إتاحة الاستعلام عن القبول وموعد امتحان 21 وظيفة حرفي ب«الطرق والكباري»    رئيس جامعة القاهرة يفتتح المؤتمر الدولي لكلية الصيدلة    وزيرالتعليم العالي يبحث التعاون في البحث العلمي مع وزير خارجية جمهورية القمر    رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة: نأمل في تشكيل مستقبل لتحول رقمي شامل وأخلاقي وعادل    اجتماع تنسيقي بين «الرقابة المالية» و«التنمية المحلية» لبحث آليات التعاون    قانون الإيجار القديم أمام البرلمان.. الحكم الدستوري لا يحرر العلاقة بل ينظمها بعد عقود من الظلم    منال عوض تتابع جهود صندوق التنمية المحلية لتوفير فرص عمل للمرأة والشباب بالمحافظات    تموين الجيزة: حملات رقابية مكثفة على محطات الوقود ولا تهاون مع المخالفين    الرئيس السيسي يصل إلى أثينا في زيارة رسمية لليونان    مصر ترحب باتفاق وقف إطلاق النار في اليمن مع الولايات المتحدة    القسام تعلن قتل وجرح إسرائيليين في تفجير حقل ألغام جنوب غزة    مصر تُتابع بقلق بالغ تطورات الأوضاع في جنوب آسيا وتدعو الهند وباكستان إلى التهدئة    تشكيل الهلال المتوقع لمواجهة الرائد في الدوري السعودي    حبس تشكيل عصابي تخصص في سرقة المواقع تحت الإنشاء بالقطامية    تفاصيل حريق شقة تسبب في مصرع شخص وإصابة 3 آخرين بمنطقة فيصل    تأييد حكم حبس رجل الأعمال المتهم بالنصب على "أفشة" بالحبس 3 سنوات    تحرير 507 مخالفات مرورية بسبب عدم ارتداء الخوذة    تعرف على مدة الدراسة فى الترم الأول بالعام الدراسى الجديد 2026    ضبط 379 مخالفة متنوعة في مجال الأسواق والمخابز البلدية في أسوان    ملتقى القاهرة السينمائي يعود بمشاريع جديدة.. التقديم مفتوح حتى أغسطس    مليون و227 ألف شخص شاهدوا فيلم سيكو سيكو في 5 أسابيع    كندة علوش: تكشف «رد فعلها في حال تعرضها لموقف خيانة في الواقع»    الطيب صالح و«بيضة الديك»!    أسامة ربيع: توفير الإمكانيات لتجهيز مقرات «الرعاية الصحية» بمواقع قناة السويس    مصيرهم مش بإيديهم| موقف منتخب مصر للشباب من التأهل لربع نهائي أمم أفريقيا    المؤبد لعاطل لحيازته 7 كيلو لمخدر الهيروين بالإسكندرية    هل يمنح الدائن حقوق مطلقة؟ تعرف على قيود الرهن العقاري في القانون    اليوم.. الرئيس السيسي يتوجه إلى اليونان في زيارة رسمية    وزير الري يتابع إجراءات تطوير منظومة إدارة وتوزيع المياه في مصر    بيدري منتقدا الحكم بعد توديع الأبطال: ليست المرة الأولى!    سفير مصر ووزيرة الثقافة الفرنسية يشاركان باحتفالية إصدار كتاب حول مسلة الأقصر    ما حكم إخراج المزكى زكاته على مَن ينفق عليهم؟.. دار الإفتاء تجيب    الأزهر يصدر دليلًا إرشاديًا حول الأضحية.. 16 معلومة شرعية لا غنى عنها في عيد الأضحى    زيزو يتظلم ضد عقوبات الزمالك وجلسة جديدة لاستماع شكواه    الفريق أسامة ربيع يبحث مع رئيس هيئة الرعاية الصحية سبل التنسيق المشترك    طريقة عمل الفطير المشلتت الفلاحي على أصوله    كندة علوش تكشف علاقتها بالمطبخ وسر دخولها التمثيل صدفة    سعر اللحوم الحمراء اليوم الأربعاء 7 مايو    إحالة عاطلين للمحاكمة الجنائية لسرقتهما 6 منازل بمدينة بدر    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الأربعاء 7 مايو 2025 م    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأربعاء 7 مايو 2025.. حديد عز ب39 ألف جنيه    أمير مرتضى منصور: «اللي عمله الأهلي مع عبدالله السعيد افترى وتدليس»    ترامب: لا يمكن لإيران أن تمتلك أسلحة نووية ولن يبقى أمامنا خيار إذا سارت في طريق آخر    إريك جارسيا يلمح لتكرار "الجدل التحكيمي" في مواجهة إنتر: نعرف ما حدث مع هذا الحكم من قبل    «سترونج اندبندنت وومان».. 