نرفض مايناقض الفطرة السليمة.. شيخ الأزهر يستقبل مبعوثة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان    جامعة أسيوط تعزز الدعم النفسي والاجتماعي للطلاب عبر اجتماع وحدة الأبحاث    رئيس الوزراء يُتابع الموقف التنفيذي لمشروعات الطاقة الجديدة والمتجددة    الرئيس الأوكراني: روسيا تتجاهل محاولات الدول الكبرى لإنهاء الحرب    إندونيسيا: ارتفاع عدد ضحايا الفيضانات والانهيارات الأرضية إلى 69 قتيلا وفقدان 59 آخرين    المصري يختتم استعداداته لمواجهة زيسكو بالكونفدرالية    الزمالك يعين الدكتور مصطفى عبدالخالق مستشارًا لمجلس الإدارة لشؤون المتابعة    الأهلي يشكر مسئولي الجيش الملكي    الجيزة: غلق شارع الأهرام 3 أشهر لأعمال مترو المطبعة    هذا هو موعد عرض الحلقة الأخيرة من مسلسل ورد وشوكلاتة    هالة الصفتي.. حسناء سيف الدين تُشوق الجمهور لمسلسل 2 قهوة    رئيس الوزراء اللبناني: المرحلة الأولى من حصر سلاح حزب الله يفترض أن تنتهي مع نهاية العام الجاري    جامعة كفر الشيخ تحصد برونزيتين في بطولة دوري الجامعات|صور    «رجال يد الأهلي» يفوز على البنك الأهلي في دوري المحترفين    الجدول النهائي لبقية مراحل انتخابات مجلس النواب 2025    قفلوا عليها.. سقوط طفلة من الطابق الثاني في مدرسه بالمحلة    حملة فى مركز الصف بالجيزة لإزالة حالات تعدٍ على الأراضى الزراعية    ديبالا يقود تشكيل روما أمام ميتييلاند بالدوري الأوروبي    بعد ترشيح معزوفة اليوم السابع لجائزة الشيخ زايد.. جلال برجس ل الشروق: سعيد بالتواجد وسط كتاب مبدعين    أبى انطلق إلى العالم ببركات السيدة زينب    هل الصلاة في مساجد تضم أضرحة جائزة أم لا؟ أمين الفتوى يجيب    هل مصافحة المرأة الأجنبية حرام؟.. أمين الفتوى يجيب    خالد الجندي: الخشوع جوهر الصلاة وروحها ويُحذر من هذه الأمور(فيديو)    هيئة الرعاية الصحية تمنح الدكتور محمد نشأت جائزة التميز الإداري خلال ملتقاها السنوي    هيئة الرعاية الصحية تمنح رئيس قطاع إقليم الصعيد جائزة التميز الإدارى    علا الشافعي: لجنة الدراما بالمجلس الأعلى لم تعقد منذ فترة ولا توجد قرارات ملزمة    مدبولي: نتابع يوميًا تداعيات زيادة منسوب المياه    بالأسماء.. إصابة 7 طلاب فى حادث تصادم سيارتين بأسوان    «فاكسيرا» تضع خارطة طريق لمواجهة فصل الشتاء    انخفاض الحرارة غدا.. وأمطار على بعض المناطق والصغرى بالقاهرة 16 درجة    مريم نعوم تعلّق على توجيهات منسوبة للجنة الدراما بشأن مسلسلات رمضان: لو الخبر صحيح سأعلن إضرابي عن العمل    توزيع آلاف الطرود الغذائية والمساعدات الشتوية من مصر لقطاع غزة    رئيس لجنة مراجعة المصحف بالأزهر: دولة التلاوة ثمرة الكتاتيب في القرى    رئيس جامعة بنها : اعتماد 11 برنامجا أكاديميا من هيئة ضمان جودة التعليم    سوريا تعلن إطارا تنظيميا جديدا لإعادة تفعيل المراسلات المصرفية    مقتل سيدة بطلقات نارية في قنا    وزير الصحة يزور أكبر مجمع طبي في أوروبا بإسطنبول    الصحة: فحص أكثر من 4.5 مليون شاب وفتاة ضمن مبادرة فحص المقبلين على الزواج    