إن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكون الرجل قائما على الأسرة، وحاميا لها، وهذا يستلزم أن يكون لكل منهما حقوق وواجبات، وقد ذكرنا أهمها فيما سبق، منها: أن للزوج على زوجته أن لا تكون ناشزا عاصية له ما لم يأمرها بمعصية الله؛ أو بأمر مستحيل لا قدرة لها عليه، فإذا نشزت الزوجة وخرجت عن طاعة زوجها؛ فإن الشريعة الغراء أعطت له حق التأديب، وذلك باستخدام مجموعة من الوسائل التربوية عبر مراحل، على عكس الذين يلجؤون إلى أسلوب العنف لعلاج نشوز الزوجة فيفشلون في أول وهلة، ويلجأ الآخرون إلى أسلوب الرأفة والحنان والرفق بديمومة واستمرار؛ لكن سرعان ما يتطاول عليهم المنحرفون. أما أولو الألباب فيلجؤون إلى العلاج القرآني ويستخدمونه عبر المراحل التي حددها وبذلك يسلمون وينجحون في مهمتهم. إذاً فالتأديب حق للرجل، فمن مقتضى الزوجية قيام الرجل على المرأة بالحفظ والصون والتأديب لإصلاح الأخلاق([1])، وللتأديب حد أدنى، وهو الوعظ والإرشاد، وحد أعلى، وهو الضرب غير المبرح أي: يردع ولا يوجع، وحد أوسط وهو الإعراض والهجر، وذلك ليختار الزوج منها ما يكون مناسبا لعلاج زوجته ([2]). وهذا ما أشارت إليه الآية القرآنية، قال تعالى:} وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً * وإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً {([3]). فالآية الكريمة أرشدت إلى استخدام وسائل التأديب لعلاج نشوز الزوجة وجعلتها على مراحل ثلاث: الأولى: الموعظة، الثانية: الهجر في المضجع والثالثة الضرب غير المبرح، أما الرابعة الإصلاح. وننبه هنا على أنه لا ينبغي للزوج أن يأخذها بالظن ويتهمها بالنشوز بمجرد تحسس وتوجس؛ بل حتى يظهر له من تصرفها ما به يعلم أنها ناشز([4]). وبعد هذا نسلط بعض الأضواء على هذه المراحل الأربع لنكون على بينة من أمرنا: المرحلة الأولى: الوعظ: والوعظ يكون باللين والرفق والرحمة والحكمة، حيث يذكرها بالله تعالى وبما أوجبه عليها من طاعة زوجها وعدم مخالفتها له في طاعة الله ويخوفها ويرهبها بعاقبة عصيان الزوج دنيا وأخرى، كما يرغبها في ثواب الله الذي أعطاه للطائعات الحافظات للغيب، عسى أن تؤثر فيها هذه الموعظة إن كان لها قلب أو ألقت السمع وتحل المشكلة العويصة ويضمد الجرح، ولا يجوز عندئذ هجرها ولا ضربها مصداقا لقوله تعالى: } فإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً {. فإن لم يؤثر فيها هذا الكلام والوعظ فإنه يلجأ إلى المرحلة الثانية من العلاج القرآني. المرحلة الثانية: الهجر في المضجع. فبعد الموعظة الحسنة التي لم تؤت ثمارها، جاء دور الهجر: فيهجرها ما شاء، والكلام فيما دون ثلاثة أيام([5])، لأنه يحرم على المسلم أن يهجر أخاه في ذاك الأجل، وهذا بين الزوجين أحرى. وقيل يخوفها بالهجر أولا؛ أو الاعتزال عنها وترك الجماع والمضاجعة فإن تركت وإلا هجرها لعل نفسها لا تحتمل الهجر، ثم اختلف في كيفية الهجر قيل يهجرها بأن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراشه وقيل يهجرها بأن لا يكلمها حال مضاجعته إياها لا أن يترك جماعها ومضاجعتها لأن ذلك حق مشترك بينهما فيكون في ذلك عليه من الضرر ما عليها فلا يؤدبها بما يضر بنفسه ويترك حقه وقيل يهجرها بأن يفارقها في المضجع ويضاجع أخرى في حقها وقسمها إن كان له أكثر من واحدة. وقيل يهجرها بترك مضاجعتها وجماعها لوقت غلبة شهوتها وحاجتها لا في وقت حاجته إليها فإذا هجرها فإن تركت النشوز وإلا ضربها عند ذلك ضربا غير مبرح ولا شائن..