تسود حالة من التفاؤل بين المثقفين المصريين بعد انتهاء احتفالات قناة السويس الجديدة وسط آمال عريضة بأن يكون هذا المشروع العملاق الذي جسد "ثقافة الإتقان"، نقطة البدء في مشروع تنمية صناعية وزراعية وخدمية شاملة يشكل القوة الدافعة للتنمية في مصر ككل. وعبر طروحات ومقالات وأراء وتعليقات شتى تموج بها الصحف ووسائل الإعلام بعد افتتاح قناة السويس الجديدة كحدث عملاق بالفعل تعبر الكثير من هذه الكتابات عن أهمية "ثقافة الإتقان" بقدر ما انطوى، الحدث الكبير على عديد من القيم الثقافية الإيجابية مثل التفكير الابتكاري وإعلاء قيمة الأمل وتحدي اليأس والإحباط وتأكيد الثقة بالذات المصرية المنفتحة على العالم وتوافر إرادة الإصلاح والتحديث. واذا كانت ثقافة الإتقان واجب الوقت دون إغفال لأهمية النقد الذاتي والتقييم المستمر فمن الأهمية تجنب "جلد الذات" مع قراءة واعية للنماذج الناجحة، في ثقافة الإتقان في عالم بات قرية صغيرة بفضل ثورة الاتصالات والمعلومات وسط تغيرات جوهرية في فنون الإنتاج وأدواته وتنظيماته كما تلاحظ الكاتبة أمينة شفيق. وتبرز أهمية النقد الذاتي والتقييم المستمر كبعد هام في ثقافة الإتقان كما تتجلى في الغرب المنهمك الآن في مراجعات عميقة للأداء الاقتصادي حسب طرح لادموند فيلبس نشرته دورية "نيويورك ريفيو اوف بوكس" فيما يرى هذا الأستاذ في جامعة كولومبيا والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2006 أن الكثيرين في أمريكا وأوربا يشعرون بأن الاقتصاد يتحرك في اتجاه بعيد عن العدل غير أن المشكلة هنا تتعلق باختلاف الرؤى والتصورات حول "العدل" وهو ما ينعكس في سجالات ثقافية وفلسفية. غير أن هذه السجالات وان اختلفت في الكثير من النقاط إنما تتفق على أهمية إعلاء ثقافة الإتقان وتشجيع التفكير الخلاق والابتكاري فيما يلاحظ ادموند فيلبس أن العديد من المفكرين والفلاسفة في الغرب ينادون الآن بضرورة تصميم تحالف بين التعليم والاقتصاد ليطلق الطاقات الابداعية والابتكارية للشباب على وجه الخصوص. وقناة السويس الجديدة تأتي في وقت يشهد فيه الاقتصاد تغيرا جوهريا في المفاهيم على نحو ما يتجلى في طروحات ادموند فيلبس وغيره من كبار علماء الاقتصاد وهذا التغير يدفع في اتجاه ما يعرف بالاقتصاد الجديد القائم على وضع الخيال الخلاق والإبداع والابتكار في قلب الحياة الاقتصادية. وهذا الحدث العملاق الذي يجسد "إرادة مصر في التنمية" إنما يعني أيضا حضورا لثقافات متعددة ومتنوعة تتفاعل بصورة خلاقة في هذا الشريان الاتصالي الذي اعتبره المفكر الإستراتيجي المصري الراحل جمال حمدان بمثابة نبض مصر ومفتاح الحياة للمصريين. وتتفق أراء العديد من المحللين والمعلقين على أهمية الجانب القيمي في إنجاز قناة السويس الجديدة كتعبير عن ثقافة ألإتقان وإشارة لروح عمل جديدة ترفع ثقة المصريين بأنفسهم وكحافز لمزيد من الإنجازات في طريق طويل. وتقول الخبيرة الاقتصادية الدكتورة سلوى العنتري إن "السادس من أغسطس كان موعدنا مع الفرحة، شعور جارف بالاعتزاز بقدرتنا على العمل والإنجاز رغم الظروف الصعبة التي نخوض فيها حربا حقيقية ضد قوى الظلام المدعومة خارجيا والتي تستهدف تدمير بلادنا وتقطيع أوصالها، اتممنا حفر قناة السويس الجديدة في الموعد وفتحناها بالفعل للملاحة الدولية رغم انف كل المشككين وكل الكارهين". ولفتت هذه الخبيرة الاقتصادية المصرية البارزة إلى أن القناة الجديدة تمثل أول خطوة ضمن مشروع قومي ضخم مطروح منذ عقود لتنمية منطقة قناة السويس والتحول من منطق الاكتفاء بتحصيل الرسوم وتقديم بعض الخدمات الملاحية إلى الانطلاق لتحقيق تنمية صناعية وتجارية وزراعية وخدمية وعمرانية تقوم على التوظيف الكفء لكل الإمكانيات الطبيعية والقوى البشرية في المنطقة المحيطة بهذا الموقع الجغرافي الفريد. وفيما استقبلت قناة السويس الجديدة فجر امس الأول "السبت" وللمرة الأولى أكبر سفينة حاويات