رسالة تكشف أجرأ الفتاوى في النصف الأول من القرن العشرين محمد عفيفي : تصلح للدكتوراه وتأليف 3 كتب .. و"ضبط رؤيتها" واجب حورية مجاهد: إضافة هامة يثريها تعميق المنهج والتحليل السيد العشماوي : زمن البحث الدؤوب أوشك على الزوال من الجامعة طارق البشري: أطالب بتخصص تاريخي يربط التشريع بالمجتمع الإفتاء تتأسس تحت هيمنة المحتل .. وتخرج من عبائته باستقلال مصر عمرو عبدالمنعم : فتاوى مصر كانت أكثر استقلالية قبل ثورة يوليو منحت كلية الآداب بجامعة القاهرة درجة الماجستير بامتياز للباحث عمرو عبدالمنعم عن رسالته المعنونة "الفتوى وقضايا المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين" . وقد تكونت لجنة المناقشة من الدكتور السيد عشماوي أستاذ التاريخ الحديث بالكلية مشرفاً، المفكر المستشار طارق البشرى مشرفاً مشاركاً وقد شغل منصب النائب الأول لمجلس الدولة ورئيس قسم الفتوى والتشريع ، كما شارك فى المناقشة الدكتور محمد عفيفي رئيس قسم التاريخ بالكلية وأمين المجلس الأعلى للثقافة الأسبق والدكتورة حورية توفيق مجاهد أستاذ الفكر السياسي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عضواً ورئيساً . وقد حضر المناقشة لفيف من أبرز الصحفيين والكتاب بينهم محمد عبدالقدوس ود. كمال حبيب، وأسرة موقع "محيط" حيث يشغل الباحث رئيس قسم التحقيقات . واجتمعت اللجنة على أن الرسالة تثري مجالها في المكتبة المصرية والعربية من حيث الموضوع ، مثمنين الجهد الهائل الذي استغرق 7 سنوات لإتمامها ، بدأها الباحث بظروف عصيبة وواجه صعوبات حقيقية للحصول على الوثائق من مصادرها الأصلية بالمؤسسات الدينية وقد تزامن ذلك مع ثورة يناير التي شهدتها البلاد. كما تطلب موضوع الرسالة مطالعة دقيقة لمئات المراجع والدراسات، وقد أوصت اللجنة بضرورة ضبط بعض إشكالاتها المنهجية وتعميق رؤيتها التحليلية من منظور تاريخي لعلاقة الفتوى بالمجتمع. الرسالة تتضمن قضية الإفتاء في الدين و"التوقيع عن رب العالمين"، والتي ما تزال تثير جدلاً واسعاً منذ سنوات تاريخية بعيدة وتشغل اهتمام خاصة المسلمين وعامتهم وما ذلك إلا لمساسها جانباً مهماً من جوانب الحياة اليومية الاجتماعية والاقتصادية وما يتعلق بعلاقة الإنسان بربه وعلاقته بغيره وتنظيم الشريعة مع اعتبار أن هذه الفتاوى مصدراً حديثاً للتاريخ . ومن أمثلة الفتاوى التي تعرض لها الباحث في المجال السياسي فتاوي فلسطين والجهاد لاستردادها و فتاوى مروق الخديوي توفيق وفتوى إعدام قاتل بطرس غالي وفتوي اغتيال النقراشي باشا وجذور فتاوى العنف وردود المفتين وسياقاتها السياسية والاجتماعية والتاريخية. وفي كلمته تحدث الباحث عمرو عبدالمنعم عن أن كل واحد من المفتين العشرة الذين تناولتهم الدراسة، قد أفتى بحسب تصوره للواقع، فقد أصدرت لجنة الفتوى بالأزهر برئاسة الشيخ حسنين مخلوف سنة 1947 فتواها بضرورة إنقاذ فلسطين وعدته واجب ديني على المسلمين، وطالب العلماء بالإجماع الحكومات الإسلامية والعربية بتهيئة المأوى والنفقة للعرب المشردين والجهاد ، وإذا نظرنا لحقبة الثمانينات