لم تنجح وفرة التدفقات النفطية على مدار عقود ماضية في بناء اقتصاد قوي لدول مجلس التعاون الخليجي، على الرغم من الدعوات والخطط المتتالية القطرية والإقليمية والدولية، لإعادة هيكلة الاقتصادات الوطنية وتخفيض نسبة الاعتماد على النفط والبحث عن ايرادات متنوعة للخزينة العامة، وتنويع القاعدة الاقتصادية والارتقاء بإمكانات العمالة الوطنية، وتعزيز دور القطاع الخاص عن طريق خصخصة بعض المشاريع بشكل كلي أو جزئي بالمشاركة مع القطاع العام. وفي كل مرة كانت تنخفض فيها أسعار النفط، تبدأ دوامة من المشكلات التي تحيط باقتصادات دول الخليج، من عجز بالموازنات العامة وتراجع في الإنفاق، يتبعه إما تأجيل لمشروعات عامة كانت معدة للتنفيذ، أو تأخير في تنفيذ مشروعات قائمة. ومع تراجع اسعار النفط هذه المرة بمقدار نحو 50 دولار للبرميل، تعود دول الخليج إلى الدوامة ذاتها، وتنطلق مجدداً الدعوات لإعادة النظر بهيكلة اقتصاداتها، ومنها دعوة من صندوق النقد الدولي إلى حكومات هذه الدول، "لضبط حوافز العمال والشركات بتشجيعهم على العمل والإنتاج في القطاع غير النفطي، إذا أرادات النجاح في تنويع اقتصاداتها. لا شك في أن اقتصاد دول مجلس التعاون قد أثبت قدرته على تجاوز الأزمات الإقليمية والعالمية، وذلك باعتماده الكبير على ايرادات النفط، واحتفظ بموقع متقدم على المستوى العالمي، ضمن قائمة أكبر 12 اقتصاداً عالمياً وبلغ حجمه نحو 1.7 تريليون دولار مع نهاية العام 2014، ولكن اعتماده على النفط قد عرقل دور القطاع الخاص ومساهمته في تعزيز نشاطات القطاعات غير النفطية ورفع مساهمة العمالة الوطنية في سوق العمل، حتى إن استمرار تدفق الايرادات النفطية وبمعدلات مرتفعة، لم يحفز على انجاز اصلاحات اقتصادية وماليه واجتماعيه طوال أكثر من ثلاثة عقود ماضية، الأمر الذي ساهم بدوره في عجز الحكومات الخليجية عن التخلص من نمط "الاقتصاد الريعي". تنويع الاقتصاد جمعت دول مجلس التعاون ثروة مالية كبيرة من عائدات النفط تقدر بنحو 2.45 تريليون دولار وبما يعادل 35% من مجموع الثروات السيادية في العالم والبالغة نحو 6.83 تريليون دولار، وفي رأي خبراء صندوق النقد الدولي أن لدى هذه الدول امكانات مالية ضخمة تؤهلها لاحتضان برنامج للتنويع الاقتصادي، يجنبها مخاطر تقلبات أسعار النفط التي تتأثر بعوامل عدة لا تقتصر على مستويات الانتاج فقط، بل تخضع لتطورات أمنية وسياسية واقتصادية، فضلاً عن عوامل نفسية لدى المتعاملين في الأسواق، إضافة إلى متغيرات خارج سيطرة الدول المنتجة، لذلك فان تقليص الاعتماد على القطاع النفطي يخرج اقتصادات الخليج من تحت رحمة التطورات في اسواق النفط العالمية. وبعملية حسابيه لأهمية استثمار عائدات النفط، فان احتساب نسبة خمسة في المئة كعائد سنوي يوفر أكثر من 122 مليار دولار، وهو مبلغ كبير يساهم في تغطية الانفاق الاستثماري أو الرأسمالي لتنفيذ مشروعات أساسية انتاجية خصوصا في القطاع الصناعي وبمشاركة مع القطاع الخاص ولا سيما الشركات الصغيرة والمتوسطة والتي أكدت دراسات الجدوى أنها أكثر تفاؤلاً بالأرباح من الشركات الكبيرة، وأكثر فرصاً لعمل المواطنين، وهي تشكل حالياً نحو 86 في المئة من جملة المنشآت الصناعية في دول المجلس، إلا أن حجم استثماراتها ضئيل جداً ولا يتجاوز 22% من حجم الاستثمارات في القطاع الصناعي الخليجي. وعلى الرغم من الانجازات التي تحققت في الاستثمار الصناعي الذي قفز نحو خمس مرات خلال 16 