أسعار اللحوم اليوم الاثنين 17-6-2024 في الأسواق    أسعار الذهب اليوم الاثنين 17-6-2024 في مصر.. كم يسجل عيار 21 الآن؟    «خطوة بخطوة».. طرق شحن عداد الكهرباء الكارت بالموبايل في العيد    «القاهرة الإخبارية»: قوات الاحتلال الإسرائيلي تقصف جنوب غزة    7 معلومات عن الطيار حسن عدس المتوفى بعد الهبوط في جدة.. «مكملش 40 سنة وغير متزوج»    فيلم عصابة الماكس يحتل المركز الثالث في السينما بإيرادات مليون جنيه    دعاء طواف الوداع: «اللهم إن كنت رضيت عنِّي فازدد عنِّي رضا»    محافظ أسوان يتفقد المطعم السياحي متعدد الأغراض بعد التطوير    الخارجية الإيرانية: بيان الترويكا الأوروبية بشأن البرنامج النووي الإيراني لا قيمة له    جندي إسرائيلي يتخلص من حياته بعد عودته من الحرب في غزة    إعلام فلسطيني: طائرات الاحتلال تشن غارة عنيفة على وسط غزة    حسم موقف سيرجو روبيرتو من الرحيل عن برشلونة    بعد قرار كولر.. الأهلي يفتح باب الرحيل أمام أليو ديانج للدوري السعودي    استقرار أسعار الفاكهة بسوق العبور اليوم 17 يونيه    «الأرصاد»: انخفاض في درجات الحرارة.. العظمى على القاهرة 37    ملفوف في سجادة.. تفاصيل العثور على جثة شاب مقتولًا في البدرشين    انتقاما منه.. تفاصيل إضرام سيدة النيران في شقة زوجها لزواجه في الوراق    ثاني أيام العيد.. سيولة بميادين القاهرة والجيزة    إصابة عامل بحروق أثناء تنظيف المنزل بمادة بترولية بجرجا فى سوهاج    جهاز تعمير وسط وشمال الصعيد يتولى تنفيذ 1384 مشروعًا بالمبادرة الرئاسية "حياة كريمة"    اليوم.. قصور الثقافة تستعيد ذكريات الثمانينيات والتسعينيات في حفلات مجانية بالسامر والقناطر    إعلام فلسطينى: قصف إسرائيلى يستهدف المناطق الجنوبية لمدينة غزة    «المالية»: تخفيف الأعباء الضريبية عن محدودي ومتوسطي الدخل    ما حكم ذبح الأضحية ليلًا في أيام التشريق؟    «المحلاوي» عن يوم «القر».. من أعظم أيام الله ويستجاب فيه الدعاء (تفاصيل)    جامعة القاهرة تستقبل 3079 حالة طوارئ وتُجري 371 عملية خلال عطلة العيد    الخشت يتلقى تقريرًا حول أقسام الطوارئ بمستشفيات قصر العيني خلال العيد    فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيراد يومي في تاريخ السينما المصرية    الجونة يستضيف البنك الأهلي لمداواة جراحه بالدوري    مواعيد مباريات اليوم الاثنين 17 - 6 - 2024 والقنوات الناقلة    تشكيل الزمالك المتوقع أمام المصري في الدوري    مصادر فلسطينية: القوات الإسرائيلية تقتحم مخيم عقبة جبر في أريحا ومدينة قلقيلية    تشكيل الإسماعيلي المتوقع ضد إنبي في الدوري المصري    فرنسا ومبابي في اختبار صعب أمام النمسا في مستهل مشوار يورو 2024    الدولار يسجل 47.75.. أسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه اليوم    زلزال بقوة 6.3 درجة يضرب جنوب البيرو    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. ثاني أيام عيد الأضحى 2024    المنيا تسجل حالة وفاه جديدة لحجاج بيت الله الحرام    بينها دولتان عربيتان.. 9 دول إسلامية تحتفل بأول أيام عيد الأضحى اليوم    حكم الشرع في زيارة المقابر يوم العيد.. دار الإفتاء تجيب    بعد إثارته للجدل بسبب مشاركته في مسلسل إسرائيلي.. من هو الممثل المصري مايكل إسكندر؟    مصطفى بكري يكشف سبب تشكيل مصطفى مدبولي للحكومة الجديدة    "تهنئة صلاح وظهور لاعبي بيراميدز".. كيف احتفل نجوم الكرة بعيد الأضحى؟    «زي النهارده».. وفاة إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوى 17 يونيو 1998    عيد الأضحى: لماذا يُضحى بالحيوانات في الدين؟    حظك اليوم برج الجوزاء الاثنين 17-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    الكنيسة الكاثوليكية تختتم اليوم الأول من المؤتمر التكويني الإيبارشي الخامس.. صور    انخفاض أعداد الموقعين على بيان مؤتمر أوكرانيا الختامي ل82 دولة ومنظمة    أجهزة مراقبة نسبة السكر في الدم الجديدة.. ماذا نعرف عنها؟    كيف يمكن التعامل مع موجات الحر المتكررة؟    القافلة الطبية «راعي مصر» تصل القنطرة شرق بالإسماعيلية    وزير الداخلية السعودي يقف على سير العمل بمستشفى قوى الأمن بمكة ويزور عدداً من المرضى    الأنبا ماركوس يدشن كنيسة ويطيب رفات الشهيد أبسخيرون بدمياط    وفاة خامس حالة من حجاج الفيوم أثناء طواف الإفاضة    المحامين تزف بشرى سارة لأعضائها بمناسبة عيد الأضحى    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج جورجيا بتجارة القاهرة    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    بالسيلفي.. المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى عقب الانتهاء من الصلاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
هكذا ولدتُ


الأبنودى
وحين يقترب الشتاء، أكمش كحيوانات البيات الشتوي
«أقنفد» تحت أغطيتي وأصبح قطعة من حطب يابس
كان الوالد معلم اللغة العربية قد عين في قرية «نقادة» في ذلك الوقت، والتي تقع غرب مدينة «قوص» علي شاطيء النهر.
كانت «نقادة» أنموذجاً لتزاوج وتمازج الحضارات الثلاث: الفرعونية والقبطية والإسلامية تحتل بردياتها وأوانيها وتماثيلها وأكفانها أجنحة مرموقة في المتحف البريطاني ومتحف اللوفر الفرنسي.. لم أكن أعلم شيئاً عن كل ذلك فقد كنت في بطن أمي التي رافقت زوجها معلم العربية والدين بمدرسة «الأقباط» بنقادة لفترة محدودة لأول سَفرة إلي خارج «أبنود»، ولأول مرة في ولاداتها العديدة تخطيء «فاطنة قنديل» في حساب مدة الحمل. ربما لأنها كانت بعيدة عن الحصيفة الحكيمة أمها «ست أبوها».. لذلك فقد فاجأتهما برغبتي الملحة في الخروج إلي الضوء ووضعتهما في مأزق من الصعب تفسير حرجه أو شرح جوانب قسوته علي رجل الدين المعلم والمرأة القروية الخجولة في بلدة غريبة لن تكشف عن جسدها أمام عيون نسائه الغريبات حتي لو ماتت في مخاضها.
ارتبك الرجل الشيخ وراحت شفاهه ترتعش محوقلة مبسملة وهو يكتب عذر الاجازة للمدرسة ويلملم امواله في البيت المكتَرَي وهو يتهيأ معها للرحيل العاجل من «نقادة» إلي «أبنود» إذ لابد أن أولد في نفس المكان الذي ولد فيه جميع اخوتي في بيت «قنديل» و «ست أبوها» في قلب أبنود . كان يعتقد أنه من العار أن تلدني أمي في بلدة غريبة.
هكذا لفت «فاطنة قنديل» ملاءتها السوداء حول رأسها وبطنها المتكور، واتجهت ثقيلة موجوعة إلي شاطيء النهر مع رجلها تاركين خلفهما القرية ذات الطابع القبطي المتخصصة في نسج «الفِرْكَة» الحريرية التي كانت ترتديها معظم النساء في السودان، وأنوال النسيج التي تطل عليك من مداخل الدور وتلك الحبال القوية الممتدة من نخلة إلي نخلة ينشرون عليها الحرير الطبيعي الذي صبغوه في مصابغهم البدائية بطريقة عبقرية متوارثة جيلاً بعد جيل منذ عوالم وأجواء أجدادنا القدماء!!.