سنجد فتوى الشيخ جاد الحق بجواز الصلح مع إسرائيل ، وبالطبع كان السياق قد تغير في موقف الدولة الرسمي. ويهتم المؤرخ عادة بالسؤال ربما بقدر اهتمامه - أو أشد - بإجابة المفتي، لأن السؤال يعبر عن واقع المجتمع وحاله وتساؤلاته في حقبة معينة، وبين أهم أسباب التطرق لهذا الموضوع بالدراسة هو حالة السيولة التي تعاني من الفتوى في عصرنا الحديث، بانتشار التقنيات الحديثة، وتصدر غير أهل العلم للفتيا بالناس، برغم ما للفتوى من تأثير بالغ الأهمية بحياة المسلمين. وبالطبع صادف الباحث صعوبات بجمع الوثائق، لندرة بعضها وتعنت المؤسسات أحيانا مع الباحثين من جهة أخرى، كما واجه صعوبة تداخل مجالات الفتوى وتصنيفها، وقد اعتمد الباحث منهج الوصف والتحليل . أما أهم النتائج التي خرجت بها الدراسة فهي الاستقلال النسبي لمؤسسة الإفتاء والمفتين عن السلطة الحاكمة مقارنة بالعصر الحالي؛ فقد كانت تصدر فتاوى جريئة تنتقد الملك في سياساته المالية أو حتى تصرفاته الشخصية بالحفلات الراقصة وغيرها كفتاوى الشيخ عبدالمجيد سليم، وواجه الشيخ المراغي الملك فاروق فقال "لا سلطان على شيخ الأزهر إلا الله" رافضا اشتراك مصر بالحرب العالمية الأولى، أو منح فاروق فتوى تمنع زواج طليقته من غيره. كما خرجت الدراسة بملاحقة الفتوى للتطور الفكري الذي أصاب المجتمع فنجد علماء كالإمام محمد عبده يضع تقنينا لتعدد الزوجات ويبيح عمل المرأة وخروجها من بيتها، وفتاوى أخرى تعلقت بإباحة الفنون تعلما وممارسة، وغيرها . وكانت هناك اعتراضات من المفتين على بعض ما جاء بكتابات ك"الشعر الجاهلي" و"الإسلام وأصول الحكم" ولكنها ظلت حريصة في مجملها على استلهام الشرع المستنير دون تكفير لمؤلف بعينه. كما شملت الرسالة الفتاوى الاجتماعية مثل لبس البرنيطة الإفرنجية وعمل المرأة وتحريم الختان و تعدد الزوجات والرق والعبودية وعلاقات المسلم بأهل الكتاب . وفتاوى القضايا الفكرية التي صاحبت أزمات "الإسلام وأصول الحكم" و"الشعر الجاهلي". ومن الفتاوى الاقتصادية تحريم شهادات الاستثمار وبيع وشرب الدخان . آراء المحكمين تناول منصة مناقشة الرسالة جوانبها الشكلية والموضوعية ، إلى جانب السياق التاريخي المجتمعي الذي أنبت فتاوى النصف الأول من القرن العشرين . وفي كلمة د. محمد عفيفي، أشاد بالجهد الهائل وراء الرسالة خاصة وأن موضوعها "صعب" جرت العادة على تسجيله برسائل للدكتوراه وليس الماجستير، وأيضا من الصعوبة بمكان حصر كافة المفتين ومؤسسات الفتوى الرسمية من أزهر وإفتاء خلال نصف قرن كامل من عمر المجتمع ، كانت حافلة بالأحداث الجسيمة كالاحتلال الأجنبي وتفجر الحركة الوطنية ورفض التبعية ونشأة الأحزاب وبروز تيارات فكرية جديدة متصارعة مع التيارات المحافظة، ودساتير مختلفة، وانتفاضات، وغيرها من الأحداث. والباحث برأي د. عفيفي ظل حريصا على رصد كل ما تقع يده عليه من وثائق ومعلومات، بسبب طبيعته النهمة للمعرفة، كما ظل حريصا على الخروج بشيء جديد ولذلك فهو باحث متميز، ولكن وضع الفتاوى بنصوصها والاستطرادات الكثيرة قد يغرق الباحثين أو القراء