سنه (من 81 مليار دولار في عام 1998 إلى أكثر من 400 مليار دولار عام 2014) وشمل البتروكيماويات والاسمدة والالمنيوم وأجهزة التكييف، وهو تطور ايجابي، لكن المؤسسات الدولية وصفته بأنه ضئيل مقارنة بطموحات خليجية، وإذا كانت مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي تبلغ حالياً نحو 10 في المئة، فان دول المجلس تتطلع لرفعها إلى 25 في المئة في العام 2020، مستفيدة من النمو المتواصل للقطاع وحجم الاستثمارات الحكومية والخاصة المتدفقة في المشاريع الصناعية، مع الاشارة إلى أن الأمانة العامة لاتحاد الغرف الخليجية توقعت أن يتضاعف حجم الاستثمار الصناعي في دول المجلس نحو ثلاث مرات ليتجاوز التريليون دولار في العام 2020، بعد إنجاز تجهيز المدن الصناعية. في مجال تخفيض الانفاق الحكومي، وتنويع مصادر دخل الخزينة، تشمل الدراسات التي تجري مناقشتها بين حكومات دول الخليج وصندوق النقد والبنك الدوليين، عدة مقترحات، منها رفع الدعم عن مشتقات النفط، وأوضح رئيس البنك الدولي جيم يونغ كيم أن دراسات أعدها صندوق النقد وشاركنا فيها تظهر ان الفئات الأعلى اقتصادياً تستفيد 6 مرات من دعم الوقود من الطبقة الأدنى اقتصادياً (في الدول التي تدعم الوقود)، مؤكداً "أن هذه البرامج لا تحمي الفقراء، بل يستفيد منها الأغنياء بشكل لافت"، ودعا الى التخلص منها". وتبرز خطورة هذه المشكلة بسبب ارتفاع تكلفتها على خزينة الدولة مع ارتفاع الاستهلاك إلى مستويات عالية نتيجة خفض أسعار المشتقات النفطية، وقد تبين أن نمو الطلب على النفط في أربع دول أساسية في انتاجه وهي: السعودية والإمارات والكويت وقطر، قد تنامى بمعدل 8 في المئة سنوياً منذ عام 1972، في مقابل معدل 2% لبقية بلدان العالم، وهذه الدول التي يبلغ عدد سكانها الاصليين والوافدين واحداً في المئة من سكان العالم، تستهلك خمسة في المئة من استهلاك النفط عالمياً، والسعودية وحدها تستهلك 25 في المئة من انتاجها، وتعادل استهلاك روسيا وأكثر من استهلاك البرازيل الذي يبلغ سكانها 150 مليوناً، ويعود السبب في هذا الاستهلاك الخليجي الكبير الى التطور السكاني والاعماري ورخص الاسعار، سواء للبنزين والمازوت او الغاز او الكهرباء، وكثافة استعمال السيارات وأجهزة التبريد والتكيف في معظم أشهر السنة بسبب الحر. وتفيد التقديرات أن ألغي الدعم للبنزين والغاز والكهرباء والمازوت يؤدي الى انخفاض استهلاك الكهرباء في الكويت بنسبة 60%، والإمارات بنسبة 40%. ورغم ذلك يرى بعض الخبراء أن البحث يتجه نحو خفض الدعم من دون الغائه كلياً، إضافة إلى مقترحات بفرض رسوم وضرائب خصوصاً بالنسبة للسلع غير الضرورية، وسلع الاستهلاك التفاخري التي تسهم في تشكيل أنماط استهلاكية ضارة بالفرد والمجتمع وتؤثر سلباً على ميل الافراد نحو الادخار، وكذلك فرض رسوم تهدف إلى حماية الانتاج الوطني من المضاربة الإغراقية، خصوصاً وأن هذه الحماية حق من حقوق الدول المنتجة، وفق الاتفاقات الدولية، ووضع دراسة شاملة للرسوم التي تتقاضاها الدولة مقابل الخدمات التي تقدمها والأراضي التي تؤجرها، بهدف تعزيز الايرادات غير الضريبية، وتنويع مصادر دخل الخزينة العامة. وتبقى الاشارة إلى أن خبراء الاقتصاد الخليجيين وكذلك الخبراء الدوليين، يرون أن تراجع اسعار النفط يجب أن لا يكون مدعاة للقلق بقدر ما هو فرصة للتغيير الاقتصادي وتنفيذ اصلاحات ماليه واجتماعيه تهدف الى اعتماد خطط ملائمة للتنمية المستدامة.