دعا مفتى الجمهورية الدكتور شوقي علام، إلى تكاتف الجهود لمواجهة الخطر الداهم الذي يتمثل في انتشار التنظيمات الإرهابية المتطرفة، وإشعال فتيل الأزمات الطائفية بين أبناء الوطن الواحد، والتمهيد للحروب الأهلية المستعرة التي لا تبقي ولا تذر وتعمل على شرذمة الشعوب وتفتيت الأوطان. كما طالب المفتي بالتكاتف لوأد هذه الفتن وإخماد تلك النيران التي تهدد سلامة الأوطان، مشيرا إلى أن تهديد الوحدة الوطنية هو تهديد للأمن والاستقرار الذي تنعم به شعوبنا العربية والإسلامية، وأن إلقاء نظرة عابرة على العالم من حولنا لكفيلة بأن توضح لنا تماما ما تفعله الطائفية الدينية أو العرقية بالشعوب، وكيف استهان البعض بقضية الحفاظ على وحدته الوطنية حتى خاض في غمار فتنة الطائفية، فتمزقت الأوطان وهددت الأديان وشردت الشعوب وفرض العنف والتشدد ووجدت جماعات الإرهاب فسحة من الوقت لتنشر ما تريد من دمار وخراب. جاء ذلك في كلمة للمفتي اليوم /الثلاثاء/ أمام مؤتمر "دور المؤسسات الدينية الرسمية في تعزيز عمليات السلام والحوار"، والذي نظمته دار الفتوى اللبنانية، بالتعاون مع مؤسسة بيرجهوف الألمانية، بحضور مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، ومفتي المملكة الأردنية الهاشمية الدكتور الشيخ محمد الخلايلة، وكيل الأزهر الشريف الدكتور الشيخ عباس شومان، وممثل مؤسسة بيرجهوف في لبنان فراس خير الله، وشخصيات دينية وفكرية وعلمية، بالإضافة إلى عمار حوري ممثلا لرئيس مجلس الوزراء اللبناني سعد الحريري والرئيس فؤاد السنيورة، وممثلين عن الطوائف الإسلامية وسفراء ووزراء ونواب وحشد من الشخصيات. واستعرض علام معالم التجربة المصرية التي حافظت على وحدة الشعب المصري وسلامة أراضيه، على الرغم من كثرة المخططات الإرهابية الفاشلة التي حاولت النيل من سلامة مصر عبر التاريخ، مضيفا "لا يعرف وجدان الشخصية المصرية وسماتها أي مظهر من مظاهر التباين الطائفي والجنوح إلى العنف والعدوان، لأنها شخصية تتميز بالسماحة واحترام الخصوصيات الثقافية والحضارية عبر التاريخ، ولذا كانت مصر صاحبة أعمق تجربة تاريخية ناجحة في التعايش والمشاركة في الوطن الواحد بين أصحاب الأديان المختلفة". ". وأشار إلى أن مصر كغيرها من الدول لم تسلم من التحديات الصعبة، حيث دخلت إلى مصر المعاصرة أفكار كثيرة وافدة شاذة، خرجت من رحم التطرف تحصر الدين في آراء وأفكار محددة تتكون من نسق محدد من الفروع الفقهية، وتلبسه ثوب الفكر الاعتقادي، مما سهل وجود العنف اللفظي والفكري متمثلا في ظاهرة التكفير التي انتشرت بين الشباب في هذه الأيام، وتطور الأمر، وانتشر العنف في مصر في مرحلة الثمانينات والتسعينات متمثلا في بعض الاغتيالات، وحمل السلاح، ومحاولة صبغ الحياة المصرية بنوع معين من التدين لم ولن يألفه المصريون ولو بقوة السلاح. وأضاف "في الحقيقة، لم يلق ولن يلق هذا النوع من الفكر أي تعاطف من جموع المصريين؛ وظل هذا الفكر ظاهرة شاذة تؤكد أن القاعدة العظمى من المصريين تميل إلى التسامح والوسطية"، متابعا "لقد خرجت فتاوى شاذة تؤجج نار الفتن الطائفية، وتمنع بناء الكنائس وتحرم تهنئة المسيحيين بأعيادهم، بل وتعمل على استباحة دمائهم وأموالهم، وتعمل على التفريق بين شقي ومكوني الوطن الواحد بين مسلم ومسيحي، لكن وعي الشعب المصري المستمد من الموروث والمخزون الحضاري المتسامح لم يستجب لتلك النعرات الطائفية، وإن الجهود التي بذلتها دار الإفتاء المصرية في الرد على تلك الفتاوى الشاذة ساعد كثيرا على تفويت الفرصة على تلك المحاولات"، مؤكدا أن المحافظة على