تبقى الأزمة الاقتصادية في مصر ومحاولات حلها والتعامل معها صداعا في رأس المواطن والحكومة على حد سواء، فكل ما تتخذه الأخيرة من خطوات وقرارات تؤثر بشكل بالغ على الأفراد ويبقى أملهم في أن تنفرج الأزمة وتنجح السلطة في الخروج من الكبوة الاقتصادية التي ألمت بمصر على مدار سنوات عدة مضت وربما مقبلة. تستعرض شبكة الإعلام العربية "محيط" في هذا التقرير نماذج لثلاث دول مرت بظروف عصيبة ونجحت في تنفيذ برامج تنموية أثرت إيجابيا على وضعها الاقتصادي ووضعتها على قائمة الدول الناجحة في تحقيق التنمية المستدامة، وما يمكن أن تستفيده مصر من تلك التجارب. سنغافورة رغم صغر مساحتها إلا أنها نجحت في أقل من أربع عقود بداية من الستينات وحتى مطلع الألفية الحالية في النهوض وتحقيق التنمية لتتحول من بلد فقير يبلغ متوسط دخل الفرد فيه 500 دولار، ليرتفع الآن إلى 70 ألف دولار، ورغم فقرها في الموارد الطبيعية لكنها نجحت في تخطي ذلك العائق ووضع رئيس وزرائها "لي كوان يو" أول خطواتها التنموية. وبعد انسحاب القوات البريطانية من أراضيها وانفصالها عن ماليزيا في مطلع الستينيات كانت سنغافورة في وضع صعب، فبدأ رئيس وزارئها الاهتمام بعدة مجالات وهي السياحة والصناعة والاستثمارات الأجنبية والقطاع المالي، فكانت السياحة هي الطريق الأول لرفع معدلات النمو والدخل ثم الصناعة بإنشاء عدد من المصانع والتركيز على الصناعة التحويلية وتأمين احتياجاتها من الطاقة. وكان رئيس وزراء سنغافورة "لي كوان" قد أقنع البريطانيين قبل رحيلهم عن البلاد بعدم تدمير أحواض سفنهم لتحويلها للاستخدام المدني وبعدها أممت شركات القطاع الخاص التي كانت تعاني من نقص رأس المال والخبرة وحسنت بيئة العمل وفتحت أسواق جديدة وأعادت هيكلة منظومة الاقتصاد. وأسست مجلس التنمية الاقتصادي في الستينيات مما ساهم في بناء الاقتصاد الحديث بإقامة صناعات وطنية مملوكة للدولة دون أن يتم توجيه المجلس أو أي سيطرة حكومية عليه ليتكون فقط من رجال الأعمال والخبراء، وكخطوة تالية بدأت الدولة في جذب الاستثمارات الأجنبية والشركات متعددة الجنسيات فدعمت البنية التحتية لها لتستعوب حجم الاستثمارات المرجة حتى تحولت إلى واحدة من أكبر مصدري الالكترونيات في العالم. واهتم لي كوان أيضا بعنصر هام من عناصر التنمية وهو التعليم وبدأ خطواته الأولى في إيجاد نظام تعليمي متميز وقوي بمحاوره المختلفة المنهج والمعلم والمكان والأسرة والإدارة ثم الطالب وكذلك اهتم بالتعليم الفني والمهني، وعمل أيضا على ترسيخ نظام صحي شامل فمع فرض السياسة الرقابية على الزيادة السكانية لتصبح الزيادة في أعدادهم لا تتجاوز 2% وفرت الرعاية الاجتماعية للسكان. وبعد تحررها من الاحتلال البريطاني كان لازاما على سنغافورة إعادة بناء جيشها فعملت على تسليحه بالأسلحة الأكثر تطورا واستفادت من الخبرات العسكرية الدولية وتولى قيادة القوات المسلحة رئيس الجمهورية مع وجود وزير للدفاع حتى احتلت المركز 64 ضمن أقوى جيوش العالم عام 2016 وفقا لترتيب جلوبال فاير باور. أما عن إمكانية استفادة مصر من التجربة السنغافورية فهناك عدة أوجه للاستفادة وهي أن الاهتمام بالتسليح لا يتعارض مع التنمية، فتوسع سنغافورة في إنفاقها العسكري لم يعق مسيرة التنمية وهو درس محوري لمصر فبعد توسعها في تسليح الجيش من المهم أن يكون هناك توازن بين الإنقا العسكري والاستثمار في مجالات التنمية. والدرس الثاني الذي حددته "فيروز الدولتلي" الباحثة بوحدة الدراسات الاقتصادية في مركز البديل للتخطيط والدراسات الاستراتيجية هو مبدأ التجربة والخطأ في تطبيق السياسات الاقتصادية بمعنى أن سنغافورة جربت العديد من الحلول للأزمات مع إعادة تقييم آثارها والرجوع عنها أو تعديلها إذا لم تحقق النتائج المرجوة وهو ما لا يتم في الداخل المصري بالشكل الفعال. وأشارت إلى ضرورة استغلال المجال الملاحي واللوجيستي مثلما فعلت سنغافورة التي استعادت دورها التاريخي في الربط بين التجارة الدولية من آسيا وأستراليا إلى أوروبا وعلى مصر أن تخرج موانئ قناة السويس من الدور التقليدي لها باعتبارها نقاط مرور فقط لتكون