ترجمة عربية جديدة لرائعة الكاتب الإنجليزي الشهير جورج أورويل، «1984»، صدرت عن دار التنوير بالقاهرة، ضمن مشروعها الطموح لإعادة نشر روائع الأدب العالمي وكلاسيكيات الرواية، في ترجمات جديدة، رصينة ومدققة، وطبعات منقحة، وتعيد وضع هذه الروائع تحت دائرة الضوء بعد عقود من ظهورها في ترجمات قديمة، ومنها ما يفتقر إلى الدقة والأمانة في نقل روح النص الأصلي إلى اللغة العربية، كما أن الكثير منا أصبح لا يتناسب مع ذائقة الجمهور العربي خاصة من الشباب المقبل على القراءة. «1984» كرست اسم جورج أورويل كواحد من أهم أدباء القرن العشرين، وهي تنتمي إلى ما أطلق عليه النقاد العالميون روايات "الأمثولات الرمزية" الكبرى، التي استطاعت أن تشتبك بسرديتها الفاتنة في قلب أكثر الفضاءات الفكرية إشكالية وخلافية، وهو فضاء "الحرب الباردة" التي اندلعت بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، واستمرت معاركها دون توقف طوال نصف قرن من الزمان تقريبا، بل إن مصطلح «الحرب الباردة cold war» نفسه كان من صياغة أورويل، وهو الآن مسجل باسمه في قاموس أوكسفورد للغة الانجليزية. بدأ أورويل كتابة روايته عام 1945، وانتهى منها في عام 1948، وجعل عنوانها مقلوب العام الذي انتهى فيه من كتابتها، حيث عكس الرقمين الأولين في التاريخ، وجعل هذا التاريخ المستقبلي عنوانا لروايته التي أثارت، ولا تزال تثير الكثير من الجدل حتى اليوم؛ لأنها تمثل نوعا من "اليوتوبيا المقلوبة"، بحسب تعبير أحد النقاد الكبار، وتسجل نبوءة أورويل التحذيرية مما سيئول إليه حال النظام السياسي، وكذلك حذر من فساد اللغة. وكان أورويل قد قرر حين انتهى من كتابتها أن يكون عنوانها المبدئي هو «الرجل الأخير في أوروبا The Last Man in Europe» وهو تعبير يرد على لسان المحقق لبطلها أثناء تعذيبه في «وزارة الحب» في نوع من تأكيد نهاية عصر النزعة الإنسانية، ومركزية الإنسان الفرد، وقدوم عصر الدولة الشاملة الحديثة، وآليات تهميش الفرد والإجهاز على فرادته، ولكنه قرر في نهاية الأمر أن يقلب تاريخ عام كتابتها ويسميها بالعنوان الذي عرفت به «1984». ورغم أن الرواية في ظاهرها تبدو "أمثولة خيالية" ساخرة عن المستقبل، فإنها تبدو في الوقت نفسه "نصا واقعيا" شديد التجذر في سياق كتابته، وحياة كاتبه، وشروط الواقع الذي صدر فيه، حيث تدور أحداثها في دولة خيالية تدعي «أوشانيا Oceania» وهي أكثر الأسماء ملاءمة لدولة بريطانيا ذات التاريخ البحري الشهير؛ لأن الاسم مشتق من كلمة محيط الإنجليزية. وهي دولة يحكمها حاكم فرد هو «الأخ الأكبر»، يتربع على قمة الحزب الذي يتكون من طبقتين هما طبقة الحزب الداخلي، أو التنظيم الأعلى للحزب، وطبقة الحزب الخارجي أو الجموع المنخرطة فيه. وتدير شئون الدولة مجموعة من الوزارات ذات الأسماء الغريبة؛ مثل «وزارة الحقيقة» و«وزارة الحب» و«وزارة السلام» و«وزارة الوفرة». وفي «وزارة الحقيقة» يعمل بطل الرواية "وينستون سميث" وهو اسم مركب من أسماء التضاد هو الآخر، لأن الاسم الأول «وينستون» من أسماء الطبقات الراقية، يستدعي اسم "وينستون تشرشل"، والاسم الأخير هو الاسم الشائع بين أفراد الطبقة العاملة (لأنه يعني صانع أو عامل) وأكثر الأسماء شيوعا في بريطانيا. وكثيرون من قراء الرواية على امتداد العالم رأوا فيها تصويرا ورفضا لما يتعرض له الفرد من قهر في العصر التكنولوجي الحديث، وفي الرواية ما يكفي وكذلك في كتابات أورويل الأخرى للتدليل على أن كراهيته لم تكن للنظام السوفيتي حبا في النظام الأمريكي أو الاشتراكية حبا في الرأسمالية - لقد ظل أورويل متعاطفا مع الاشتراكية طوال حياته، بل كانت كراهيته منصبه على نظام - أيا كان لونه الأيديولوجي - لا يجد الفرد مهربا من استبعاد التكنولوجيا الحديثة هذه التكنولوجيا الحديثة تتمثل ليس فقط فيما لدى أصحاب السلطة من أسلحة وسجون ومعتقلات بل وما لديها من وسائل التجسس والتنصت وغسيل المخ، وكلها وسائل كانت ولا تزال متاحة للدولة الاشتراكية والدولة الرأسمالية على السواء.