في العالم وهي السفينة الدنماركية "ميرسك مارستال" تتوالى الإشارات حول بدء الاستعداد لأعمال التطوير في ميناء بور سعيد والتي تتضمن إنشاء قناة جانبية بطول 9، 6 كيلو متر وإقامة مناطق صناعية ولوجيستية وساحات للتخزين وأرصفة. واعتبرت الكاتبة والأديبة سكينة فؤاد مشروع قناة السويس الجديدة بمثابة بداية "مشوار الألف ميل للتنمية والبناء" وخاصة في محافظات القناة وشمال سيناء فيما يصب في مربع يزخر بتعليقات تؤكد على أن هذا المشروع الجديد وعلى الرغم من كل أهميته الكبيرة "ليس الا البداية لمشروعات المستقبل"، ومن بينها مشروع تنمية محور إقليم قناة السويس الذي سيحول مصر إلى مركز عالمي لتجارة الترانزيت وسيكون نموذجا لكل عمليات التنمية في إقاليم مصر المختلفة وسيحدث طفرة اقتصادية كبيرة كما ذكرت صحيفة الأهرام. وكان منير فخري عبد النور وزير الصناعة والتجارة والمشروعات الصغيرة والمتوسطة قد أكد على أن قناة السويس الجديدة تبشر بتحويل منطقة القناة لمركز صناعي عالمي، موضحا أنه من المقرر تحويل ما يقرب من 76 ألف كيلو متر هي مساحة الأراضي المحيطة بممر القناة إلى مركز صناعي على احدث النظم العالمية. واذا كانت التنمية تعني ضمن معاني متعددة أن "يعتمد المصريون على انفسهم" فان "الأمن القومي بمعناه الشامل لا يقتصر على الاستعداد العسكري للدفاع عن الدولة بل يشمل التنمية في كل المجالات وزيادة معدلات النمو". ويقول الدكتور خالد مصطفى أستاذ الاقتصاد التطبيقي أن منطقة قناة السويس يمكن أن تصبح منطقة جذب لمجالات صناعية جديدة منها صناعة الكيماويات والمواد المتقدمة والالكترونيات والآليات المتطورة والصناعات الغذائية والطاقة المتجددة والوقود البديل. وتتلقى الجماعة الثقافية المصرية بارتياح بالغ الإشارات التي تطلقها قناة السويس الجديدة في اتجاه الانتصار "لثقافة الإتقان "و"التفكير الابتكاري وما يعرف بالتفكير خارج الصندوق والبحث عن حلول غير تقليدية سواء للمشاكل الاقتصادية أو غيرها". ويرى الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة أن أهمية مشروع قناة السويس الجديدة الذي احتفل به المصريون تأتي من انها تجسيد حي لعدة جوانب بعضها يمثل الواقع والبعض الأخر يمثل العمق الزمني والتاريخي "ومن هنا يتجاوز الحدث حدود اللحظة ويتخطى حدود الإنجاز ليصل بنا إلى مناطق أبعد بكثير من كل ما ترصده العين أو يراه الإنسان". وكغيره من المثقفين المصريين البارزين أكد جويدة على أن المشروع جاء في إطار خطة شاملة أكبر من مرور السفن أو عبور الحاويات وتحصيل الرسوم" مضيفا "هناك فكر آخر يضع منطقة القناة كلها في إطار جديد للتنمية الاقتصادية والسكانية والإنتاجية وهذا الأمر يبدو جديدا في فكر الإدارة المصرية التي اعتادت دائما أن تتعامل مع مشروعات التنمية دون وجود تخطيط شامل". والمطلوب الآن بعد هذا الإنجاز الذي صنعته إرادة مصرية خالصة أن نتجه بكل إمكاناتنا إلى العنصر البشري وان نستغل هذه اللحظة التاريخية وهذه الصحوة التي فجرت في الشعب المصري هذه الطاقة لكي يكمل مسيرته في البناء والتقدم كما يقول الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة. ولئن تناول فاروق جويدة بمنظور نقدي تجربة الانفتاح الاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي بمصر وعدم التركيز على المشروعات الإنتاجية حينئذ فان الكثير من المثقفين المصريين يؤكدون الآن على أهمية الدروس المستفادة من مشروع قناة السويس الجديدة فيما قد يدور جدل حول تجارب ناجحة في دول أخرى. وعن إمكانية "استنساخ نموذج سنغافورا" الذي طرحه البعض كتصور لتنمية إقليم قناة السويس ليركز على الخدمات الملاحية واللوجيتسية ترى الدكتورة سلوى العنتري أن هذا التصور يتجاهل أن مصر ليست جزيرة صغيرة تفتقر إلى الموارد، كي تقتصر على تقديم الخدمات موضحة أن موقع القناة الفريد وموارد مصر الطبيعية والبشرية تتيح إمكانيات ضخمة لتنمية