المستفيدين، ولهذا يمكن التركيز على قضايا بعينها واختزال التفاصيل في المرحلة المقبلة، وخاصة أن الرسالة لو تحولت للنشر يمكن أن تخرج لنا ثلاثة كتب هامة ، كل منها متعلق بمجال مثلا كالفتاوى السياسية والاجتماعية والثقافية وهكذا. ومن جهة أخرى تطرق "عفيفي" لبعض الإشكالات التي ينبغي تداركها ، كإثبات الوثائق والمراجع بشكل أدق، واستكمال بعض الجوانب ومنها مثلا موقف المفتين الموالين للدولة العثمانية من مذابح الأرمن، وكذلك إثبات عدم تبعية البهائية للدين الإسلامي بمذهبيه، وعدم اللجوء لقضايا شائكة ك"الخلافة" وفتاواها لندرة الوثائق بخصوصها، وتجنب الخلط بين الفتوى الرسمية وتلك المتداولة بالصحف والتي يطلقها المشايخ، وعدم الانحياز لقضايا على حساب أخرى ، وربما يُعذر الباحث هنا لاتساع القماشة التي يعمل عليها وهي الفتوى ، ولكن وضع محددات مبدئية منهجية أمر يعين كثيرا في الاستفادة من المادة . أما د. حورية مجاهد، فقد تحدثت عن غزارة المنتج الذي قدمه الباحث وقيمته، وإن تمنت استعراض الدراسات السابقة في هذا المجال ليكون عمله لبنة في بناء هائل متعلق بالفتوى والمجتمع، وأيضا الوقوف الدقيق على التعريفات المنهجية بين "الفتوى"و"الإفتاء" وأهمية العناية بالتبويب الداخلي للفصول بشكل علمي منظم يسهل الاستفادة من المادة . وبرأي أستاذة الفكر السياسي، فإن الرسالة إن تمت صياغتها بشكل أكثر اختزالا وتنظيما وضبط منهجيتها ومصطلحاتها، ستكون إضافة هامة في مجالها، واتفقت على أن الباحث يمكنه من خلال مرجعيته التاريخية والدينية الجيدة أن يفتح آفاقا غير مطروقة من خلال رسالته كربط حركة المجتمع والفكر بالفتاوى . وقد اتفق المشرف الرئيسي للرسالة د. السيد عشماوي مع ملاحظات الأساتذة المناقشين، معتبرا أنه من حسن الحظ أن تكون تلك المنصة بهذا التشكيل هي من تناقش الرسالة، فالدكتور محمد عفيفي مفكر ومؤرخ يميل للتجديد بطبيعته، والدكتورة حورية مجاهد ربت أجيال من الباحثين الكبار في مجال الفكر السياسي، أما المستشار البشري فقد تتلمذ الجميع على كتبه وأفكاره القيمة وهو بمثابة مؤسسة قائمة برأسها في مجال الفكر الإسلامي والتشريعي إلى جانب المناصب التي شغلها بهذه المجالات. أزمة باحث التاريخ وتحدث "عشماوي" عن الباحث عمرو عبدالمنعم، وهو يلحق بركب الباحثين الجادين الذين عاصرتهم الجامعة المصرية وتوفرت فيهم صفات الدأب والمثابرة والإبداع، وقد أفاده كثيرا كونه كاتب صحفي متخصص بمجال الإسلام السياسي . وأكد "عشماوي" أنه كان – وهو لا يزال طالبا- يعكف بالمكتبة من الصباح للمساء، وأفيد من أساتذته الكبار ومنهم محمد أنيس، وللأسف لم يعد للبحث رجاله كما كان بالماضي لاختلاف ثقافة الأجيال الجديدة بالجامعة المصرية والتي تميل للاستسهال، إلا قلة نادرة . وعرج أستاذ التاريخ على أهمية أن يكون المؤرخ فيلسوفا ملما بظروف وقضايا المجتمع كي يرشد رؤيته للأحداث ويكون أكثر موضوعية في تناولها، ولهذا فإن باحث التاريخ عليه قراءة الفلسفة والأديان والاجتماع والسياسة فضلا عن قراءاته التاريخية ، وألا يحصر نفسه بمجالات بحثية ضيقة، بل