إصابة شخص في انفجار أنبوبة غاز بقرية ترسا بالفيوم    منظمات حقوقية: مقتل 374 فلسطينيا منهم 136 بهجمات إسرائيلية منذ وقف إطلاق النار    أوقاف الغربية تنظّم ندوة علمية بالمدارس بعنوان «حُسن الجوار في الإسلام»    التحقيق مع 5 عناصر جنائية حاولوا غسل 50 مليون جنيه حصيلة النصب على المواطنين    غلق 32 منشأة طبية خاصة وإنذار 28 أخرى خلال حملات مكثفة بالبحيرة    السعودية: 4.8% من سكان المملكة أكبر من 60 عاما    هشام نصر يصل اتحاد الكرة لحضور الجمعية العمومية ممثلا للزمالك    وزير البترول يعقد لقاءً موسعاً مع شركات التعدين الأسترالية    حقيقة فسخ بيراميدز تعاقده مع رمضان صبحي بسبب المنشطات    سلطات هونج كونج: ارتفاع عدد قتلى حريق اندلع بمجمع سكني إلى 55    جامعة بنها ضمن الأفضل عربيًّا في تصنيف التايمز البريطاني    وزير الانتاج الحربي يتابع سير العمل بشركة حلوان للصناعات غير الحديدية    جولة إعادة مشتعلة بين كبار المرشحين واحتفالات تجتاح القرى والمراكز    عمر خيرت يوجه رسالة للجمهور بعد تعافيه من أزمته الصحية.. تعرف عليها    وسائل الإعلام العالمية تشيد بشراكة مصر و "Jet2" البريطانية    د.حماد عبدالله يكتب: وظائف خالية !!    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 27نوفمبر 2025 فى المنيا.....اعرف مواعيد صلاتك    مندوب سوريا يكشف عن دور قطر في التخلص من الأسلحة الكيميائية السورية    البيان العسكري العراقي ينفي وجود طيران أجنبي جنوب البلاد    «امرأة بلا أقنعة».. كتاب جديد يكشف أسرار رحلة إلهام شاهين الفنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأبنودي يروي حكايته مع الغنم والسمك وسرقة «القلل»!
نشر في محيط يوم 22 - 04 - 2015


الوصفات وخبرات الأجداد بديلا عن الطبيب في بلدتنا!
"حبال الجحش" وسيلة اخترعتها أمي للإبقاء على حياتي!
لو كنت راح افتش
عن منصب ولا جاه
واصاحب الحذر
ده أنا ابقى مستحقش حلاوة الحياة
ولأنه لم يفعل ذلك استحق أن يعيش أياماً حلوة، إنه الشاعر الكبير الراحل عبدالرحمن الأبنودي، الذي يتوقف "محيط" عند كتابه "أيامي الحلوة" لنعرض مقتطفات من طفولة وسيرة شاعرنا الكبير.
يقول الأبنودي في مقدمة كتابه الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب: ما كنت أعتقد أن هذه المشاهدات ذات الدلالات الاجتماعية والفكرية والعاكسة لأحوال ومعتقدات وعادات الإنسان المصرى الفقير فى قرى الصعيد الجنوبية، تلك الموروثات المتداخلة الممتزجة القادمة من الفرعونية والقبطية والتى صبت فى مصر الإسلامية محتفظة بالقديم ليتخذ صورته على ضوء الدين واللغة الجديدين، لنحصل على شخصية بالغة التعقيد شديدة الغنى ، حضارية على الرغم من البساطة التى يتخذها المظهر الذى لا يشى ببعد الجذور وعمق الأغوار وهول مسافات المسيرة .
ما كنت أعتقد أو أتنبأ بحجم الاستجابة الجماهيرية لتلك المشاهد، والارتباط الحميم بما كتبت، وذلك الانتظار الأسبوعى لملحق جريدة الأهرام المعنون "أيامنا الحلوة" الذى أنشر فيه صباح كل يوم جمعة هذه القطع المجتزأة من "أيامى الحلوة".
