بالأحرى قراءة ثالثة تأخُذ في حُسبانها حق الأمة في الخروج على الحاكم الجائر وتوسُع من الأسباب المؤدية لذلك بدل اقتصارها على العامل الديني فقط، وفي الوقت ذاته، تؤطر لثقافة اللاعُنف في المُجتمع دونما توظيفهِ سياسيا.

كلتا القراءتين إذاً بحاجة إلى موقف ثالث (وسط)؛ لأن إطلاق الخروج على الحاكم بدعوى أنهُ جائر أمر نسبي ومن السهل أن يوظف سياسياً مثلما تم توظيف النهي عن الخروج في المُقابل. وأيضاً التأكيد على النهي عن الخروج أمر يحول دون حق الرعية في مُساءلة الحاكم حال مُخالفتهِ الشرعية الدستورية. ونحن لا نميل لا إلى هذه القراءة ولا إلى تلك، وإنما إلى تبني موقف وسط بينهما.

والموقف الوسط ببساطة شديدة يؤكد مبدئياً حق الأُمة في الخروج ويوسع من دائرتهِ ليضُم إلى جانب الخروج عن الشريعة الخروج عن الشرعية، ولكنهُ في المُقابل يضع من الآليات والوسائل ما يحول دون الوصول إلى "الفتنة" من خلال التأكيد على ضرورة احترام الشرعية الدستورية في إطار العمل السياسي والاجتماعي العام، وتفعيل الآليات الدستورية الحاكمة لعلاقة الحاكم بالرعية. ومثل هذا الموقف الوسط ما بين الخنوع والعُنف من شأنهِ أن يُعيد مُراجعة إشكالية "الفتنة" وفق منظور مُختلف يضمن حق الرعية، ويحول في الوقت نفسهِ دون الوقوع في "الفتنة".

وكما يقول الدكتور "أحمد كمال أبو المجد" شارحاً طبيعة الموقف الذي يواجه به من يُنادي بالتجديد في الفكر الإسلامي( ):

"لا يكاد صوت يرتفع اليوم مُنادياً بالتجديد في الفكر الإسلامي، شاكياً من الجمود والإنغلاق، مُناقشاً في ذلك أقوال العُلماء من السلف أو من المُعاصرين، أو داعياً إلى مُراعاة ظروف الزمان والمكان، حتى تتناوشه من كُل جانب صيحات المُحذرين والمُنذرين، يذكرون بالمزالق والمخاوف والمحاذير، ويؤكدون أن الدعوة إلى التجديد مدخل لإسقاط الإلتزام بالشريعة، وباب شر ينفُذ منه الحريصون على تمييع حقيقة الإسلام، وإذابة جوهرهِ في جوهر حضارات وثقافات مُناقضة لأصوله، مُعارضة لمبادئهِ. ويتجاوز بعض هؤلاء حدود هذا التذكير، مُطالبين بالكف عن نقد أوضاع المُسلمين في وقت يحتاج فيه الإسلام إلى مُدافعين عنه في وجه موجات الإلحاد والشك والمذاهب الوافدة، أكثر من حاجته إلى الناقدين، الذين يأخُذهِم الحماس أحياناً فيشتدون في النقد، ويحتدون شدة وحدة، يستفيد بهما خصوم الإسلام، الحريصون على توهين سُلطانه على النفوس، وصرف الناس عن مبادئهِ."

هذه المحاذير التي أشار إليها "د.كمال أبو المجد" وقفت كعقبة كأداء أمام مُمارسة النقد والمُراجعة للأفكار المُتداولة والمطروحة لعقود طويلة وخاصة عملية المُراجعات التي تتم من داخل الحركة الإسلامية ذاتها وأدت إلى انفصام نكد بين الفكر والحركة.

**************************
هوامش
1- الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ ط دار الدعوة 1/287 وما بعدها .
2- السابق.
3- د./ عبد العظيم رمضان الإخوان المسامون والتنظيم السرى ص 42 .
4- السابق ص 84.
5- راجع جيهان السادات امرأة من مصر .
6- كما حدث مع ماجد العطيفى الذى قتل أثناء سيره فى شارع الجلاء وسط القاهرة وكان ذلك حوالى عام 88 والجدير بالذكر أن ماجد كان ينتمى لتنظيم الجهاد المصرى .
7- يعتقد كاتب هذه الدراسة أن حادثة كوبرى الفردوس وإن لم تكن السبب الأوحد فى عزل زكى بدر من منصبه إلا أنها تعتبر السبب الأبرز فى جملة أسباب أخرى أدت إلى عزله إذ شعرت الدولة أن بقاء بدر فى منصبه سيؤدى إلى تصعيد عمليات العنف والتى ظهرت جلياً فى استخدام السيارات المفخخة وهى أدوات للعنف لم تستعمل فى مصر قبل ذلك .
8- فرانسوا بورجا الإسلام السياسى صوت الجنوب ترجمة د./ لورين ذكرى ط . دار العالم الثالث 2001 ص 71 .
9- عبد المنعم منيب . خريطة الحركات الإسلامية.
10- العيفة سالمى ، التجديد بين الفكر والحركة حالة الانتظار .. ومسارات الفعل المتراكم.
11-على الشريف وأسامة حافظ ومراجعة آخرين ، النصح والتبيين فى تصحيح مفاهيم المحتسبين ضمن سلسلة تصحيح المفاهيم ، ط مكتبة التراث الإسلامى ص 157 – 158.
12- يجب أن نعترف أن هذه الطرق الدستورية والقانونية ظلت معطلة فى بلادنا بفعل القبضة الحديدية للدولة البوليسية حتى قيام ثورة 25 يناير .
13- فتنة الخروج والخروج إلى الفتنة .. بحث منشور على موقع إسلام أون لاين بدون مؤلف
14- مقال له بعنوان " التجديد فى الإسلام " نشر فى أغسطس 1977 م .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.