دعونا من كل ذلك ولنتتبع ظلي سيدنا «إبراهيم» وستنا «هاجر» في رحلتهما المدهشة لإنجاب سيدنا «إسماعيل»، فأنا لم أكن «سيدنا إسماعيل» ولم تكن «فاطنة قنديل» ستنا «هاجر» ولا كان «الشيخ محمود الأبنودي» سيدنا «إبراهيم» لقد كان علي ثلاثتنا أن نلعب أدوارنا البشرية القاسية وأن نتلقي آلامنا البشرية في ذلك الامتحان العصيب عبر تلك الرحلة لأستقر أخيراً علي أرض الوجود.
كان الطريق من أبنود إلي نقادة بالغ التعقيد رغم بساطته، إذ كان «علينا» أولاً أن نتجه إلي النهر لننتظر «الرفاص» لأنه يرفس الماء خلفه - الذي سوف يقلنا إلي «مدينة قوص» لنركب القطار.
علي «الرفاص» وفي زحام البشر والماشية والأشياء، سمع الشيخ أنيناً لم يخطر بباله أن الأنين في الزحام لزوجته بعد أن ركلتُها ركلة مؤذية، فانصرف يتأمل النهر وتقلُّب الموج «رفْص الرفاص» ويرد السلام علي من تعرفوا عليه، حين أحس بيد قوية تشد ذيل جُبته نظر فرأي «قنديلة» وقد جحظت عيناها وقفزت خارج شق الضوء من فرجة الملاءة. رأي حاجبيها وقد تقوسا لأول مرة منذ زواجهما . استمع مرة أخري إلي الأنين الذي أنكره منذ لحظات واضحاً هذه المرة فتيقن أنه صادر عنها فتلبسه الرعب.
نظر إلي الشاطيء القريب فرآه بعيداً، وكلما اقترب الصندل كان الشاطيء يبتعد متعمداً حين بلغا البر لم يعد من الممكن اخفاء الأمر.
كيف ستعبر المرأة الموثقة بملاءتها وحملها علي السقالة وفي نفس الوقت ما كان الشيخ سيسمح لرجل آخر بالمعاونة، كان علي «فاطنة» بالبطن التي تكاد تنفجر، والمكبلة بملاءتها أن تمشي كلاعب الزانة في السيرك حين يمشي علي الحبل؟
وتحير الشيخ في الطريقة الأفضل، هل يمشي أمامها علي السقالة فتمسك به أو يمشي خلفها ليلحقها إذا انزلقت القدم قبل أن تهوي إلي النهر!! كيف عبرت الأم علي هذه السقالة تحت وطأة ألم أفقدها الرؤية وأطاش صوابها بالبطن المنتفخ وجنون المخاض والصمت الإجباري لتصل إلي الأرض فتتكوم كالحيوان الذبيح تئن دون صوت أمام هذا الواقف علي رأسها يدعو الله أن يصبر عليها حتي يصل إلي الديار ويتوسل إليها أن تتحمل فتصيح منفجرة! «أكتر من كده تحمل يا شيخ محمود..؟ انت راجل ما جربتش وجع الولادة.. اسكت»، كيف صعدت كل ذلك الجسر الذي كونه الطمي عبر القرون؟ «ان لم تسكت يا شيخ محمود حادلقه هنا قدام الخلق» والرجل لا يستطيع الصمت فيعود ليشجعها علي المواصلة والتحمل ويهون عليها فكرة الوصول إلي محطة القطار وهو يعلم في قرارة نفسه أنها رحلة مستحيلة، فمن هنا للمحطة ليس أقل من نصف ساعة، وحتي إذا أخطأ القطار الذي يقف عند كل لافتة وكل طلة نخلة أو أطلال بيت فأمامه نصف ساعة أخري ليصل إلي أبنود.. قطار يمشي كأنه يعرج ونادراً ما يأتي في موعده.
من شاطيء النهر إلي محطة القطار صرفا من الوقت أكثر من ساعة، كانت «قنديلة» خلالها تتسند علي الجدران والاشجار وإذا لم تلمح أحدا في الطريق تصرخ فيجزع الشيخ خوفا من أن يأتيها الطلق في الشارع: «اتحملي يا فاطنة، اتجلدي يابوي، المحطة بانت أهه».. حين بلغت فاطنة محطة قوص كانت كأن روحها ازهقت.. أيقنت أنها في طريقها للموت، فرقدت هناك تحت شجرة لبخ غير مبالية بتوسلات الشيخ الذي كان جسده ينتفض احساساً بالعار، وخوفاً من الفضيحة.
راح يدور كالمجنون.. ذهب لقطع التذكرتين وعاد ليجدها نائمة تحت الشجرة ومغطاة بملاءتها، فيحاول هزها ليتأكد أنها لم تمت ينظر حواليه ويفعل ذلك.