يضيف لحصيلته الثقافية باستمرار ليتسع نطاق الرؤية . المجتمع .. والفتوى تطرقت كلمة المستشار طارق البشري لنقاط شديدة العمق خلال مناقشته لرسالة البحث، وتعلقت بأهمية استحداث مجال بحثي لعلاقة الإفتاء بالمجتمع ، وهو مبحث نادر أن تعثر عليه بالجامعة المصرية، وقد سعى شخصيا – سعي فردي – للالتحاق بكلية الآداب قسم التاريخ وكان آنذاك نائبا بمجلس الدولة ، ولكن شاءت الأقدار ألا يتم له ذلك بسبب "خطأ موظف"! ومع ذلك ظل طارق البشري، خاصة في الفترة التي اقترب فيها من السياسة الخارجية المصرية من خلال مجلس الدولة، على قراءة تاريخ مصر الحديث ورأى أن التشريع لا يمكن أن يستقيم بغير فهم حركة المجتمع في ظرف زماني محدد، وفهم المتغيرات المحيطة به. وتطرق "البشري" لمعاناة مصر من التبعية التشريعية للقانون الفرنسي، وهو ما وصفه أبوالدساتير السنهوري باشا بأنه احتلال يماثل تماما الاحتلال الإنجليزي العسكري للبلاد، وكان يتحدث بثلاثينات القرن الماضي عن القانون الوضعي المستقى من قوانين فرنسية وليست مصرية خالصة . وتمنى البشري لو يضيف الباحث للرسالة عمقا أكبر للفترة التي واكبت إنشاء دار الإفتاء في مصر1895 ، فقد صاحبتها متغيرات شديدة التأثير على مجريات الحياة بالبلاد، ونجد مثلا أن من حسنات الخديو إسماعيل أنه فكر في وضعية متميزة للقضاء المصري ، وكان البلاد مجرد ولاية تابعة للخلافة العثمانية، فسعى لأن يظل قاضي قضاة الخلافة بمصر، ليكون الصوت نابعا من البلاد. وكان مفتي البلاد الشرعي أيضا بإسطنبول وهو حنفي المذهب، ولم يكن لكل ولاية إفتاء مستقل عن الخلافة بالطبع، ففكر الخديوي إسماعيل بمنح شيخ الأزهر المهدي العباسي مهمة الإفتاء، لتكون مغلفة بطابع الأزهر ولا تثير إشكالية انفراد مصر بالفتوى . وفي هذه الفترة حرص اللورد كرومر مستشار الإحتلال الإنجليزي على استحداث محاكم شرعية تنقل لها بعض قضايا محاكم الاستئناف، كي يضع الإنجليز أيديهم على مهمة التشريع بمصر، ولكنهم قوبلوا برفض عنيف ، فلغى الفكرة، وفصل الإفتاء عن الأزهر وجعله وزارة مسماة بالحقانية مستقلة وأتى بالشيخ محمد عبده مفتيا للديار خلفا للشيخ حسونة النواوي الذي تم رفده بقرار من الخديو 1899 بعد أن عارض ندب قاضيين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية ليقوما بمشاركة قضاة المحكمة الشرعية في الحكم.. ويستدرك المفكر المصري بأن استحداث دار الإفتاء المصرية لم يكن يعني استقلالها التام عن التبعية للإنجليز ، وكانوا حريصين على مبدأ حكم مصر "بالنصائح الملزمة" أي أن تكون "المشيئة بريطانية والقرار مصري"، فيكونوا خلف الصورة دائما بدون تصدر يثير حفيظة المجتمع. أخيرا، أشار المستشار البشري لأهمية الرسالة التي امتدح "غزارة معلوماتها ومصادرها" ونصح بإضافات تحليلية تضيف عمقا جديدا يربط بين التشريعات الدينية بالمجتمع، مشيرا لأهمية النظر للتشريعات لا باعتبارها نصوصا قانونية جوفاء وإنما متغير هام بحركة المجتمع ؛ فكل متغير بحياة المجتمعات يستتبعه تغيرا بحركة القوانين والفتوى .. وتاريخ مصر الحديث خير شاهد على ذلك.