3 أبراج نسائها تمتلك شخصية قوية في العمل    "ماما إزاي".. والدة رنا رئيس تثير الجدل بسبب جمالها    موعد مباريات اليوم الأربعاء 7 مايو 2025.. إنفوجراف    الذكرى ال 80 ليوم النصر في ندوة لمركز الحوار.. صور    موعد إجازة مولد النبوي الشريف 2025 في مصر للموظفين والبنوك والمدارس    ترامب يعلّق على التصعيد بين الهند وباكستان: "أمر مؤسف.. وآمل أن ينتهي سريعًا"    «تحديد المصير».. مواجهات نارية للباحثين عن النجاة في دوري المحترفين    مُعلق على مشنقة.. العثور على جثة شاب بمساكن اللاسلكي في بورسعيد    من هو الدكتور ممدوح الدماطي المشرف على متحف قصر الزعفران؟    الهند: هجومنا على باكستان أظهر انضباطًا كبيرًا في اختيار الأهداف وطريقة التنفيذ    أطباء مستشفى دسوق العام يجرون جراحة ناجحة لإنقاذ حداد من سيخ حديدي    أمين الفتوي يحرم الزواج للرجل أو المرأة في بعض الحالات .. تعرف عليها    ارمِ.. اذبح.. احلق.. طف.. أفعال لا غنى عنها يوم النحر    «النهارده كام هجري؟».. تعرف على تاريخ اليوم في التقويم الهجري والميلادي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
هكذا ولدتُ


الأبنودى
وحين يقترب الشتاء، أكمش كحيوانات البيات الشتوي
«أقنفد» تحت أغطيتي وأصبح قطعة من حطب يابس
كان الوالد معلم اللغة العربية قد عين في قرية «نقادة» في ذلك الوقت، والتي تقع غرب مدينة «قوص» علي شاطيء النهر.
كانت «نقادة» أنموذجاً لتزاوج وتمازج الحضارات الثلاث: الفرعونية والقبطية والإسلامية تحتل بردياتها وأوانيها وتماثيلها وأكفانها أجنحة مرموقة في المتحف البريطاني ومتحف اللوفر الفرنسي.. لم أكن أعلم شيئاً عن كل ذلك فقد كنت في بطن أمي التي رافقت زوجها معلم العربية والدين بمدرسة «الأقباط» بنقادة لفترة محدودة لأول سَفرة إلي خارج «أبنود»، ولأول مرة في ولاداتها العديدة تخطيء «فاطنة قنديل» في حساب مدة الحمل. ربما لأنها كانت بعيدة عن الحصيفة الحكيمة أمها «ست أبوها».. لذلك فقد فاجأتهما برغبتي الملحة في الخروج إلي الضوء ووضعتهما في مأزق من الصعب تفسير حرجه أو شرح جوانب قسوته علي رجل الدين المعلم والمرأة القروية الخجولة في بلدة غريبة لن تكشف عن جسدها أمام عيون نسائه الغريبات حتي لو ماتت في مخاضها.
ارتبك الرجل الشيخ وراحت شفاهه ترتعش محوقلة مبسملة وهو يكتب عذر الاجازة للمدرسة ويلملم امواله في البيت المكتَرَي وهو يتهيأ معها للرحيل العاجل من «نقادة» إلي «أبنود» إذ لابد أن أولد في نفس المكان الذي ولد فيه جميع اخوتي في بيت «قنديل» و «ست أبوها» في قلب أبنود . كان يعتقد أنه من العار أن تلدني أمي في بلدة غريبة.
هكذا لفت «فاطنة قنديل» ملاءتها السوداء حول رأسها وبطنها المتكور، واتجهت ثقيلة موجوعة إلي شاطيء النهر مع رجلها تاركين خلفهما القرية ذات الطابع القبطي المتخصصة في نسج «الفِرْكَة» الحريرية التي كانت ترتديها معظم النساء في السودان، وأنوال النسيج التي تطل عليك من مداخل الدور وتلك الحبال القوية الممتدة من نخلة إلي نخلة ينشرون عليها الحرير الطبيعي الذي صبغوه في مصابغهم البدائية بطريقة عبقرية متوارثة جيلاً بعد جيل منذ عوالم وأجواء أجدادنا القدماء!!.