المكونات الأساسية للأوطان ونشر السلام والوئام بين مكونات الأمة والوطن هو طوق النجاة الذي يعمل على رأب الصدع ونشر الأمن والسلام. وطالب المفتي بالمزيد من نشر أسباب المحبة والمودة والتعايش بين أفراد الوطن الواحد، مع إقرار كل على دينه وما يعتقد، ومواجهة أي أفكار وافدة تعكر صفو هذا التعايش وتعمل على تمزيق الوطن من جانبه، قال مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، إن المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق العلماء والقادة الدينيين هي إظهار الصورة الحقيقية لثقافة الإسلام في العالم، التي هي أصل من أصول ديننا الإسلامي، القائم على الرحمة والعفو مشيرا إلى أن القادة الدينيين في المؤسسات الدينية الرسمية، عليهم واجب كبير في نشر ثقافة الحوار والسلام، ومواجهة الصعوبات والتحديات التي تهدد مسار البشرية، لأن ثقافة الحوار والسلام، هي ثقافة الإنسانية، فلا استمرار لهذا النسل البشري، الذي أمرنا الله عز وجل، أن نحافظ عليه، من خلال عمارة الأرض، إلا بنشر ثقافة الحوار والسلام. وأوضح المفتي دريان - في كلمته أمام مؤتمر "دور المؤسسات الدينية الرسمية في تعزيز عمليات السلام والحوار" أنه "يجب علينا كعلماء التفكير بالمستقبل القريب والمتوسط على الأقل، حيث يكون علينا نحن العاملين في المؤسسات الدينية الرسمية أن نتحمل مسؤوليات جساما في استعادة الزمام، في تدبير شأن الإسلام والمسلمين، وفي تعزيز قيم التسامح والحوار والسلام في مجتمعاتنا المتنوعة والمتعددة، وفي تعزيز قيم الاعتدال والوسطية، التي هي في حقيقتها تعاليم ديننا الإسلامي، القائم على الرحمة واليسر، والأخلاق والمحبة والعدل". وأكد دريان أن الإسلام دين خير ورحمة، وعدل ومحبة، وتحاور وتعاون وإيثار، ومن يتهم الإسلام بالإرهاب فاتهامه مردود عليه مشيرا إلى أن المسلمين في لبنان يقدرون حرية الرأي، ونعترف بالآخر ونحترمه، ونرفض أن يوصف الإسلام بالإرهاب والتطرف، وهو الدين الذي يأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. إن سماحة الإسلام ينطق بها كتاب الله، وتتجلى في السيرة العطرة، ولا ينكرها إلا كل متجن مفتر، وسنبقى ندعو إلى الكلمة السواء، وإلى الحوار، لأننا أمة وسط، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: وكذلك جعلناكم أمة وسطا". وأضاف أن "السلام ليس بكثرة المال ولا النفوذ، ولا القوة المفرطة، إنما السلام بالحب والعدل والرحمة والشفقة، واستشعار حاجات المقهورين والمظلومين من الشعوب المغتصبة حقوقهم وأراضيهم. إن لم تكن وليدة العدالة الاجتماعية، والتآخي الإنساني، والسلام بين البشر". وتابع "أن مهامنا نحن العلماء، مهددة كلها، بسبب دعوات التطرف والتكفير، والعدوان على الدين والأوطان. وعلينا نحن، إلى جانب مكافحة التطرف بعرض المفاهيم الصحيحة ورد الدعوات الفاحشة على أعقابها، أن نقدم صورة أخرى، أو بدائل صالحة للمستقبل القريب والمتوسط، لهذه المهام الأربع، التي جرى التجاوز فيها وعليها وحدة العبادات، بحيث يظل المسلمون يصلون معا، ويمتنع الاعتزال والتكفير". وأضاف أن "الخطر يواجه أدياننا وأوطاننا، وهو خطر لا يفيد في مواجهته التعلل بأي عذر، ولا الاكتفاء بأي شكوى، بل ولا يفيد فيه اتهام المؤامرة والمتآمرين، ولا السياسات الدولية، فالقتل المستشري في مجتمعاتنا، والذي تمارسه جماعات الفساد والإفساد، لا يرضاه عقل ولا دين"، مشيرا إلى أن الأيام الأخيرة، شهدت أحداثا هائلة في مصر وسوريا، ففي مصر جرى الهجوم الإرهابي على كنيستي مدينتي طنطا والإسكندرية أزهقت فيهما أرواح عشرات