صناعية حقيقية. ومع ذلك فان بلدا في حجم الصين سعى ويسعى لتعلم الدروس المستفادة من تجربة سنغافورا الناجحة في النمو التي أسسها لى كوان يو وهى تجربة ترتكز على ثقافة الإتقان ونهج العمل المنضبط والقضاء على الفساد بكل أشكاله والنظام القائم على الجدارة، وهذا ما ادركه مبكرا الزعيم الصينى دينج شياو بينج وهو يطلق سياسات الانفتاح ويقارن بين التجارب التنموية الناجحة والأنسب لظروف بلاده. والحق أن التجربة السنغافورية وجذورها التاريخية تثير حتى اهتمام الثقافة الغربية وهاهو كتاب جديد بالانجليزية صدر بعنوان:" رافلز والفرصة الذهبية" تتناول فيه المؤلفة فيكتوريا جليندينج تاريخ هذا البلد الأسيوى منذ بدايات القرن التاسع عشر ومرحلة السير ستامفورد رافلز ممثل شركة الهندالشرقية الاستعمارية. لكن الكتاب مفيد في التعرف على منابع النجاح الذي حققته سنغافورا حتى باتت دولة في حجم الصين تستلهم دروس النجاح من هذه "الدولة التي قد لا تزيد عن حجم مدينة صينية" وهى في الحقيقة نموذج لما يسمى "بالدولة المدينة أو المدينة الدولة" والأهم أنها نموذج مضيىء لثقافة الإتقان. وفي بلد مثل بريطانيا تجرى الآن مراجعات عميقة وعلى حد قول دافيد ماركواند في كتابه الجديد:"مملكة عبادة المال..أطروحة حول بريطانيا الآن " فان الأمور في الواقع البريطاني ليست على ما يرام فالجشع استشرى وعدم المساواة تتفشى والسؤال:"كيف نصنع مجتمعا لا يتحول فيه المال إلى وثن نعبده ويتزلف له الجميع؟!..كيف نبني مجتمعا يكون فيه البشر أكثر تقديرا ومراعاة لبعضهم البعض؟!". واذا كانت "المنطقة الحرة " في مدينة بورسعيد قد أثارت منذ سنوات طويلة في سبعينيات القرن المنصرم آمالا بأن تكون "سنغافورا الشرق الأوسط" فان ثمة حاجة للتعمق في الثقافة التي انتجت تجربة سنغافورا وارتكزت على الإتقان والجدية في وقت تشير فيه التصريحات الرسمية - كما تقول الدكتورة سلوى العنتري - إلى أنه من المنتظر إصدار قانون ينظم الاستثمار في إقليم قناة السويس وفقا لأسلوب المناطق الاقتصادية الخاصة لضمان التغلب على قيود البيروقراطية وبطء الإجراءات. وأعادت العنتري للأذهان أن لدينا بالفعل قانونا للمناطق الاقتصادية الخاصة هو القانون رقم 83 لسنة 2002 معتبرة أن المطلوب اذن هو "تحديد أوجه القصور في ذلك القانون والتعديلات المطلوبة لمواجهتها دون الدخول في دوامة إعداد قانون جديد". وكان المستشار إبراهيم الهنيدي وزير العدالة الانتقالية وشئون مجلس النواب قد صرح بأن اللجنة العليا للإصلاح التشريعي قررت إرسال تعديلات قانون ضمانات وحوافز الاستثمار إلى مجلس الوزراء لمزيد من الدراسة. ويقول فاروق جويدة:"إن قناة السويس تحتاج إلى خطط وإمكانات وبشر وهذه العناصر جميعا لدينا ولن نحتاج لشيء الا الجدية والأمانة"، مؤكدا على أن "قناة السويس الجديدة يمكن أن تفتح لنا افاقا أوسع في العمل والإنتاج والمستقبل". إن أهم ما في احتفالية القناة الجديدة أنها قالت لنا بأعلى صوت إن النجاح ممكن وان العمل فريضة وان الإنجاز شيء يستحق الجهد كما يقول فاروق جويدة وهو من المثقفين الوطنيين الذين حذروا من قبل من خطورة استشراء الإهمال وغياب ثقافة الإتقان معيدا للأذهان أنه في أربعينيات القرن العشرين، كانت مصر متقدمة على دولة مثل الصين بل أن مصر كانت ملجأ للهاربين من الحرب العالمية الثانية في دول أوروبا. واذا كانت قناة السويس الجديدة قد كشفت ضمنا عن حاجة المصريين للفرحة فلتكن البداية هي ثقافة الإتقان كما جسدها هذا المشروع العملاق الذي يأتي وسط عالم يمر بتحولات جوهرية حقا ويواجه اسئلة كبرى فيما تتوالى الاجتهادات والطروحات والمراجعات لبناء عالم افضل يقوم على ثقافة الحق التي يأمل المصريون أن تكون عماد مجتمعهم بعد ثورتين شعبيتين ضد الظلم بكل ألوانه وصنوفه ومراوغاته، تلك ساعة للعمل والأمل والالتزام بثقافة الإتقان....ساعة تحدد شكل أيامنا القادمات وموضع الرايات.