دعونا من كل ذلك ولنتتبع ظلي سيدنا «إبراهيم» وستنا «هاجر» في رحلتهما المدهشة لإنجاب سيدنا «إسماعيل»، فأنا لم أكن «سيدنا إسماعيل» ولم تكن «فاطنة قنديل» ستنا «هاجر» ولا كان «الشيخ محمود الأبنودي» سيدنا «إبراهيم» لقد كان علي ثلاثتنا أن نلعب أدوارنا البشرية القاسية وأن نتلقي آلامنا البشرية في ذلك الامتحان العصيب عبر تلك الرحلة لأستقر أخيراً علي أرض الوجود.
كان الطريق من أبنود إلي نقادة بالغ التعقيد رغم بساطته، إذ كان «علينا» أولاً أن نتجه إلي النهر لننتظر «الرفاص» لأنه يرفس الماء خلفه - الذي سوف يقلنا إلي «مدينة قوص» لنركب القطار.
علي «الرفاص» وفي زحام البشر والماشية والأشياء، سمع الشيخ أنيناً لم يخطر بباله أن الأنين في الزحام لزوجته بعد أن ركلتُها ركلة مؤذية، فانصرف يتأمل النهر وتقلُّب الموج «رفْص الرفاص» ويرد السلام علي من تعرفوا عليه، حين أحس بيد قوية تشد ذيل جُبته نظر فرأي «قنديلة» وقد جحظت عيناها وقفزت خارج شق الضوء من فرجة الملاءة. رأي حاجبيها وقد تقوسا لأول مرة منذ زواجهما . استمع مرة أخري إلي الأنين الذي أنكره منذ لحظات واضحاً هذه المرة فتيقن أنه صادر عنها فتلبسه الرعب.
نظر إلي الشاطيء القريب فرآه بعيداً، وكلما اقترب الصندل كان الشاطيء يبتعد متعمداً حين بلغا البر لم يعد من الممكن اخفاء الأمر.
كيف ستعبر المرأة الموثقة بملاءتها وحملها علي السقالة وفي نفس الوقت ما كان الشيخ سيسمح لرجل آخر بالمعاونة، كان علي «فاطنة» بالبطن التي تكاد تنفجر، والمكبلة بملاءتها أن تمشي كلاعب الزانة في السيرك حين يمشي علي الحبل؟
وتحير الشيخ في الطريقة الأفضل، هل يمشي أمامها علي السقالة فتمسك به أو يمشي خلفها ليلحقها إذا انزلقت القدم قبل أن تهوي إلي النهر!! كيف عبرت الأم علي هذه السقالة تحت وطأة ألم أفقدها الرؤية وأطاش صوابها بالبطن المنتفخ وجنون المخاض والصمت الإجباري لتصل إلي الأرض فتتكوم كالحيوان الذبيح تئن دون صوت أمام هذا الواقف علي رأسها يدعو الله أن يصبر عليها حتي يصل إلي الديار ويتوسل إليها أن تتحمل فتصيح منفجرة! «أكتر من كده تحمل يا شيخ محمود..؟ انت راجل ما جربتش وجع الولادة.. اسكت»، كيف صعدت كل ذلك الجسر الذي كونه الطمي عبر القرون؟ «ان لم تسكت يا شيخ محمود حادلقه هنا قدام الخلق» والرجل لا يستطيع الصمت فيعود ليشجعها علي المواصلة والتحمل ويهون عليها فكرة الوصول إلي محطة القطار وهو يعلم في قرارة نفسه أنها رحلة مستحيلة، فمن هنا للمحطة ليس أقل من نصف ساعة، وحتي إذا أخطأ القطار الذي يقف عند كل لافتة وكل طلة نخلة أو أطلال بيت فأمامه نصف ساعة أخري ليصل إلي أبنود.. قطار يمشي كأنه يعرج ونادراً ما يأتي في موعده.
من شاطيء النهر إلي محطة القطار صرفا من الوقت أكثر من ساعة، كانت «قنديلة» خلالها تتسند علي الجدران والاشجار وإذا لم تلمح أحدا في الطريق تصرخ فيجزع الشيخ خوفا من أن يأتيها الطلق في الشارع: «اتحملي يا فاطنة، اتجلدي يابوي، المحطة بانت أهه».. حين بلغت فاطنة محطة قوص كانت كأن روحها ازهقت.. أيقنت أنها في طريقها للموت، فرقدت هناك تحت شجرة لبخ غير مبالية بتوسلات الشيخ الذي كان جسده ينتفض احساساً بالعار، وخوفاً من الفضيحة.
