هو أحد الحكماء الذين تناول القرآن الكريم قصصهم، ذو القرنين هذا الرجل الذي سأل المشركين عنه نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم وبدأ القرآن قصته بهذا السؤال، قال تعالى في سورة الكهف (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ * قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا) . ذو القرنين هو ملك صالح كون جيشا وبدأ في رحلات وجولات في الأرض داعيا إلى الله، كانت أول رحلاته في اتجاه الغرب ووصل إلى مكان يبدو كأن الشمس تغيب وراءه، وبين ذو القرنين منهجه العادل وهو (أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا* وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا). وبعدها بدأت الجولة الثانية له واتجه إلى الشرق فوصل إلى منطقة تطلع عليها الشمس وهي أرض مكشوفة لا أشجار فيها ولا مرتفعات تحجب الشمس عن أهلها فحكمهم بنفس ما حكم به أهل المغرب. واتجه ذو القرنين في جولته الثالثة، ووصل إلى منطقة بين جبلين عظيمين فقال الله تعالى (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ* وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا* قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا* قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْر فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا). فالقوم الذين وجدهم ذو القرنين لا يعرفون لغته أو منعزلون عمن سواهم تعرضوا لأشد الهجمات والضربات على يد يأجوج ومأجوج وطلبوا من ذي القرنين أن يبني لهم سدا يحميهم من يأجوج ومأجوج وسيدفعون له في المقابل ما يريد، فما كان رد ذو القرنين إلا أن أخبرهم بزهده عنه أموالهم، وأن ما أعطاه له ربه من وسائل التمكين والقوة خير له. وبدأ في بناء السد وطلب من القوم أن يعينوه بقوة ويشاركوه في البناء، ويشرح القرآن الكريم كيفية بناء ذو القرنين للسد فيقول الله تعالى (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا* فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا). وعملية بناء السد خطط لها ذو القرنين تخطيطا بارعا فطلب من القوم أن يجمعوا له قطع الحديد وبعدها وضعوها في المكان الضيق الفارغ بين هذين الجبلين وبعدها أوقد النار لتصهر هذا الحديد وبعدها صهروا النحاس وصبوه على الحديد وشكل المعدنان صلبا واحدا يسد الطريق أمام يأجوج ومأجوج عن هؤلاء القوم. وبعد أن انتهى ذو القرنين من هذا العمل الجبار، نظر للسّد، وحمد الله على نعمته، وردّ الفضل والتوفيق في هذا العمل لله سبحانه وتعالى، فلم تأخذه العزة، ولم يسكن الغرور قلبه. يقول الشيخ محمد حسان الداعية الإسلامي إن هذا السد موجود إلى أن يأتي الوقت المحدد لدك هذا السد، وخروج يأجوج ومأجوج، وذلك عند دنو الساعة، كما قال تعالى ( قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا* وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا )، فما أحوج الأمة لحاكم مثل ذي القرنين. الدروس المستفادة حدد الدكتور علي الصلابي في كتابه فقه التمكين في القرآن الكريم عدد من العبر والعظات في قصة ذي القرنين منها: الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض، ورزقه من يشاء بغير حساب ملكًا ومالاً؛ لما له من خفي الحكم وباهر القدرة، فلا إله سواه. الإشارة إلى القيام بالأسباب والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل، وعلى قدر الجد يكون الفوز والظفر. من قدر على أعدائه وتمكّن منهم فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال وتجريعهم غُصص الاستعباد والنكال، بل يعامل المحسن بإحسانه، والمسيء بقدر إساءته. على الملك إذا اشتكى إليه جور مجاورين، أن يبذل وسعه في الراحة والأمن دفاعًا عن الوطن العزيز، قيامًا بفريضة دفع المعتدين، وإمضاء العدل بين العالمين. على الملك التعفف عن أموال رعيته والزهد في أخذ أجر في مقابل عمل يأتيه؛ ففي ذلك حفظ كرامته، وزيادة الشغف بمحبته. تدعيم الأسوار والحصون في الثغور وتقويتها على أسس علميَّة وفق دراسة ميدانية صحيحة؛ لتنتفع بها الأجيال على مر العصور وكر الدهور. مشاركة الحاكم العمالَ في الأعمال، والإشراف بنفسه إذا تطلب الأمر؛ لكي تنشط الهمم. الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أممًا متباينة, كما كان يرمي إليه سعي ذي القرنين؛ فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب، ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بالمنهج الرباني والشرع السماوي.