يعتقد البعض أنها " سيرة ذاتية " وهى بالطبع ليست كذلك، فلقد عشت لا أؤمن ولا أصدق ما يسمى بالسيرة الذاتية ، لا أحب صراحتها الفجة ولا مواراتها الكاذبة ، لذلك لجأت لاقتطاع المشاهد الدالة من أيامى الماضية، والتى تعطى صورة عن حياتى التى لا تخصنى وحدى أكثر مما تحكى عنى شخصيا . فمن المعروف أنى لم أولد وفى فمى ملعقة من ذهب ، بل كنت يوميا أقرب للموت منى للحياة ، ومع أنى كنت ألامس ذلك الموت فى كل لحظة بسبب ضعفى الصحى الشديد وضيق ذات يد الواقع من حولى عن ضخ أسباب النمو والمواصلة فى بدنى الهزيل . إلا أننى عشت حياة لم يعشها الأصحاء . استمتعت بطفولتى على عكس كل أبناء المدن الذين يحملهم "الباص" صباحا إلى المدرسة، ويحملهم فى العودة إلى "شقق" أهاليهم.
يرون الواقع من خلف زجاج الأتوبيسات ولا يتعاملون مع الحياة الحقيقية للبشر. كل صلتهم بالدنيا هذه النوادى أو شواطىء البحار صيفا، ومن الصعب حين يكبرون أن يتذكروا تفاصيل ثرية لحياة ثرية.
أما نحن أبناء الطفولة الفقيرة العبقرية فإننا مدينون لفقرها بهذا الثراء الكبير الذى تمتلىء به أرواحنا وذاكراتنا ودفاتر الماضى والحاضر، ليوحى كل ذلك إذا ما تذكرناه بما يشبه النية فى كتابة سيرة ذاتية.
لم أفكر يوما فى كتابة "سيرتى الذاتية" فلست نابليون أو هتلر أو بابلو نيرودا، فأنا لا أتعدى أن أكون مواطنا بسيطا عاش فقيرا فى قرية اسمها "أبنود" ثم انتقلت إلى مدينة "قنا" لأعيش فى كنف والدى بعد طول فراق لتختلف الحياة قليلا عما كانت، وما عدا ذلك هو رحلتى الخاصة .
ولأنى خرجت من القرية وكأنى عصارتها ، فقد حملت تاريخها وباطنها ووجهها فى الضمير – دون قصد – وسرت فى الحياة، فإننى فى هذه المشاهد التى يحويها هذا الكتاب والتى سأحاول استكمالها فى جزء آخر، إنما أحاول القبض على جوهر الروح ولب الفكرة التى تحكم حياة الإنسان المصرى الأصلى الذى لم يفقد الصفات القديمة للإنسان النيلى بعد.
في كتاب "أيامي الحلوة" تحدث عبدالرحمن الأبنودي عن ألوان نشاطه- وهو طفل- في قريته "أبنود".. راعيا للغنم وصائدا للسمك.. كما تحدث عن أغاني النساء.
فاطمة قنديل والفرار من الزواج
يحكي الأبنودي في كتابه عن أمه فاطمة قنديل التي فرت من زوجها وهي طفلة، يقول: " كلما قرأت مقالاتهن أو سمعتهن في التليفزيون، أو في تجمعات المرأة التي تسعى للتحرر. تذكرت "فاطنة قنديل أمي" واغتصابها "الشرعي" وهي طفلة ورفضها الذي بدأ بتسلق الجدار – يقصد جدار بيت أهلها التي عادت إليه في ليلة دخلتها – وكيف لاذت بالمرض وتحصنت بالموت رافضة للوضع الظالم والعلاقة غير المفهومة بين الرجل والمرأة، وأعرف في أعماق يقيني أنها كانت في طليعة المرأة المناضلة في مصر، بل ربما بأمّيتها وسذاجتها وفطرتها تتفوق عليهنّ!.
تقول فاطمة: لم اعش حرة كثيراً. جاء والدك وكان طالبا في المعهد الديني ليطلب يدي.
هكذا وُلدت!
يروي الشاعر الكبير عن لحظة ولادته وكيف تحملت أمه مشقة الطريق من "قوص" لتلده في بلدتها "أبنود" وكان الطريق قاسياً، يقول الأبنودي كان الوالد معلم اللغة العربية قد عين في قرية "نقادة" في ذلك الوقت، والتي تقع غرب مدينة "قوص" علي شاطيء النهر.
رافقت أمي زوجها معلم العربية والدين بمدرسة "الأقباط" بنقادة لفترة محدودة لأول سَفرة إلي خارج "أبنود"، ولأول مرة في ولاداتها العديدة تخطيء "فاطنة قنديل" في حساب مدة الحمل. ربما لأنها كانت بعيدة عن الحصيفة الحكيمة أمها "ست أبوها".. لذلك فقد فاجأتهما برغبتي الملحة في الخروج إلى الضوء ووضعتهما في مأزق من الصعب تفسير حرجه أو شرح جوانب قسوته على رجل الدين المعلم والمرأة القروية الخجولة في بلدة غريبة لن تكشف عن جسدها أمام عيون نسائه الغريبات حتي لو ماتت في مخاضها.