([6]). وقوله: "... بترك مضاجعتها..." نرى أن الزوجة قد يكون نشوزها بعدم الاستجابة لزوجها إذا دعاها إلى الفراش. يقول ابن العربي المالكي- رحمه الله-: فالذي قال: يوليها ظهره جعل المضجع ظرفا للهجر، فأخذ القول على أظهر الظاهر، وهو حبر الأمة، وهو حمل الأمر على الأقل، وهي مسألة عظيمة من الأصول. والذي قال: يهجرها في الكلام حمل الأمر على الأكثر الموفي، فقال: لا يكلمها ولا يضاجعها، ويكون هذا القول كما يقول: اهجره في الله، وهذا هو أصل مالك وقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال في تفسير الآية: بلغنا أن ابن عبد العزيز كان له نساء فكان يغاضب بعضهن، فإذا كانت ليلتها يفرش في حجرتها وتبيت هي في بيتها، فقلت لمالك: وذلك له واسع قال: نعم، وذلك في كتاب الله تعالى: " وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ". والذي قال: لا يكلمها وإن وطئها فصرفه نظره إلى أن جعل الأقل في الكلام، وإذا وقع الجماع فترك الكلام سخافة، هذا وهو الراوي عن ابن عباس ما تقدم من قوله. والذي قال: يكلمها بكلام فيه غلظ إذا دعاها إلى المضجع جعله من باب ما لا ينبغي من القول. وهذا ضعيف من القول في الرأي، فإن الله سبحانه رفع التثريب عن الأمة إذا زنت وهو العتاب بالقول، فكيف مع ذلك بالغلظة على الحرة([7]). أما إذا فشلت هذه الوسيلة، فالكارثة على الأبواب. - المرحلة الثالثة: الضرب: عن سليمان بن عمرو بن الأحوص قال: حدثني أبي، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ، فذكر في الحديث قصة فقال(استوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. ألا إن لكم على نسائكم حقا. ولنسائكم عليكم حقا. فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)([8].) والشاهد عندنا قوله صلى عليه وسلم : "واضربوهن ضربا غير مبرح"، إذن فالضرب مشروط بأن يكون غير مبرح، ويحرم على الزوج أن يسيل دم زوجته أو يكسر عظمها أو يخدش وجهها.. لأن الوجه أشد حساسية "لأنه لطيف يجمع المحاسن وأعضاؤه لطيفة نفيسة وأكثر الإدراك بها فقد يبطلها ضرب الوجه أو ينقصها أو يشوه الوجه، والشين فيه فاحش لأنه بارز ظاهر لا يمكن ستره. وضرب الوجه لا يسلم من شين غالبا. ويدخل في هذا النهي ضرب الزوجة والأولاد ضرب التأديب . من هذا العرض يتبين أن الضرب لا يجوز أن يكون مبرحا، إذ لم يجز أن ينهمر الدم في شيء من التأديب لأنه من أسباب التلف، والتأديب يراد به التقويم والحمل على الطاعة. وبتوافر هذه الضوابط يكون الضرب مباحا([9]). أما إذا رجعت المرأة عن نشوزها بعد الضرب، وأطاعت زوجها، في غير معصية الله فلا سبيل له عليها لقوله تعالى:} فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً{ ([10])، أما إذا أصرت على نشوزها، فليجأ إلى المرحلة الأخيرة. المرحلة الرابعة: الصلح وتأتي هذه المرحلة بعد فشل كل المراحل السابقة، وهذه المرحلة تقتضي حَكَمَيْنِ يعينهما القاضي ليحاولا إصلاح ما فسد، قال ابن جزي - رحمه الله-: فيبعث حكمان من جهة الحاكم أو من جهة الزوجين أو من يلي عليهما لينظرا في أمرهما، وينفذ تصرفهما في أمرهما، بما رأياه من تطليق أو خلع من غير إذن الزوج ولا موافقة الحاكم. ذلك بعد أن يعجزا عن الإصلاح بينهما. وإذا حكما بالفراق فهي طلقة بائنة([11]). قال تعالى:} فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا{، أي: رجلا يصلح للحكومة والإصلاح بينهما. لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح ونفوس الزوجين أسكن إليهما فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة، ويخلو كل حكم منهما بصاحبه ويفهم مراده، ولا يخفي حكم عن حكم شيئا إذا اجتمعا([12]). قال الإمام مالك رحمه الله: أن الحكمين يجوز قولهما بين الرجل وامرأته، في الفرقة والاجتماع([13]). فإن توصلا إلى الأفق المسدود وتعذر الإصلاح تم اللجوء إلى التفريق بينهما. المصدر: موقع الفقه اليوم