مركز لتحميل الحاويات ومراكز توزيع عالمية، وكذلك إضافة خدمات جديدة، مضيفة أن تحقيق مزيد من العدالة والوفاق الاجتماعي درسا هاما ساعد سنغافورة وكذلك يجب على مصر وباقي دول المنطقة تطبيقه واحتواء التيارات والأعراق المختلفة لتوحيدهم تحت هوية واحدة. ماليزيا وماليزيا كانت لها خطوات هامة في مجال التنمية المستدامة، فتقول الدكتورة نعمت مشهور أستاذة الاقتصاد الإسلامي في كلية التجارة للبنات بجامعة الأزهر، إن هناك مجموعة من العوامل ساعدت على نجاح تجربة ماليزيا في التنمية منها المناخ السياسي لها الذي تميز بتهيئة الظروف الملائمة للإسراع بالتنمية الاقتصادية فضلا عن اتخذا القرارات بعد مفاوضات بين الأحزاب السياسية. وأوضحت أن ماليزيا انتهجت استراتيجية تعتمد على الذات بدرجة كبيرة من خلال الاعتماد على سكان البلاد الأصليين الذين يمثلون الأغلبية المسلمة للسكان، واهتمت أيضا بتحسين المؤشرات الاجتماعية لرأس المال البشري الإسلامي، من خلال تحسين الأحوال المعيشية والتعليمية والصحية للسكان الأصليين، والاعتماد بدرجة كبيرة على الموارد الداخلية في توفير رؤوس الأموال اللازمة لتمويل الاستثمارات. وأضافت أنه ثمة عوامل أخرى شجعت التنمية الماليزية وهي أنها سمحت للاستثمار الأجنبي بالدخول إلى البلاد ولكن بشروط لصالح الاقتصاد الوطني، وهي ألا تنافس السلع التي ينتجها المستثمر الأجنبي الصناعات الوطنية وأن تصدر الشركة 50 % على الأقل من جملة ما تنتجه، وسمحت للشركات الأجنبية التي يصل رأس مالها المدفوع نحو 2 مليون دولار باستقدام خمسة أجانب فقط لشغل بعض الوظائف في الشركة. وقالت إن أهم الدروس المستفادة من التجربة الماليزية، هي الاعتماد على الذات في بناء التجارب التنموية ولن يتحقق هذا إلا في ظل استقرار سياسي واجتماعي، وكذلك تحقيق التنمية البشرية ورفع كفاءة رأس المال البشري مع التوصل إلى اتفاقات تتقاطع فيها دوائر المصالح المختلفة في حال وجود عرقيات مختلفة. جنوب إفريقيا نجحت جنوب إفريقيا في الخروج من دائرة الفقر والعنصرية التي تعيش داخلها عدد كبير من دول القارة السمراء، وأصبحت من الاقتصادات الناشئة لتقود تكتل "الساداك" الاقتصادي وتنضم لمجموعة دول "البريكس" بعد أن عانت من صراعات عنصرية طوال قرون من تاريخها وتبدأ في التسعينيات من القرن الماضي مشوارها التنموي. بدأت حكومة نيلسون مانديلا في تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص بعد أن سيطر البيض على أكثر من نصف دخلها، كذلك وفرت الدولة مبدأ التنوع الثقافي واللغوي في الدستور بتوسيع المجال العام، ودعت لاعتماد 11 لغة رسمية في الدستور لمن لا يتقن اللغتين الإنجليزية والإفريقانية وأضافت 9 لغات محلية لكن التحيز لا زال لصالح الإنجليزية التي لا تزال المحاكم في الولاية الحرة تدار بها رغم أنها تتحدث لغة "سيسوتو". واعتمدت أيضا في تنميتها على زيادة الإنفاق على التعليم كركيزة أساسية للدولة بعد أن حرم أطفالها من التعليم وقصره على البيض بمنحهم تعليما مجانيا ومميزا، وطبقت جنوب إفريقيا نظاما لا مركزيا في التعليم فكل ولاية من ولاياتها التسع تتطبق نظاما تعليميا خاصا بها وتتولى الحكومة المركزية وضع إطار قومي للسياسة التعليمية، ومع ذلك فالأمر لا زال به حالات من الخلل. وتشير الباحثة "فيروز الدولتلي" إلى أن جنوب إفريقيا تعتمد بشكل كبير على القطاع السياحي رغم عدم امتلاكها لحجم آثار مصر لكنها تنجح في ترويج نفسها عالميا وهذا يدفع مصر لإعادة صياغة صورة حضارية جديدة لمصر في الخارج والترويج لما تمتاز به من أصالة وتاريخ فرعوني، مضيفة أن مصر يجب أن تعيد النظر في القطاع الصناعي داخلها بدلا من التركيز على الصناعات الاستهلاكية. وقالت إن عليها أن تبدأ في انتهاج استراتيجيات اكتفاء ذاتي من منتجات صناعية وكيميائية ستوفر لها المخزون الدولاري المستنفذ في عمليات الاستيراد، وأن مصر عليها أن تحقق الوفاق الاجتماعي بعد ما أصاب المجتمع من الاستقطاب على مدار الخمس سنوات الماضية فضلا عن إعادة النظر في حجم التجارة بين البلدين ودراسة سبل العودة للأسواق الإفريقية كما حدث في الستينيات.