ارتبك الرجل الشيخ وراحت شفاهه ترتعش محوقلة مبسملة وهو يكتب عذر الاجازة للمدرسة ويلملم أمواله، وهو يتهيأ معها للرحيل العاجل من "نقادة" إلى "أبنود" إذ لابد أن أولد في نفس المكان الذي ولد فيه جميع اخوتي في بيت "قنديل" و"ست أبوها" في قلب أبنود . كان يعتقد أنه من العار أن تلدني أمي في بلدة غريبة.
يقول الأبنودي عن لحظة ولادته: وما أن خطت "فاطنة قنديل" ، لتعبر عتبة البيت حتى انزلقت منها وهي قدم خارج البيت وقدم داخله. فزغردت النسوة وهلل الرجال وانصرفوا متعجبين. هكذا جئت إلى الدنيا قدم داخل الدار مستعدة للعيش مئة سنة، وقدم أخرى على الطريق مستعدة للفرار من هذه الحياة قبل أن ينتبه أحد إلى ذلك.
يقول كذلك عن مولده: "ولدتني أمي في الحسومات، والحسومات حسب التقويم القبطي الذي مازال أهلنا يتبعونه هناك جميعا، أيام تسعة، تأتي في وقت معين من السنة القبطية، من يولد فيها من النادر أن يعيش، إنسانا كان أو حيوانا، وإذا عاش فإنه يعيش مثلي معلولا مكلولا مملولا محلولاً"، ويقول: "كنت ضعيفا، نحيلا وعليلا مزمنا، ضئيل البدن، أصفر الوجه، لدرجة أن أمي كانت وأنا طفل لا أعي تربط ركبتي المنحلتين بأشرطة من القماش تمسك الساقين اللتين تشبهان أعواد البوص كي لا تنفرطا".
ولكن من أين جاءت للأم هذه الخبرة.. يقول عبدالرحمن الأبنودي: "رأت أمي في أيام الحمل والوحم حمارة ولدت جحشا رفيعا عليلا.. رأت أمي الجحش الهزيل، ورأتهم يربطون ركبتيه بحبال كي تتماسكا، لذلك حين أنجبت ابنها السقيم فيما بعد ورأته غير قادر علي استعمال ركبتيه استوحت فكرة حبال الجحش، ونقلتها من ركبتي الحيوان إلي ركبتي الإنسان"، ويعترف عبدالرحمن الأبنودي بفضل أمه وحرصها علي علاج ابنها بكل ما تملك من خبرة وحب وإصرار:
"كانت فاطنة قنديل أمي تفخر بأنها حققت بي أكبر معجزة في الدنيا وهي أنها أبقتني علي قيد الحياة، في قتال مرير وحرب ضروس ضد الطبيعة وقوانين الوجود وبخبرتها الطيبة النادرة ووعيها بتجارب السابقين.. هذه الأم التي تخوض النار حقيقة لا مجازا من أجل إنقاذ طفل لديها عشرة أفضل منه.. إنها الحياة".
طقوس الحياة
يقول الأبنودي: في أوائل الخمسينيات لم نكن قد رأينا الطبيب في قريتنا رأي العين وإنما كان طبيبنا هو ميراثنا الفلكلوري مما خلفه الأجداد للأحفاد من وصفات وخبرات ومواد مصنعة من بيئتنا، إلى جانب أوراق الأشجار وحجارة الأرض المعطاءة، قبل أن تبني لنا حكومة الثورة "الوحدة المجمعة" وتعين لنا طبيباً خاصاً بأهالي قريتنا "أبنود" بمحافظة قنا جنوب مصر في صعيدها الأعلى.
يحكي كيف فعل جيران والدته به حين أصابه الإسهال وهو طفل في السادسة من عمره، لوصل "مصرانه" الذي قطع كما يقولو فأصيب بالإسهال، يقول: أتين بملاءة سوداء فرشنها على الأرض، ثم حملنني كخيارة فقدت ماءها ووضعنني في الملاءة السوداء باطنها مظلم وأي ظلام.