غاب القطار وغاب، وغابت فاطنة قنديل عن الحياة طويلاً، ولم تعد لها الروح إلا بمجيء القطار.
في القطار لم تستطع الجلوس علي الكراسي الخشبية القاسية، فتكومت علي الأرض خلف الباب يسترها الشيخ بجبته وقفطانه الطويلين.
حين يصرخ القطار تصرخ معه، وحين يئن تئن، وتسكت موجوعة أثناء وقوفه في المحطات!!
لم يكن أحد يركب القطارات في ذلك «الزمان» إلا في أيام الأسواق أو لضرورة قصوي.. لم يكن في عربة القطار أكثر من خمسة أو ستة أشخاص.. القطار اللعين ضيع أكثر من ساعة أي ضعف الوقت ليتوقف أخيراً في أبنود حيث أنزلها الشيخ بصعوبة وكاد القطار أن يختطفها منه ويجري فقد دبت فيه الحياة فجأة.
وصلت فاطنة قنديل إلي «أبنود» وأنا في بطنها أحتج وأرفس وأولول متعجلاً الخروج من خنقة الداخل.
في «أبنود» لا يهم أن يعرف الخلق أن «قنديلة» علي وشك أن تلد لكي يقدموا يد المساعدة، فهي هنا في حوزة ورحمة أيد مدربة وغير غريبة.
جاءت الركائب وتعاون الجميع لتركب وهي بين الحياة والموت.. حين يركب الرجال الحمار، فإنهم يضعون الساقين منفرجتين كما نعرف.. رجل من هنا ورجل من هناك.
أما النساء فإنهن حين يركبن يضعن الساقين متجاورتين علي جنب واحد تركب أمي فأضغط علي بطنها لأن بطنها تضغط علي فتصرخ «نزلوني» حين تمشي خطوة مستندة علي أكتاف النسوة اللاتي تجمعن كأنما انشقت عنهن الأرض فتقف لتصرخ: «ركبوني» نزلوني، ركبوني، نزلوني، ركبوني،،،،.
ومن المحطة إلي بيت جدي حوالي ثلاثة كيلومترات، قطعها الموكب الذي تقاطر ليصبح جمعاً رهيباً، من قبل العصر إلي المغرب، فتصل إلي البيت والليل يدق أبواب أبنود.
ما ان خطت «فاطنة قنديل» لتعبر عتبة البيت حتي انزلقت منها وهي قدم خارج البيت وقدم داخله، فزغردت النسوة، وهلل الرجال متعجبين.
هكذا جئت إلي الدنيا: قدم داخل الدار مستعدة للعيش مائة سنة، وقدم أخري علي الطريق مستعدة للفرار من هذه الحياة قبل أن يتنبه إلي ذلك أحد!!.
«من كتاب أيامي الحلوة»
برد الشتا
لا أحب البرد، وليس ثمة تفاؤل بيني وبين الشتاء، فقد ولدت في منطقة حارة في جنوب الصعيد، بقرية في محافظة «قنا» اسمها «أبنود» فامتلأ جسدي بحرارة شمسها القائظة.
ما تطلقون عليه «النسيم» يكون بالنسبة لي برد أقشعر له، وحينما ترتدون قمصانكم «النص كم» أبحث أنا عن «بلوفرات» الشتاء الماضي، أنا أنتج صيفاً، يهل علي الشعر صيفاً، وحين يقترب الشتاء أكمش كحيوانات البيات الشتوي، «أقنفد» تحت أغطيتي وأصبح قطعة من حطب يابس، حين أذكر لهم أني من «قنا» يقولون: «قنا عذاب النار» صدق الله العظيم.. قلت للمذيعة: أنتم تعتقدون أن ثلاثتنا: أمل دنقل، ويحيي الطاهر، وأنا هجرنا قرانا وجئنا من أجل أن نجد مجالاً للكشف عن مواهبنا، لا، نحن جئنا هرباً من قيظ الصيف واضطررنا للكتابة حتي يصبح هناك مجرد مبرر لتواجدنا في مدينتكم!!.
ويتسلل الشتاء ببرده ومعاناتي منه في أشعاري أكثر من أمي المتيم بها، فلدي دائماً مساحة في شعري للشتاء.
