"بيروت القديمة ستنتهي إن لم نتحرك، وستتحول إلى مجموعة صور وذكريات في الكتب وعلى طوابع البريد"، صرخة اطلقتها المهندسة منى الحلاق التي تعمل ومجموعة من المهندسين المعماريين والناشطين اللبنانيين للحفاظ على ما تبقى من المباني التراثية في بيروت. ففي مكتبها الواقع في منطقة عين المريسة غربي العاصمة اللبنانية، تفتش منى في التاريخ. تجلس على شرفة في الطابق الثاني من منزلها الواقع في مبنى على طراز الأبنية اللبنانية القديمة، تتأمل أبراجا ضخمة تظلل بيتها القديم وقصرا تراثيا بجانبه، يحمل عبق الماضي وعراقته، وهي على يقين أن الأحياء التراثية في المدينة باتت في خطر شديد في وقت ينهش "وحش الباطون والأسمنت" المتمثل بناطحات السحاب والابراج والمشاريع الاستثمارية ما تبقى من احياء تراثية في بيروت. تقول الحلاق لوكالة "الاناضول" إنه "منذ انتهاء الحرب الأهلية ونتطلع الى تراث المدينة المتبقي، وتم تحديد 4 مناطق تحيط بوسط المدينة يجب الحفاظ عليها، من الجميزة والاشرفية - سرسق مرورا بزقاق البلاط وصولا إلى الباشورة وعين المريسة، حيث تتواجد في هذه المناطق اكثر المباني التراثية التي تعود الى اواخر العهد العثماني والى حقبة الثلاثينات والاربعينات" من القرن الماضي. عام 1995 تم تحديد معظم المباني التراثية والقديمة في بيروت، حيث بلغ عددها 520 مبنى، "وهو عدد قليل جدا بالنسبة لعاصمة كبيروت" ، فالتوسع العمراني و"هجمة" الابراج العالية على هذه المباني تخطى كل الخطوط الحمراء، حيث تم هدم اكثر من 100 مبنى حتى اليوم، ما يعتبر خسارة كبيرة للمدينة، بحسب الحلّاق. بعض اللبنانيين اختار إحياء المباني التراثية في بيروت على طريقته، وبطريقة فعلية تحافظ عليها مكانا نابضا بالحياة. فليس بعيدا عن عين المريسة، يدير عمر نصر (مواليد العام 1960) فندقا متواضعا في منطقة "مونو" – الاشرفية، وهو عبارة عن مبنى تراثي يعود تاريخ بنائه الى اكثر من 200 عام. في الفندق، قناطر عالية وغرف صممت على الطريقة اللبنانية التقليدية. بهو واسع بطابع شرقي يشعر الزبائن بدفء وضيافة تختلف عن فخامة الفنادق الضخمة المنتشرة في كل مكان. يقع الفندق في منطقة كان اللبنانيون يطلقون عليها مسمى "خط تماس"، وهو تعبير يعني خلال الحرب الاهلية (1975-1990)، جبهة القتال الفاصلة بين المتحاربين في شرق بيروت حيث الغالبية المسيحية، وغربها حيث الغالبية المسلمة، بل وما زال بعض الكبار في السن يستخدمه الى اليوم. يروي نصر كيف جاء والده من منطقة جبل لبنان واستثمر هذا المكان. وبعد ان خفتت اصوات المدافع في بيروت عام 1990، كان الفندق في وضع يرثى له، وكان مهددا بالانهيار والهدم، الا انه قام بترميمه بما تيسّر كونه مصدر الرزق الوحيد للعائلة. "لا مثيل لهذا المبنى في بيروت، لم يتبق سوى عدد قليل من هذه الأبنية"، يقول عمر نصر معربا عن اسفه من "قيام بعض اصحاب المباني التراثية بهدمها وبناء ابراج من 43 طابقا مكانها"، ومطالبا الدولة بالتحرك وانقاذ "هوية بيروت الحقيقية". يتشارك كلٌ من نصر والحلّاق الهموم والمخاوف عينها: "بيروت القديمة مهددة بالزوال، ولا بد من وضع حد لهذه المجزرة قبل فوات الاوان". وفي هذا الاطار، تطالب الحلاق كل المعنيين والمسؤولين ووزارة الثقافة بالحفاظ على هذه الثروة، "والمسؤولية الاهم تقع على عاتق المجلس النيابي المطالب بإصدار قانون لحماية الابنية، والا فإن المضاربات العقارية ستأكل كل المباني واحدا تلو الاخر، لان عدم وجود قانون حول الاحياء هذه الى جزر منفصلة، ودمر النسيج العمراني بشكل كبير". وبين خوف عمر نصر من خسارة مصدر رزقه، وسعي المهندسة منى الحلّاق وبمساعدة ناشطين في المجتمع المدني الى انقاذ ما تبقى من العاصمة القديمة، تختم الحلّاق حديثها برسالة وجهتها الى الطامحين لهدم الابنية التقليدية وبناء الابراج بالقول : "كفى طمعا وجشعا، لأن ما تقومون به خطير، إنكم تعتدون على التراث لإشباع جيوبكم، فكروا بمستقبل اولادكم، وحافظوا على هذه المدينة قبل ان تدمّر عاصمة لبنان بالكامل".