وقفن كل امرأة عن طرف..اثنتان من هنا واثنتان من هناك وصحن وهم يمرجحنني يميناً ويساراً كالمرجيحة بخفة أولاً ثم يبدأ العنف حين يسخن الدور ويطلطحنني في إنشاد رهيب:
يا شافي
يا عافي
شيل الأذى
من بطن واد فاطنة من عشية
يا عالم بالقصد والنية
خزق عين اللي قطعت مصرانه
وغيرت لحيته وألوانه
"واللحية كما يقول الأبنودي ليست الذقن وإنما هي الملامح".
ويعلق قائلاً: هذا الطقس الذي أدين له بحياتي والمتسبب في هذه الكتابة التي تبعث تعاسة الماضي وحلاوة أيامه اختفى اليوم في باطن "برشامة" صماء ليس بها ملاءة سوداء ولا يامنة أو ست أبوها، لا فاطنة قنديل ولا سكينة. لم يعد العصر الحديث يؤمن بقطع المصران، وإنما أطلق عليه بسطحية شديدة اسم "الإسهال"!.
الأغاني..وثائق قرية
يقول عبدالرحمن الأبنودي: "غناء القرية وجه مكتمل الملامح لكل أشكال الحياة فيها، لكل أنواع التداخلات المتشابكة التي تشكل أسباب استمرارها من علاقات اقتصادية أو اجتماعية أو فكرية أو روحية. القرية بكاملها موجودة ومتجسده في غنائها"، يردده الرجال والنساء والأطفال.. أولاد وبنات: "إن غناءهم نوع خاص جدا من الوثائق الأمينة.. سطروها هم أنشأوها بإرادتهم الكاملة واختيارهم الحر في غفلة عن القوانين التي حاصرتهم بها الأيام أو حاصروا هم أنفسهم بها إنها ثورة الإنسان المغني على نفس الإنسان حين لا يغني.. ثورة على النفس وعلى الآخرين".
يتابع: "بني فلاحنا المعاصر أبنيته الفنية من الموال إلى أغنيات العمل إلي أهازيج الأعراس و"عديد" النائحات إلي أذكار الرجال ومساجلاتهم الشعرية إلي الملاحم وغناء الأطفال أولاد وبنات.
لقد قسم هذه الأبنية الفنية بالعدل والقسطاس بين تسجيل الحياة بتفاصيلها وتخيل ما بعد الموت، لتصبح الأغنية سجله ومؤنسه".
يقول الأبنودي: كنت طفلا وأقل من طفل في أعقاب الحرب العالمية الثانية حين سمعت من (عمتي يامنة) رحمها الله أغنية أتعجب كيف احتفظت ببعض كلماتها في الذاكرة حتي الآن. أظن أن ما بعثها في داخلي وصورها للعقل هي الظروف "التموينية" القاسية التي أطبقت علىصدور الفقراء وهبطت بآمالهم للحضيض.
يواصل: لا أعرف أن فكرة البطاقات التموينية في مصر كانت بدايتها أحوال الحرب العالمية الثانية. المهم سمعت (يامنة) وهي تغني:
والله وغليت يادره
وحطوك في البتارين
رحت ل(جبارة) بيتأمر
عاوز بطاقة من البندر
أنا رحت للقاضي
قاللي مش فاضي
طنجر العمة
وأداني قلمين!!
هكذا كانت الأحوال، لأول مرة يطالبها الموزع الكبير للتموين "جبارة" ببطاقة تستخرجها من قسم البوليس، وهذا يستدعي سفرا للبندر، وهم يطلقون كلمة البندر علي قسم البوليس وحين وجدت العسر ذهبت تشكو للقاضي فأهانها!
راعي الغنم وصياد السمك
عن حياته طفلا- راعيا للغنم- يحدثنا عبدالرحمن الأبنودي في بساطة: "في المرعي عرفت لعب الطفولة الشاق المهلك الذي تتخرج منه رجلا بعد سويعات..
في المرعي ارتبطت بالطبيعة ارتباطا وثيقا لا فكاك منه، لتدخل مفردات مكوناتها وما وهبته للإنسان في عمق تلافيف معارفي وضميري السري، لم تعد هناك نباتة علي وجه الأرض لم أعرفها"، ويواصل: "الوعي إجباري، لأن عدم الوعي بما علي ظهر الأرض من نبات- على سبيل المثال- قد يؤدي إلى كارثة".