لكن قريتي في مثل هذه الأيام الباردة من نهايات العام، وميلاد السيد المسيح تصبح كرنفالاً واحتفالات يومية متواصلة: فمن رعرعة أيوب، لأحد السعف الذي كنا ننسج من جريدة النخل وخوصها أشكالاً فنية رائعة.
كلها مواسم قبطية لكننا كنا نستولي عليها ونشاركهم فيها، تماماً كما كان الشباب المسلم يسافرون للاحتفال ب(العدرا) أو (مارجرجس) وكنا نحسدهم علي ذلك.
ولربما كان طقس (البلابيصا) هو أكثر الطقوس شاعرية وغموضاً ومتعة، فقد كنا نستعد له قبل (عيد الغطاس) ومن قبلنا كان (القفاصون) يستعدون أيضاً بصنع (صلبان) جريدية يثقبون أطرافه الأربعة لنغرس فيها الشموع الرفيعة الطويلة وفي قلب الصليب عود صاعد من الجريد نغرس فيه برتقالة، ثم نغرس الصليب بأكمله وبشموعه الصاعدة في عود قصب من ذلك القصب الذي اختفي لعن الله من أخفاه وبدد زراعته: القصب الأحمر، و «دراع البِسّ»، الذي يشبه ألوان يد القط : خط أحمر وخط أصفر وخط أبيض، المهم يجب أن نعرف أن القري لم تكن تعرف الكهرباء في ذلك الوقت - وفجأة، يرفع كل طفل عود القصب بصليبه المشتعل المضيء وفي قلبه البرتقالة، وندور ونحن نغني لنلتقي بأطفال الدروب الأخري إلي أن نصبح بدنا رهيباً يضيء القرية أينما سرنا، وتخرج النساء مسلمات وقبطيات يرشوننا بالفشار والحمص والبلح ويزغردن بمرح ونزق.
لم يكن أحد يفرق بين عيد مسلمين أو نصاري، كان الطقس بمجمله طقساً واحتفالية للجميع.
أهم ما في ذلك الطقس كانت أغنيته التي تنتمي إلي الشعر الحديث جداً، جمِّعت مفرداتها بحرية أشياء من أعياد المسيحيين، و«نتفا» من التاريخ، وألفاظاً سحرية تدل علي انقضاء العام الميلادي، وكان اسم هذا الطقس الشعبي القبطي «البلابيصا» وحتي وقت قريب جداً لم أكن أفهم معني للكلمة العجيبة التي يخرج منها الفعل: (بلبصي).
تقول الأغنية الفريدة:
(يا بلابيصا
بلبصي الجلبة
يا «علي» يا ابني
قوم بنا بدري
دي السنة فاتت
والمرا.. ماتت
والجمل برطع
كسر المدفع
يا بلابيصا...)
ولم أعرف معني البلابيصا وبلبصي إلا قريباً جداً، حين تذكرت أنه طقس للاحتفال بعيد «الغطاس» وفي الغطاس تعري المواليد الجدد وتغطس في الماء، ولابد أن يكون المولود بلبوصاً وربما كانت كلمة فرعونية بمعني عاري المهم أنها احتفالية ب(البلبصة) ونأتي لمعاني الأغنية.
(يا بلابيصا.. بلبصي الجلبة، أي غطسي الطفل في ماء التعميد، ثم يدخل اسم «علي» يعني لا جرجس ولا بطرس علي الرغم من مسيحية الطقس، فالأم تقول لابنها «علي» قم بنا في وقت مبكر لأن السنة ماتت ونحن علي أبواب عام جديد، والمرأة التي ماتت هي السنة الماضية، أما الجمل الذي «برطع» فكسر المدفع إنما هي صورة تاريخية تسربت من النضال ضد المحتل الفرنسي والمدافع التي سرقها المواطنون ودكوا بها معاقل وسفن الفرنسيين إبان حملة «ديزيه»!!
هذا.. واقتراب عيدي الميلاد المسيحي والإسلامي وهو رمز لوحدة أبناء الوطن الواحد، تماماً مثلما فعلت أغنية (البلابيصا) القديمة.
كل عام ومصر بمسلميها ومسيحييها بخير رغما عن أنف من يحرمون مشاركاتنا والسلام علي إخوتنا ، أضف إلي ذلك أنهم حرَّموا علي المسلمين هذا العام حلاوة الاحتفال بمولد النبي الكريم «حُرْمت عليهم عيشتهم» فهم لا يستحقون الخبز الذي يطفحونه.!!