المصلين المسيحيين، ولا مبرر إلا الكراهية والإجرام، وخراب الدين والوطن، وإنسانية الإنسان، وفي سوريا، وبعد ست سنوات على حرب بل حروب مدمرة، يقتل المئات في هجمات بالكيماوي، ثم في تفجيرات بقافلة تنقل مهجرين معذبين إلى مواطن عذاب جديدة". بدوره، قال مفتي المملكة الأردنية الهاشمية الدكتور الشيخ محمد الخلايلة، إن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى لم شملها وتوحيد كلمتها في مواجهة الأخطار والآفات التي تهدد كيانها ووجودها، ومنها آفة تشويه صورة الإسلام المشرقة، من خلال ما تواجهه من نشر للأفكار المتطرفة من قبل خوارج العصر الذين شوهوا صورة الإسلام واستباحوا الأعراض وسفكوا الدماء باسم الدين وهو منهم بريء. وأوضح أن معظم ما يحدث اليوم في أوطاننا من فوضى وسفك للدماء ساهم فيه بعض من يتصدى للخطاب الإسلامي دون أن يكون لديه تصور كامل عن هذا الأمر وما يحتف به من ظروف وملابسات وما يترتب عليه من نتائج ومآلات. وأضاف أن "الواقع الذي تعيشه الأمة اليوم في باطنه وحقيقته يختلف عن ظاهره، وإن الحكم على الظاهر دون نظر إلى بواطن الأمور وحقيقة الأشياء سينتهي إلى انحراف فكري يؤدي إلى واقع مناقض للمقاصد والغايات التي أرادها الشارع من الأحكام الشرعية والتي تتمثل بتحقيق مصالح الأمة ورقيها وبناء حضارتها". وأكد أن الواجب الشرعي يحتم علينا كمؤسسات دينية أن نبين للناس أن الإسلام دين الله تعالى الذي ارتضاه للناس كافة، خاتما للشرائع السماوية متمما به مكارم الأخلاق، مراعيا به فطرة الإنسان وكرامته على هذه الأرض، وهو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار مضيفا أننا بحاجة إلى فهم صحيح للإسلام ومن شأن الفهم الصحيح أن يمهد لأمتنا طريقا للتغلب على عللها وأدوائها، وأن يمهد لها طريقا لنهضتها وعزتها، وهذا هو دور المؤسسات الدينية في بلادنا. وتابع بالقول "نحن في المملكة الأردنية الهاشمية أدركنا منذ سنوات طويلة فداحة الثمن الذي تدفعه أمتنا وشعوبنا بسبب هذا التطرف والعنف الذي تسلل إلينا من نواح عديدة، وحذرنا منه، فانطلقنا لمصارحة الأمة والعالم بخطر هذه الانحرافات والجرائم التي ترتكب باسم الدين، ودعونا إلى الحوار بين أتباع المذاهب الإسلامية، وإلى الحوار بين أتباع الأديان، لتوضيح صورة الإسلام والتعريف بمقاصد الدين القائمة على الاعتدال والسماحة، عندما أطلق جلالة الملك عبد الله الثاني رسالة عمان، وكما أطلقت المملكة مبادرة كلمة سواء، وأسبوع الوئام العالمي بين الأديان الذي أقرته الأممالمتحدة". وأشار إلى "أن المؤسسات الدينية في الأردن كدائرة الإفتاء العام ووزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، ودائرة قاضي القضاة، قامت بمساهمة كبيرة وفاعلة في نشر الوعي المجتمعي وحث الناس على الابتعاد عن الغلو والتطرف بالدعوة إلى الإسلام بصورته المشرقة، الإسلام الذي يدعو إلى حقن الدماء وحب الأوطان، وتضافر الجهود للمساهمة في بناء مجتمع إنساني متميز؛ يقوم على مراعاة حقوق الإنسان بصفته الإنسانية، وبيان حقيقة المقاصد الشرعية، مما يساهم في تنمية شاملة وحقيقة؛ وقد تم التأكيد في الأردن على أهمية التنمية الشاملة في بناء الحضارات الإنسانية، وضرورة التلاؤم مع متطلبات الفكر، وتحقيق التقارب بين الاتجاهات الفكرية والمذهبية؛ للارتقاء بالإنسان إلى المستوى اللائق؛ والدعوة إلى الإصلاح الشامل، والعمل المؤسسي دون إفراط أو تفريط، بوسطية وعقلانية وحكمة مدروسة مؤداها الخير والنفع، وتحقيق الأمن والاستقرار الشامل بعيدا عن العنف والتطرف والصراعات المدمرة".