راح يدور كالمجنون.. ذهب لقطع التذكرتين وعاد ليجدها نائمة تحت الشجرة ومغطاة بملاءتها، فيحاول هزها ليتأكد أنها لم تمت ينظر حواليه ويفعل ذلك.
غاب القطار وغاب، وغابت فاطنة قنديل عن الحياة طويلاً، ولم تعد لها الروح إلا بمجيء القطار.
في القطار لم تستطع الجلوس علي الكراسي الخشبية القاسية، فتكومت علي الأرض خلف الباب يسترها الشيخ بجبته وقفطانه الطويلين.
حين يصرخ القطار تصرخ معه، وحين يئن تئن، وتسكت موجوعة أثناء وقوفه في المحطات!!
لم يكن أحد يركب القطارات في ذلك «الزمان» إلا في أيام الأسواق أو لضرورة قصوي.. لم يكن في عربة القطار أكثر من خمسة أو ستة أشخاص.. القطار اللعين ضيع أكثر من ساعة أي ضعف الوقت ليتوقف أخيراً في أبنود حيث أنزلها الشيخ بصعوبة وكاد القطار أن يختطفها منه ويجري فقد دبت فيه الحياة فجأة.
وصلت فاطنة قنديل إلي «أبنود» وأنا في بطنها أحتج وأرفس وأولول متعجلاً الخروج من خنقة الداخل.
في «أبنود» لا يهم أن يعرف الخلق أن «قنديلة» علي وشك أن تلد لكي يقدموا يد المساعدة، فهي هنا في حوزة ورحمة أيد مدربة وغير غريبة.
جاءت الركائب وتعاون الجميع لتركب وهي بين الحياة والموت.. حين يركب الرجال الحمار، فإنهم يضعون الساقين منفرجتين كما نعرف.. رجل من هنا ورجل من هناك.
أما النساء فإنهن حين يركبن يضعن الساقين متجاورتين علي جنب واحد تركب أمي فأضغط علي بطنها لأن بطنها تضغط علي فتصرخ «نزلوني» حين تمشي خطوة مستندة علي أكتاف النسوة اللاتي تجمعن كأنما انشقت عنهن الأرض فتقف لتصرخ: «ركبوني» نزلوني، ركبوني، نزلوني، ركبوني،،،،.
ومن المحطة إلي بيت جدي حوالي ثلاثة كيلومترات، قطعها الموكب الذي تقاطر ليصبح جمعاً رهيباً، من قبل العصر إلي المغرب، فتصل إلي البيت والليل يدق أبواب أبنود.
ما ان خطت «فاطنة قنديل» لتعبر عتبة البيت حتي انزلقت منها وهي قدم خارج البيت وقدم داخله، فزغردت النسوة، وهلل الرجال متعجبين.
هكذا جئت إلي الدنيا: قدم داخل الدار مستعدة للعيش مائة سنة، وقدم أخري علي الطريق مستعدة للفرار من هذه الحياة قبل أن يتنبه إلي ذلك أحد!!.
«من كتاب أيامي الحلوة»
برد الشتا
لا أحب البرد، وليس ثمة تفاؤل بيني وبين الشتاء، فقد ولدت في منطقة حارة في جنوب الصعيد، بقرية في محافظة «قنا» اسمها «أبنود» فامتلأ جسدي بحرارة شمسها القائظة.
ما تطلقون عليه «النسيم» يكون بالنسبة لي برد أقشعر له، وحينما ترتدون قمصانكم «النص كم» أبحث أنا عن «بلوفرات» الشتاء الماضي، أنا أنتج صيفاً، يهل علي الشعر صيفاً، وحين يقترب الشتاء أكمش كحيوانات البيات الشتوي، «أقنفد» تحت أغطيتي وأصبح قطعة من حطب يابس، حين أذكر لهم أني من «قنا» يقولون: «قنا عذاب النار» صدق الله العظيم.. قلت للمذيعة: أنتم تعتقدون أن ثلاثتنا: أمل دنقل، ويحيي الطاهر، وأنا هجرنا قرانا وجئنا من أجل أن نجد مجالاً للكشف عن مواهبنا، لا، نحن جئنا هرباً من قيظ الصيف واضطررنا للكتابة حتي يصبح هناك مجرد مبرر لتواجدنا في مدينتكم!!.
ويتسلل الشتاء ببرده ومعاناتي منه في أشعاري أكثر من أمي المتيم بها، فلدي دائماً مساحة في شعري للشتاء.