شطرنج
الثلاثاء:
في السجن الطويل سجن المثقفين أو الأفنديات حين توزع عليهم «الجراية» اليومية الخبز الذي يقتات عليه السجين يعلمهم السجن ضمن ما يعلم سجناءه كثيراً من المهارات، كيف يجمعون «لِبَّة الرغيف» وخبز السجن ثقيل أي أنه ناقص النضج في داخله عجينة الذي نطلق عليه لبّة الرغيف، المهم يجمع الأذكياء والمهرة يومياً لبة الخبز الداخلية، ويدورون يجمعونها ممن يتبرع بها من المساجين، حتي يصبح لديهم كرة لا بأس بها يجلسون ليصنعوا منها قطع شطرنج خبزي، يبدأون أولاً بصنع الملك والوزير أي القطع الكبيرة وفي الأيام التالية يصنعون الطابيات والعساكر أو البيادق حتي يتم لهم صنع القطع كاملة، وهم ليسوا في حاجة إلي صنع رقعة الشطرنج الأسود والأبيض حيث لا ورق ولا ألوان، يكفي أن ينتزع أحدهم قطعة جبس أو أسمنت أبيض من ركن جدار ليرسموا الرقعة علي أسفلت الزنزانة أو العنبر ويظلّل بالأبيض «خانات» القطع السوداء، كما يحرقون بعض أعواد الحطب الرفيعة وأعواد الشجرة اليتيمة في فناء السجن، ويصبغون بالرماد القطع التي يوهمون أنفسهم أنها سوداء، هكذا يبحث السجين عن طرق قتل الوقت، وليس الجميع يعرفون لعب الشطرنج، فتري لاعب الورق الجالس بمفرده ليلعب بالورق لعبة «الباصيانس» أي الصبر، وهي لعبة تليق جداً بالسجين حيث لا يكون في حاجة للاعب يشاركه، فقط يفرش الأرض أو البطانية المفرودة بأوراق اللعب، ويستغرق في لعبة «الصبر» الذي هو زاد السجين وقاتله، فمن تفلت منه مفاتيح الصبر في السجن ينهار، وتصبح كل دقيقة تمر عليه كأنها يوم كامل، يثقل السجن كاهله ويحوله إلي خرقة رثة ويضيع ضياعاً كاملاً.
أما لاعبو الشطرنج فهم طبقة أو فئة «الإيليت» أبناء المستريحين الذين أتيح لهم التنعم والتعلم الهادئ للعبة الخاصة، فأنت لا تري في المقاهي العادية سوي «الدومينو» و«الطاولة»، أما الشطرنج فهي اللعبة التي لا تخرج من البيت سوي في الرحلات أو المصايف، ويصبح هذا الشطرنج القبيح جميلاً جداً وشديد الأهمية، مدفعاً يُقتل به الوقت الذي لا ينتهي عند السجين مهما كانت تهمته!!
وكأن إدارة السجن تعرف احتياج المساجين للشطرنج، لذلك فهي لا تنضج الخبز تماماً، بل تتركه ثقيلاً لتفيد به من سوف يصنع شطرنجه من لبابته، وعسي أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم..!!
ودائماً سوف تظل عبقرية الإنسان تنتج وسائل مقاومة السجن لأن أساس وجوهر الحياة هو الحرية لذلك يبحثون عن وسائل تحقق لهم الحرية في ذلك المكان الذي وظيفته السرية والمعلنة هي قتل الحرية إن حقاً أو باطلاً..!!
هذا هو السجن الذي عرفناه في زمننا، أما سجن هذه الأيام، فالسجين قادر الآن علي جلب كل ما يحتاج إليه، من الثلاجة للزوجة، أما نحن فقد اعتقلنا لمدة ستة أشهر لم يعرف أهلونا أصلاً أين نحن، وكان ممنوعاً علينا اقتناء قلم أو ورق، ولم نقرأ صحفاً أو كتاباً طوال تلك المدة، وكنت أتعجب للسجين المحترف «محمد بدر» الذي كان عاملاً في شركة النحاس بالاسكندرية والذي صادق السجون وصادقته مراراً وطويلاً، كنت أتعجب كيف هرّب أوراق لعبه، وكيف في كل تفتيش لم يكن أحد بقادر علي اكتشافها ليعود ليمارس بها لعبته المفضلة «الباصيانس» أي الصبر الذي كان دائماً زاده في رحلة السجون الطويلة المريرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.