حين دشن بعض الخبراء الذين يوصفون للأسف بالخبراء الاستراتيجيين مصطلح (مجلس إدارة العالم) وحين تناوله أحد الإعلاميين ناله من السخرية والتنكيت الكثير والكثير، لكن الحقيقة التى لم يلتفت إليها أحد هى أنه ردد فقط ما قاله هؤلاء الخبراء الملهمون الذين يملأون الشاشات بالإجبار، ويتجولون من قناة إلى قناة لبث نفس الأفكار حول المؤامرة الكبرى التى يحتشد العالم كله فيها ضد مصر بهدف إضعافها وتدميرها، وأن السبيل الوحيد لمواجهة هذه المؤامرة هو الرضوخ للسلطة والتزام الصمت والطاعة والإذعان الكامل وتصديق كل ما يقوله إعلام السلطة وأبواقها، ولو كان من نوعية أسر قائد الأسطول السادس الأمريكى أو العثور على قنبلة نووية انشطارية فى سيارة على طريق الإسماعيلية أو عن هذا الاختراع الجديد الذى يقوم بإثارة الزلازل وإشعال البراكين ومحو دول على الخريطة بالكامل! لم تعد المشكلة فى ابتذال مصطلحات (حروب الجيل الرابع) والخامس وتضخيم روح المؤامرات الوهمية فقط، بل وصل الانحدار إلى تفشى هذه الروح فى اتجاهات عدة، من أخطرها ما تم نشره عن اجتماعات مهمة بوزارة التربية والتعليم بهدف إنشاء نادٍ ل«الأمن الفكرى» داخل كل مدرسة، استدعاء كلمة الأمن الفكرى يجعل الأذهان تتذكر على الفور مصطلح (شرطة الفكر) الذى صاغه جورج أورويل فى روايته الملهمة 1984 عن تلك الجهة التى تتلخص مهمتها فى مراقبة طريقة تفكير الناس وحصار أفكارهم والتأكد من ولائهم التام للأخ الأكبر حتى إن أورويل عبر عن هذه الحالة قائلا: (إن جريمة الفكر لا تفضى إلى الموت، إنها الموت نفسه). انتقلت العدوى من تبنى هذا الاتجاه من مرحلة التعليم الأساسى إلى مرحلة التعليم الجامعى، حيث رأينا بعضهم يرسلون اقتراحات للسلطة يعرضون فيها عمل دورات تدريبية لطلاب الجامعات حول ماهية حروب الأجيال المختلفة وتوضيح حجم المؤامرات على مصر وكيفية التصدى لها! هذا كلام ظاهره الرحمة وفى باطنه العذاب، وإذا أكملنا السير فى هذا الاتجاه، فسنتحول إلى مجتمع مريض يعلق فشله وعجزه على الآخرين وعلى هلاوس المؤامرة. نحن نعيد استنساخ حقب تاريخية بالية مرت بها مصر فى الستينيات، وعرفتها دول أوروبا الشرقية قبل ذلك حينما كانت تدور فى فلك ديكتاتورية الاتحاد السوفيتى، واكتشف الناس عقب السقوط وجود مؤامرة حقيقية، ولكنها لم تكن مؤامرة خارجية، كما روجت أبواق السلطة، بل مؤامرة داخلية جسدها الفشل والعجز وغياب الموضوعية وإبعاد الكفاءات وتمكين التابعين التافهين الذين تنحصر كفاءتهم وتميزهم فى السمع والطاعة وتنفيذ الأوامر، دون نقاش حتى قادوا بلادهم للتمزق والانهيار. الإصرار على بث هذه الروح فى المجتمع لا يؤدى لخير الوطن، ولا يُخرج مواطنين صالحين، بل قد يُخرج مواطنين مخبرين ومواطنين مُختلين، جورج أورويل فى روايته كان يصف مجتمعا مريضا وشاذا، ونحن لا نريد للمجتمع المصرى أن يكون بهذه الصورة البائسة، المؤامرة الحقيقية أن يعلو صوت الخرافة وأبواق الزيف والأكاذيب لإلهائنا عن مشاكلنا الحقيقية وإخفاقاتنا، لا نريد أن ينطبق علينا مقولة أورويل: «إذا لم يكن من المرغوب فيه أن يكون لدى عامة الشعب وعى سياسى قوى، فكل ما هو مطلوب منهم وطنية بدائية يمكن اللجوء إليها حينما يستلزم الأمر». نقلا عن "المصرى اليوم"