لكن قريتي في مثل هذه الأيام الباردة من نهايات العام، وميلاد السيد المسيح تصبح كرنفالاً واحتفالات يومية متواصلة: فمن رعرعة أيوب، لأحد السعف الذي كنا ننسج من جريدة النخل وخوصها أشكالاً فنية رائعة.
كلها مواسم قبطية لكننا كنا نستولي عليها ونشاركهم فيها، تماماً كما كان الشباب المسلم يسافرون للاحتفال ب(العدرا) أو (مارجرجس) وكنا نحسدهم علي ذلك.
ولربما كان طقس (البلابيصا) هو أكثر الطقوس شاعرية وغموضاً ومتعة، فقد كنا نستعد له قبل (عيد الغطاس) ومن قبلنا كان (القفاصون) يستعدون أيضاً بصنع (صلبان) جريدية يثقبون أطرافه الأربعة لنغرس فيها الشموع الرفيعة الطويلة وفي قلب الصليب عود صاعد من الجريد نغرس فيه برتقالة، ثم نغرس الصليب بأكمله وبشموعه الصاعدة في عود قصب من ذلك القصب الذي اختفي لعن الله من أخفاه وبدد زراعته: القصب الأحمر، و «دراع البِسّ»، الذي يشبه ألوان يد القط : خط أحمر وخط أصفر وخط أبيض، المهم يجب أن نعرف أن القري لم تكن تعرف الكهرباء في ذلك الوقت - وفجأة، يرفع كل طفل عود القصب بصليبه المشتعل المضيء وفي قلبه البرتقالة، وندور ونحن نغني لنلتقي بأطفال الدروب الأخري إلي أن نصبح بدنا رهيباً يضيء القرية أينما سرنا، وتخرج النساء مسلمات وقبطيات يرشوننا بالفشار والحمص والبلح ويزغردن بمرح ونزق.
لم يكن أحد يفرق بين عيد مسلمين أو نصاري، كان الطقس بمجمله طقساً واحتفالية للجميع.
أهم ما في ذلك الطقس كانت أغنيته التي تنتمي إلي الشعر الحديث جداً، جمِّعت مفرداتها بحرية أشياء من أعياد المسيحيين، و«نتفا» من التاريخ، وألفاظاً سحرية تدل علي انقضاء العام الميلادي، وكان اسم هذا الطقس الشعبي القبطي «البلابيصا» وحتي وقت قريب جداً لم أكن أفهم معني للكلمة العجيبة التي يخرج منها الفعل: (بلبصي).
تقول الأغنية الفريدة:
(يا بلابيصا
بلبصي الجلبة
يا «علي» يا ابني
قوم بنا بدري
دي السنة فاتت
والمرا.. ماتت
والجمل برطع
كسر المدفع
يا بلابيصا...)
ولم أعرف معني البلابيصا وبلبصي إلا قريباً جداً، حين تذكرت أنه طقس للاحتفال بعيد «الغطاس» وفي الغطاس تعري المواليد الجدد وتغطس في الماء، ولابد أن يكون المولود بلبوصاً وربما كانت كلمة فرعونية بمعني عاري المهم أنها احتفالية ب(البلبصة) ونأتي لمعاني الأغنية.
(يا بلابيصا.. بلبصي الجلبة، أي غطسي الطفل في ماء التعميد، ثم يدخل اسم «علي» يعني لا جرجس ولا بطرس علي الرغم من مسيحية الطقس، فالأم تقول لابنها «علي» قم بنا في وقت مبكر لأن السنة ماتت ونحن علي أبواب عام جديد، والمرأة التي ماتت هي السنة الماضية، أما الجمل الذي «برطع» فكسر المدفع إنما هي صورة تاريخية تسربت من النضال ضد المحتل الفرنسي والمدافع التي سرقها المواطنون ودكوا بها معاقل وسفن الفرنسيين إبان حملة «ديزيه»!!
هذا.. واقتراب عيدي الميلاد المسيحي والإسلامي وهو رمز لوحدة أبناء الوطن الواحد، تماماً مثلما فعلت أغنية (البلابيصا) القديمة.
كل عام ومصر بمسلميها ومسيحييها بخير رغما عن أنف من يحرمون مشاركاتنا والسلام علي إخوتنا ، أضف إلي ذلك أنهم حرَّموا علي المسلمين هذا العام حلاوة الاحتفال بمولد النبي الكريم «حُرْمت عليهم عيشتهم» فهم لا يستحقون الخبز الذي يطفحونه.!!
