صدر هذا الأسبوع عن مركز المحروسة بالقاهرة كتاب "معنى أن تكون صوفيًا" للباحث المصري خالد محمد عبده مدير مركز "طواسين للإسلاميات والتصوف". الكتاب من خلال فصوله يجسد رحلة معرفية لكاتبه، ففيه من المعرفة والتجربة ما يظهر جليًّا بتصفّح أوراقه. انشغل الباحث فيه بظاهرة الفرار إلى روحانية الإسلام، ومدى أهمية التصوف للمسلم المعاصر للإجابة على مجموعة من التساؤلات: كيف يمكن للتصوف أن يسهم في تأسيس إنسان يتسق مع ماضيه ويساهم في بناء مجتمعه الحالي؟ وكيف يمكن تفسير الحنين إلى التصوف في بلداننا الإسلامية، خصوصًا بعد انتفاضات الدول العربية؟ وهل يعود ذلك لممارسات جماعات الإسلام السياسي التي رغّبت الشباب عن الإسلام؟ هل للتراث الروحي في هذه البلدان أثر أعاد المجتمع إليه اليوم؟ انشغل المؤلف كذلك بمعنى أن يكون المرء صوفيّا، فمن خلال متابعتنا لما يُكتب عن التصوف من قِبل بعض الباحثين أو الممارسين للتصوف، نجد تضاربًا كبيرًا في تحديد معنى التصوف وتعريفه، فيناقش الباحثون التعاريف المدونة في الكُتب ويُصرّ مشايخ الطّرق والسالكون على سمتٍ معين يميز الصوفي عن غيره، ولعل حقيقة التصوف تغيب وسط هذا التحديد والصرامة في التعامل. يرى المؤلف أن التصوف أوسع من ذلك، فنجده يلتقط عبر نصوص التراث بعض أقوال الصوفية أصحاب التجارب الثرية، ثم يعيد بناءها بعد قراءتها قراءة معاصرة تستند إلى رؤية التصوف، كمعنى يتحقق في سلوك البشر وإن لم يتقيدوا بصورة الصوفي النمطية التي يصرّ البعض على ضرورة الالتزام بها. يصحبنا المؤلف خالد محمد عبده في رحلة إلى مقامات الأولياء في مصر وتركيا والسنغال، فيحكي عن مشاهداته ولقاءاته راصدًا لنا صورًا حية تفاعل معها ونقل جزءًا من آرائها حول قضايا التصوف، ولعل هذا الفصل يوفر مادة للدارسين للتصوف من وجهة نظر اجتماعية. وإذا كان الصوفيُّ –كما رآه ذو النون المصري- هو الذي عندما يتكلم يعكس كلامه حقيقة وجوده، أي لا يقول شيئًا غير موجود وعندما يصمت يُعبِّر سلوكه عن حاله وتدّل حاله على أنّه قد قطع كلّ رباط بهذه الدنيا. فإذا حدثك عن الرحمة فلا بد أنه رحيم، وإذا حدثك عن الحلم والصبر والصفح والغفران، فلا بد وأنه متحلٍّ بهذه الأخلاق متخلٍّ عن أضدادها، لكننا نشاهد غير ذلك عند عدد كبير من متصوفة اليوم. هنا يتناول المؤلف هذه المسألة بالدرس والتحليل بعيدًا عن التماهي مع المتصوفة أو الانشغال بإدانة السلوك وإطلاق الأحكام القيمية. من خلال لقاءات عدّة بجماعة الدراويش في بلدان المغرب ومصر وتركيا، وتتبع لما كُتب عن معنى الدرويش في الأدبيات العربية، سواء في المجلات أو الكتب، رسم المؤلف لنا صورة جديدة عن الدراويش، تختلف عن الصورة التي جسّدها الفن التشكيلي للدرويش، والصورة التي يصدّرها الإعلام عنه، وقارن بين الدرويش والشيخ من خلال ممارساتهم في الطريق الصوفي. في سياق آخر يتحدث المؤلف عما واجهه التصوف في الإسلام من عداوة بالغة منذ ظهوره مع الجيل الأول من أصحاب النبي حتى الأجيال اللاحقة: تسيل الدماء، وتنهال الاتهامات على أصحابه شرقا وغربا، ويُنكّل بصوفية ويُقتل آخرون، ويظل التصوف روحا وسلوكا ومنهاجا باقيا ينتشر في أشكال من التدين، وأشكال من الابداع، وأنماط من السلوك ، ويظل محلاً لاتهامات المعادين له. العداءُ بين الخصوم أمرٌ طبيعي، لكن الإزعاج يأتي أكثر ويكون أصعب بعداء أشباه الصوفية للتصوف والعمل على هدمه لا المساعدة على تطويره وتجديده وإظهاره للمتعطشين لمثل هذا اللون الروحي، في ثوب يليق بهم أو صورة تجذبهم وتلبّي حاجتهم. ومن نماذج الصوفية في العصر الحديث يروي لنا الكتاب قصة شاعر هندي ومفكّر مسلم عاش في الهند واستفاد من التصوف في حياته وكتاباته، وبعد أن نَقَدَ صورًا من التصوف في بيئته وعصره أصبح صوفيًّا بطريقة لفتت أنظار الشرق والغرب إليه، فتُرجمت أعماله إلى لغات عدّة وكُتب عنه الكثير شرقًا وغربًا. ولأن شخصية الحلاج ذات ثراء كبير خصص المؤلف جزءًا من كتابه للحديث عن حضورها في كتابات الشعراء العرب والفرس والترك، لينتقل بعد هذا السرد إلى صوفي آخر من أصول فارسية وقد انتخب نصًّا من مخطوط له لم يُنشر من قبل ليعرّف القارئ بأحد الصوفية المجهولين.