ويختتم كلماته عن مهنة الرعي فيقول: "إنها المدرسة الأولي- أو قبل الأولي- التي يتعلم فيها الراعي الصغير "الحبو" على درب الصعود نحو المغني الذي سيكونه بعد سنوات قلائل خلفا لسواقي وتحت الشواديف وفوق كراسي النورج، أو نحو الشاعر الذي سوف يكونه بعد أعوام وأعوام".
كذلك يقص علينا تفاصيل صيده للسمك فيقول:، زمان: "مع الفيضان كان الخير يأتينا محملا بأسماك الجنوب.. ويجب أن تعرف أنه لم يكن هناك "سد عالي" أو "بحيرة ناصر" لذا فالأسماك تأتي من الجنوب مباشرة من أفريقيا. كنا لا نحس لهيب الشمس.. نحن أبناء الشمس والنيل".
ويكمل قائلاً: "كان النهر يغص بعشرات الأنواع من السمك. لكل منها سلوك وطريقة في الغمز.. بعضها غبي وبعضها ذكي كالقرموط.. إن أجمل محاورة شقية متعبة هي معركة الذكاء بينك وبين الكائن العبقري المسمي "القرموط".
ويحدثنا عن سمك القرقار فيقول: "هو السمكة الوحيدة التي تبكي وتستنجد حين تخرجها السنارة كل الأسماك تقاوم أو تستسلم لمصيرها صامتة.. القرقار هو الوحيد الذي يملك صوتا..".
ذكريات رمضان
يتحدث الأبنودي عن عم الشيخ رفاعى، مؤذّن القرية، وحامل القرآن وقارئه، ويصفه بأنه رجل شديد الطيبة، ودمث الخلق، ويتمتع بنوع من الغياب -كما يكتب- عن حياتنا الواقعية كأن به مسًّا صوفيًّا، أو كأنه موجود وليس موجودًا فى حياتنا، وكان إذا قرأ يهمس، ولذلك تقول جدّته "ست أبوها" بأنه ينونو، وذلك على سبيل التفكّه أو السخرية.
المهم أن الشيخ رفاعى كان هو المكلَّف برفع آذان المغرب فى شهر رمضان، وكان هو المصدر الوحيد بالإيذان بموعد الإفطار والصلاة معًا، لندرة الراديوهات وانعدام التليفزيونات، ولأن صوت الشيخ كان خفيضًا، فكان الأطفال الذين يقفون بجوار المسجد، ويراقبون صعود الشيخ رفاعى إلى سطحه الواطى، ولا يعرفون بميعاد الإفطار والصلاة إلا عندما يرفع الشيخ رفاعى يديه ويضعهما على أذنيه، فلا جدوى من سماع صوته، وبعدها ينطلق الأطفال فى دروب القرية ليقوموا بمهمة إبلاغ الناس جميعًا بميعاد الإفطار، منشدين أغنية: "افطر يا صايم.. ع الكعك العايم"، والمقصود بالعايم أن الكعك يكون عائمًا فى السمنة البلدى، وتسرى الأغنية -كما يكتب- كالسحر فى صدور الصائمين فيفرحون ويفطرون بالهناء والشفاء.
ومن الطرائف التى يسردها الأبنودى أنه يتغنّى بالقُلل الفخار القناوية التى غنّى لها الشيخ سيد درويش، وهى التى تنقذ أهل قنا من الحر المميت، ولكن الأطفال لم تكفهم هذه القلل، ولكنهم كوّنوا فريقًا لمكافحة العطش فى هذه البلاد الحارة، وكان الهدف هو إذا فاجأ الإفطار أحدًا فى الشارع، فيجب أن يجد قُلة باردة فى انتظاره، والثواب عند الله كبير، ولا يجد الأبنودى غضاضة فى أن هؤلاء الأطفال وهو منهم، كانوا يذهبون لسرقة الأوانى الفخارية هذه، تحت شعار أنها غوث للمسلمين وإنقاذ الصائمين، والله سوف يتغاضى عن هذه السرقات البريئة المبررة من أجل الهدف "الإسلامى العظيم"، وهذا لأنهم -كما يكتب- فقراء وغير قادرين على توفير هذه الأوانى بأموالهم القليلة!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.