شطرنج
الثلاثاء:
في السجن الطويل سجن المثقفين أو الأفنديات حين توزع عليهم «الجراية» اليومية الخبز الذي يقتات عليه السجين يعلمهم السجن ضمن ما يعلم سجناءه كثيراً من المهارات، كيف يجمعون «لِبَّة الرغيف» وخبز السجن ثقيل أي أنه ناقص النضج في داخله عجينة الذي نطلق عليه لبّة الرغيف، المهم يجمع الأذكياء والمهرة يومياً لبة الخبز الداخلية، ويدورون يجمعونها ممن يتبرع بها من المساجين، حتي يصبح لديهم كرة لا بأس بها يجلسون ليصنعوا منها قطع شطرنج خبزي، يبدأون أولاً بصنع الملك والوزير أي القطع الكبيرة وفي الأيام التالية يصنعون الطابيات والعساكر أو البيادق حتي يتم لهم صنع القطع كاملة، وهم ليسوا في حاجة إلي صنع رقعة الشطرنج الأسود والأبيض حيث لا ورق ولا ألوان، يكفي أن ينتزع أحدهم قطعة جبس أو أسمنت أبيض من ركن جدار ليرسموا الرقعة علي أسفلت الزنزانة أو العنبر ويظلّل بالأبيض «خانات» القطع السوداء، كما يحرقون بعض أعواد الحطب الرفيعة وأعواد الشجرة اليتيمة في فناء السجن، ويصبغون بالرماد القطع التي يوهمون أنفسهم أنها سوداء، هكذا يبحث السجين عن طرق قتل الوقت، وليس الجميع يعرفون لعب الشطرنج، فتري لاعب الورق الجالس بمفرده ليلعب بالورق لعبة «الباصيانس» أي الصبر، وهي لعبة تليق جداً بالسجين حيث لا يكون في حاجة للاعب يشاركه، فقط يفرش الأرض أو البطانية المفرودة بأوراق اللعب، ويستغرق في لعبة «الصبر» الذي هو زاد السجين وقاتله، فمن تفلت منه مفاتيح الصبر في السجن ينهار، وتصبح كل دقيقة تمر عليه كأنها يوم كامل، يثقل السجن كاهله ويحوله إلي خرقة رثة ويضيع ضياعاً كاملاً.
أما لاعبو الشطرنج فهم طبقة أو فئة «الإيليت» أبناء المستريحين الذين أتيح لهم التنعم والتعلم الهادئ للعبة الخاصة، فأنت لا تري في المقاهي العادية سوي «الدومينو» و«الطاولة»، أما الشطرنج فهي اللعبة التي لا تخرج من البيت سوي في الرحلات أو المصايف، ويصبح هذا الشطرنج القبيح جميلاً جداً وشديد الأهمية، مدفعاً يُقتل به الوقت الذي لا ينتهي عند السجين مهما كانت تهمته!!
وكأن إدارة السجن تعرف احتياج المساجين للشطرنج، لذلك فهي لا تنضج الخبز تماماً، بل تتركه ثقيلاً لتفيد به من سوف يصنع شطرنجه من لبابته، وعسي أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم..!!
ودائماً سوف تظل عبقرية الإنسان تنتج وسائل مقاومة السجن لأن أساس وجوهر الحياة هو الحرية لذلك يبحثون عن وسائل تحقق لهم الحرية في ذلك المكان الذي وظيفته السرية والمعلنة هي قتل الحرية إن حقاً أو باطلاً..!!
هذا هو السجن الذي عرفناه في زمننا، أما سجن هذه الأيام، فالسجين قادر الآن علي جلب كل ما يحتاج إليه، من الثلاجة للزوجة، أما نحن فقد اعتقلنا لمدة ستة أشهر لم يعرف أهلونا أصلاً أين نحن، وكان ممنوعاً علينا اقتناء قلم أو ورق، ولم نقرأ صحفاً أو كتاباً طوال تلك المدة، وكنت أتعجب للسجين المحترف «محمد بدر» الذي كان عاملاً في شركة النحاس بالاسكندرية والذي صادق السجون وصادقته مراراً وطويلاً، كنت أتعجب كيف هرّب أوراق لعبه، وكيف في كل تفتيش لم يكن أحد بقادر علي اكتشافها ليعود ليمارس بها لعبته المفضلة «الباصيانس» أي الصبر الذي كان دائماً زاده في رحلة السجون الطويلة المريرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.